ضريبة الحب

PDFطباعةأرسل إلى صديق

تدحرج المِزلاج الصَدِئ الذي يُوصِد بوابة السجن على الفتيات، وجاءهم صوتٌ أجش يُلقي عليهم بالقصاص ويُنبئهم بموعد الجلدات.

تجرّعت الفتيات المسيحيّات الحُكم بقلوبٍ هادئةٍ وكأنّه كأسُ سمٍّ قد ارتسمت عليه علامة الصليب فانتُزِعَ منه الأذَى. بينما سَمِعَت سارة بالقصاص فبدأت تبكي وتنتحب وكأنّها تستعطفُ الأقدار لتتركها وترفع عن كاهِلها لعنات الماضي. فما كان من ماريا إلاّ أنْ توجّهت نحوها واحتضنتها بقوّةٍ وهي تقول: لا تخافي فنحن معك.

 

بدت على وجه سارة نظرة حائرة ولكنّها استسلمت لحضنها الدافِئ بالحبّ الذي حُرِمَت منه منذ زمنٍ بعيد ..

اقتاد الجنود الفتيات إلى الملعب حيث الحشود مُجتمعة. فقد كان اليوم ذكرى ميلاد الإمبراطور وكانت تجري الاحتفالات في المدينة. بدأت الألعاب في الملعب بإعلان ذكرى مولد الإمبراطور الأعظم، وسط تهليل وتصفيق المجتمعين. دخلت فرق العدو والمصارعة للنزال وحصد المكافآت. لم تكن تلك الألعاب لتستهوي الجموع الذين أرادوا إثارة الدماء، فقد درجت العادة على أنْ يُعَاقب بعض المُجرمين وسط الألعاب لإضفاء الإثارة. نَزَلَ أحد المُدانين (كان قد قام بقتل ثلاثة من الجنود الرومان) وهو يحمل خنجرًا في يده بينما حاصره عشرة جنودٍ عليه نزالهم، وقد باءت مُحاولاته بالفشلِ فكانت ضرباته العفويّة تُقابَل بطعناتٍ من سيوفهم، وكانت الدماء تسيل منه بغزارةٍ وهو لا يقوى على الوقوف على قدميه، حتّى ضربه أحدهم بسيفه ضربةً أودت بحياته وسط صيحات وهتاف الجموع. لم تكُن الجموع ترتاع أمام موت هؤلاء المُدانين، فموتهم ليس سوى سفكٍ لدماءٍ رخيصةٍ تجري في عروق العامّة والدهماء كما قال المؤرِّخ تاسيتس من قبل.

أخرجوا جسده بينما دخلت الفتيات ليُلاقين القصاص على مرأى ومشهد من الجموع. قرأ جندي ذو صوتٌ جهوري أسباب العقاب.

تهيّأ الجنود للجلدِ بأنْ لوّحوا بسياطِهم يمينًا ويسارًا فأصدرت صفيرًا وكأنّه أنين الهواء. أوثقوا الفتيات، كلٌّ منهم على خشبتين متقاطعتين وبدأ الجلد ..

كانت سارة تبكي وتصرخ من فرط الألم؛ آلامها لم تكن من لسعات السياط فقط، ولكن من قسوةِ الحياة عليها ..

وفي المقابل كانت الفتيات المسيحيّات يتلقين الجلدات بتأوّهاتٍ مكبوتةٍ ولكنّ الإنهاك والألم بدا على وجوههن. نجحن في الحفاظ على رباطة الجأش ورسمن ابتسامة على ثغرهن بَدَت مُحيّرة للجموع التي كانت تهتف لتُحمِّس الجنود المُوكلين بالجلدِ.

كان الجنودُ أشبه بكواسرٍ انقضّت على فريسةٍ، وأنيابها هي السياطُ الذي تمزّق به ظهور الخراف الوديعة. كانت تنتفض ظهور الفتيات كما لطفلٍ لَسَبه عقربٍ على حين غرّةٍ.

وبالرغم من كون ماريا هي الصغرى، حتّى إنّ أخواتها كُنّ يخفن عليها بسبب جسدها الضعيف، إلاّ أنّها أبدت ثباتًا مُنقطِع النظير أمام وحشيّة الجلدات .. كانت تستجمع قواها لتنظر إلى سارة لتُهدّئ من روعها وتحاول أنْ تصرف تركيزها عن آلام الجسد ..

كانت روحامه تقف بين الجموع مكلومة القلب وهي ترى ابنتها تلقَى هذا العذاب دون سببٍ أو جريرةٍ سوى الحفاظ على عفّتها. لم تُسمَع تأوهاتها وسط صيحات الجموع الوثنيّة الهائجة المُتعطّشة للدماء .. فضجيج العالم القاسي أعلى دائمًا من تأوّهات القلوب المنكسرة.

كان المسيحيّون واقفون وهم يُصلّون بأنْ يُعطي الربُّ القوةَ والعونَ للفتيات لتحمُّل آلامات السياط. كانت دموعهم السخينة لا تُلاقي شطوطًا على وجناتهم، بينما كلمات الكاهن كانت تتردّد في عقولهن:

إنْ ضُرِبَت ميلانيه تأوّهنا نحن، وإنْ توجّعت إيلارية بكينا نحن، وإنْ جُرحَت ماريا طـُعنـّا نحن ..

كُنّ يشعرن بالجلداتِ تحفرُ أخاديدَ في قلوبِهم، ولكنّ الرجاء كان يُحوّلها إلى أودية خصبة يرعَى فيها الروح ليُثمر فرحًا وسلامًا ومعاينةً لجمال المجد الإلهي.

أنهَى الجنودُ الجلدَ على أحسن ما يكون، تاركين بركةً من الدماء حول الفتيات. أخرجوهن إلى الخارج وطرحوهن على قارعة الطريق.

قَفَزَت جموع المسيحيّين يحملون الفتيات بهدوءٍ ورفقٍ وكأنّهم يتبرّكون من جراحاتهم، وفي المقابل لم تجد روحامه مَنْ يحمل معها سارة التي غابت عن الوعي.

أشارت ماريا بيدها المُنهكة إلى سارة، فوجّهت أعين الجموع إليها. قام جمعٌ منهم بحمل سارة وسط دموع الأم.

وفي الليل، اجتمع الكثيرُ من المسيحيّين الحاملين شموعًا، حول الأَسرّة التي كانت ترقد عليها الفتيات وسارة بجانبهن، وكأنّهم يستلهمون منهن إيمانًا، ويعاينون في وجوههن قبسًا من مواطني العالم الآخر. كانت الفتيات تجسيدًا حيًّا لذكريات الإيمان في تاريخ الكنيسة القريب. سَهَرَ الجميعُ على راحتهن بعد أنْ عَصَبن جروحهن الغائرة وأطعموهن قليلاً من الحساء ليتشدّدن بعد الصراع مع عماليق ..

انطفأت السُرُج ليخلدن إلى النوم بعد يومٍ عاصف.

خرجت روحامه إلى خارج الغرفة. ذهبت لتشكر الجميع على ما أبدوه من رحمةٍ ورأفةٍ تجاه سارة. كانت الدموع تخنق الكلمات فلا تستطيع تمييزها. طمأنها الجميع بأنّ سارة ستلقَى نفس العناية والرعاية كالفتيات المسيحيّات. همّت روحامه بالرحيل، فسألوها أين تقطن؟ فأجابت أنّها ستذهب لتبيت ليلتها على أرصفة الأجورا حتّى الصباح ثمّ تعود لتطمئن على سارة. إلاّ أنّهم هيّأوا لها مكانًا للمبيت وألّحوا عليها حتّى قَبِلَت أنْ تبيت ليلتها بجوار سارة.

على الفراش استلقت روحامه وهي تُصلّي قائلة:

أيّها السيّد الربّ، هل تعاقب ابنتي بسبب خطيئتي؟

وهل تفتقد ذنوبي في وحيدتي؟؟

وهلّ من رحمةٍ وغفرانٍ لمَنْ هي مثلي؟؟

كانت كلماتها مُخضّبة بدموعٍ مدرارةٍ لا تتوقّف ولا تنتهي ..

إلاّ أنّ الاستجابة كانت أقرب من طموحها ورجائها ..

رواية ليكن نور ..

 

Facebook

Twitter

Facebook

YouTube