اليأس : موات الذات

PDFطباعةأرسل إلى صديق

الحرية إذن جوهر الإنسان وغايته، والإثم هو ضعف الحرية. فحين يأثم الإنسان، فإنه ينهار من المرتبة الروحية العليا، ويتولاه القلق من انهيار أخطر. وأخيراً، بعد تكرار الإثم، يعتريه يأس من الصعود ثانية إلى العالم الروحي، يأس من التخلص من الضعف المستحوذ عليه، ويأس من ذاته.. فينتابه مرض يؤدي به وهو محروم من كل أمل في حياة أخرى بعد الموت.

 

وهكذا تغدو حياة اليائس حياة الموت، ويتضاعف يأسه بيأسه من الموت، إذ يتمنى الهلاك ولا ينال أمنيته.فإذا تسلط عليه هذا المرض القاتل، "هذا العذاب المتناقض، مرض الذات هذا، فهو يموت أبداً، يموت وهو مع ذلك لم يمت، وهو يعاني هلاك الموت. لأن الموت معناه أن كل شئ قد انتهى، أما هلاك الموت فمعناه أن يحيا المرء موته".

وهكذا تصبح ذاته حملاً لا يطاق، لأنه يخفق في القضاء عليها فضلاً عن أنها ليست تلك الذات التي يتمنى أن يكونها. ولذا يقول كيركجورد إن الموضوع الحقيقي لليأس هو الذات ليس إلا. فالمرء لا ييأس إلا من نفسه. ذاك هو المعنى العميق لليأس. وهناك أمثلة في الحياة اليومية تعطينا صوراً من هذا اليأس. فإن تمنى أحد أن يكون قيصراً جديداً، وأخفق في بلوغ أمنيته، فهو لا ييأس من عجزه عن أن يكون قيصراً، بل ييأس من ذاته التي ليست من أراد أن تكون. فتحول الذات الفاشلة حملاً باهظاً ييأس من التخلص منه لأنه لم يستطع أن يقضي عليها. وهكذا تيأس الفتاة من ذاتها حين تفقد حبيبها، أو عندما يخونها، لأن ذاتها التي كانت تهبها للآخر قد صارت حملاً فارغاً ليس في مقدورها التخلص منه. فإن حاولت أن تقول لها: "يا بنيتي، أنت تقضين على نفسك" لسمعت جوابها "لا، وأسفاه! فإن ألمي لهو بالذات أني لم أتوصل إلى ذلك."

تلك هي السمة الأساسية لليأس: أنه مرض الذات. وإذا لم يكن يستشعر ذلك المرض إلا قلة من الناس، فإن الكل يخفونه في أعماق الذات وهم يعتقدون أنهم أصحاء. وليس هناك ما هو أخطر من المرض الذي لا يشعر به المريض فيهمل البحث له عن دواء. واليأس هو هذا المرض الذي ينتاب الإنسان، فلا ينجو منه إلا القلة، ولكن الكثرة تقع فريسة له. فهو يستتر وراء السعادة، بل قد يتخذها مأوى له، كما أنه يتسرب إلى صميم الذات وهي خالية من الهموم، ويظهر من خلال ملذات الحياة.

أما سبب هذا اليأس الذي يعم العالم جميعاً، فهو جهل السواد الأعظم من الناس بالغايات الروحية للذات. فإذا أهمل الإنسان بعده الروحي، عرض ذاته للإصابة بهذا المرض القتال: اليأس. ذلك بأن الذات اتحاد باطني من اللامتناهي (الله) والمتناهي (الإنسان)، وجهته هي الله. فإن جهل الإنسان عنصراً من هذا الاتحاد، دب فيه الانحلال، ووافاه الهلاك، وأصبح حبيس ذات ليست هي ذاته الحقة وإن كان أراد أن يصبح تلك الذات المريضة. ومن ثم يتولاه اليأس، وكثيراً ما يشعر بيأسه لأنه يجهل ذاته. ولا يشعر بيأسه إلا من يبالي بذاته، وهو آنذاك قد بلغ مرتبة عليا من الحياة الروحية، وإن كان آثماً يائساً.

فحين تقول الفلسفة الوجودية من بعد كيركجورد إذن: "صر ذاتك" فإنها تضع في هذا الشعار مضموناً خلا من صداه الديني الذي ابتكره به كيركجورد إذ أن كيركجورد قد أهاب بكل ذات أن تصير هذا التأليف المتناسق من المتناهي واللامتناهي لكي تصل إلى الاتزان والهدوء حتى ترى خلال شفافيتها تلك القوة التي وضعتها في الوجود.

ولكن الكثرة تفشل في تحقيق الذات من جراء جهلهم بأحد عنصري التأليف المميز للذات. فالذات كالتنفس يعيش على تعاقب النفس، فإن تخلى عنها اللامتناهي أو المتناهي هلكت.

وهكذا تيأس الذات إذا ما أصبحت موجوداً واقعياً في المتناهي الذي يحدها، وانطلقت في الخيال وفشلت في تحقيق خيالها. فالخيال لا يأتيها إلا باللامتناهي، وينأى بها عن ذاتها، فتصبح حساسيتها غريبة عليها وعلى الإنسانية لا تتصل بفرد واقعي بل تتعلق بكيان تجريدي لا وجود له. وتصبح معرفته مجرد تبديد لإثمها، وإن كانت عميقة كل العمق، لا يقابلها تقدم الذات، بل يفقد الإنسان ذاته لعقم المعارف من هذا القبيل. فإذا اتجه من فقد ذاته في الخيال إلى الإله، كان مثله كمثل الثمل يثيره الفراغ، فييأس لأنه لم يجد حدود ذاته وإن كان قد انطلق بخياله في اللامتناهي.

وهو يائس أيضاً إن فقد اللامتناهي، لأنه يصبح بذاك فقيراً كل الفقر، وجوده شبيه بالعدم وقد سلبه الآخر إياه. ويحيا هذا اليائس في دوامة العالم، غافلاً عن ذاته وكيانها الإلهي، يسعده أن يكون شبيهاً بالآخرين وكأنه واحد في قطيع، وينعم بالدعة والرفاهية، خلواً من الذات تجاه الإله، سادراً في جهل يأسه.

تلك هي الحالات المختلفة التي يعتري اليأس المرء فيها دون أن يشعر بيأسه. وتمثل كل حالة منها – في نظر كيركجورد – مرضاً يصيب الذات ويختلف عن غيره، وهو ليس إلا لوناً من اليأس. فإن جهل إنسان مرضه، فإنما مرد هذا إلى جهله بكيان ذاته وأنه تأليف من اللامتناهي والمتناهي، أي تأليف من الممكن والضروري. وبالتالي يلزم عن أقوال كيرجورد هذه أنه لا مفر للإنسان من موقفه تجاه الله. فإن أخفق في تحقيق ذاته بوصفها تأليفاً من اللامتناهي والمتناهي، فقد أخفق في مهمته الأساسية وغدا آثماً يائساً. وهكذا يظهر الإثم في اتحاده باليأس، ويظهر الوجود الذاتي أساساً للإثم واليأس.

فمن أثم تجاه الله فقد أثم تجاه ذاته، والإثم علاقة بين الذات والله. وباختلاف موقف الإنسان بالنسبة إلى ذاته وبعده اللامتناهي، تختلف أنواع الإثم وبالتالي تختلف أنواع اليأس. فهو أحياناً يأبى أن يصير ذاته، لضعفه، فيحيا في النسبي قانعاً بأهداف ضحلة، حريصاً على تقاليد مفروضة عليه من خارج، فهذا الإنسان لم يرد أن يصير ذاته الحقيقية. وما أن تحيق الأحداث بحياته الرتيبة الراكدة، حتى يستشعر عدمه ويتجلى له يأسه، فيلوذ بما يعنيه على النسيان، كالخمر والشهوة الحسية والعمل المرهق. وهو أحياناً يشعر ببعده اللامتناهي فيريد أن يصير ذاته، فيواجه الإله بموقف التحدي ويثور عليه، ويطمح إلى قدرة ذاته على أن تكون خلاقة في كل أعمالها: فهو لا يعتبر اللامتناهي إلا ذاته. وسرعان ما يشعر هذا الإنسان بحدود ذاته فيصبح سجينها في رفضه الوحشي لكل عون إلهي.

بين قطب العمل وقطب المشروعات، بين الضرورة والإمكان، بين المتناهي واللامتناهي، فينأى بذاته عن الضعف والتحدي، مصدر كل يأس وموطن كل إثم.

ووجه المفارقة هنا أنه إذ يحذر الإنسان من اليأس، نراه يحثه عليه ويهيب به أن "أيأس!" ذلك بأنه يرى أن الإنسان يقرب من الإيمان بقدر ما يشتد شعوره بيأسه وإثمه. فإن أراد الإنسان أن يشفي ذاته من هذا المرض القتال فعليه أن يشعر به أولاً، وأن يصل إلى تلك الحال التي وصفناها في أول حديثنا عن اليأس، وقد رأينا الذات تريد القضاء على ذاتها لأنها آثمة وغاصت في حياة الإثم. تلك هي الذات التي ظفرت بالحياة الروحية. فهي حين يقوى شعورها بإثمها يكون مرد ذلك إلى إدراكها لوجودها تجاه الإله، فليس يأسها إلا إدراك ذاتها في كيانها الحر الحق.

وكأنما كان كيركجورد على علم بمنهج فرويد في التحليل النفسي! فإدراك أعماق الذات وحقيقتها هو الطريق الأساسي للشفاء. ولكن، ما أبعد البون بين حقيقة الذات عند كيركجورد، وحقيقتها عند فرويد. فهي عند الأول التأليف الباطن من المتناهي واللامتناهي، وهي عند الثاني في خبرات الفرد الجنسية. وما أغرب اختلاف الحقائق الإنسانية! وتتساءل: لم يختار المعالج النفسي الحقيقة الفرويدية ليتأدى بمريضه إلى إدراك أعماق ذاتها وفهمها، في حين أن يجهل الحقيقة الكيركجوردية تمام الجهل؟

لقد كان هدف كيركجورد في أعماله كلها، وفي تحليلاته لليأس بوجه خاص، هو العمل على إيقاظ الإنسان ووعيه بذاته وحقيقته الروحية التي تجمع بين المتناهي واللامتناهي، بين العمل والمثال، بين الضرورة والإمكان. وهو قد شهد الكثيرة يعيشون في الحياد بالنسبة إلى الإله وإلى الكيان الروحي للذات، فمن العسير إذن لومهم على إتيان الإثم لجدب حياتهم وجهلهم اليأس الذي يحيون فيه.

وهكذا يستحث كيركجورد الإنسان على الإثم حتى يشعر بموقفه أمام الإله وييأس من ذاته لإثمه. فإن اشتد شعوره بيأسه، فقد أصبح معداً لتقبل الإيمان فيهتدي إليه. وكأنما الأقطاب تتلاقى في فلسفة كيركجورد حتى ليغدو الآثم الأكبر هو المؤمن حقاً. وذاك هو المغزى العميق لقصة الابن الضال الذي استولى على نصيبه من الميراث الذي كان يؤول إليه بعد وفاة أبيه، فترك الدار، وانطلق يضرب في ربوع العالم مبدداً ماله في الغزل واللهو، حتى أضاع كل ما يملك، واضطر إلى احتراف أعمال مهنية كرعي الخنازير ليتكسب ما يقيم أوده. وتدفعه الآلام إلى اليأس حتى يحن إلى ما كان ينعم به من رغد وسعادة في بيت أبيه، فيعود إليه ويستغفره. ثم تتولاه الدهشة إذ يلقى أباه قد أقام على انتظاره طول رحلته الضالة، ويلقاه بمحبة ضاعفها طول فراقه إياه، فيقيم مأدبة حافلة وينحر العجل السمين حتى تفيض قلوب إخوته غيرة، إذ هم قد لبثوا طوال هذه الفترة في خدمتهم أباهم ورعاية أمواله، فإذا هو يُؤثر عليهم الابن الضال ويستقبله وكأنه ملك البيت. لقد فاتهم أن الأب لا يشعر بأبوته إلا حين يضل أحد أبنائه ثم ينيب إليه. وذاك شعور الإله تجاه الإنسان. فالاستقامة بعد الضلال خير من سلوك من يعتقد أنه خلا إلا من الفضائل، وأن حياته لم تنطو إلى على خير العمل. الأول يشعر بعدمه لضلاله وإثمه، في حين أن الثاني يفيض غروراً لفضيلته وثقته بالثواب الجدير به في الحياة الأخرى، فمثله كمثل إخوة الابن الضال يؤمنون بأنهم خير الناس وأن من حقهم أن يختارهم الإله دون سواهم. وسرعان ما تغدو هذه الذات المعتزة بقيمتها عابدة لذاتها لا للإله، على نقيض الابن الضال والآثم يستشعران العدم من جراء الإثم والضلال. ومن ثم فإن ما يميز المؤمن لهو وجود تلك "الشوكة في الجسد" التي أشار إليها بولس. يميزه الإثم لأنه هو الذي يفتح عينيه على الهوة الفاصلة بينه وبين الإله، حتى ينظر إليه بخشية وارتعاش، ويتخذ من موقفه من الإله مغزى حياته. ولذا تنتهي أسطورة الابن الضال بهذه العبارة: إنه عاد إلى نفسه. ذلك بأن الضلال قد أعانه على معرفة ذاته وكيانها: فهو لم يعد إلى بيت أبيه فحسب، بل عاد أيضاً إلى ذاته.

 

سورين كيركجارد

(ترجمة وتعليق: د. فوزية ميخائيل)

عن كتاب: Traité du désespoir

Facebook

Twitter

Facebook

YouTube