الرئيسية اسئلة مصيرية أسئلة حول الله الآب الله بين الفلسفة والمسيحية - الباب الثاني الله ووحدانيته

الله بين الفلسفة والمسيحية - الباب الثاني الله ووحدانيته

PDFطباعةأرسل إلى صديق

فهرس المقالات
الله بين الفلسفة والمسيحية
الباب الأول الله وصفاته
الباب الثاني الله ووحدانيته
الباب الثالث مشكلات الوحدانية المجردة والوحدانية المطلقة
الباب الرابع الوحدانية الجامعة المانعة وماهيتها
جميع الصفحات
الفصل الأول
الأدلة على وحدانية الله

الترتيب الطبيعي لبحثنا هذا يلزمنا بالتحدث عن وحدانية الله قبل التحدث عن صفاته، ولكن استصوبنا أن نرجئ البحث في وحدانيته إلى هذا الباب، لاتصالها بموضوعات الأبواب التالية له إتصالاً وثيقاً وطبعاً ليس هناك اعتراض على أن اسم الله بأل التعريف يدل على أنه تعالى لا شريك له ولا نظير ولكن خشية أن يظن أحد أن هناك أكثر من إله واحد للعالم رأينا من الواجب أن نتحدث فيما يلي عن الأدلة التي تثبت وحدانية الله، وتفرده بالأزلية

1 - الأدلة العقلية

" أ " الكثرةلا توجد في الكائنات إلا حيث يوجد الضعف والانقراض فيها، ليحل واحد من أفرادها عوضاً عن المنقرِض، حفظاً لكيانها وبما أن الله أزلي أبدي، ولا يضعف أو يتغيّر على الإطلاق، فلا يمكن أن يكون هناك سواه

" ب " لو فرضنا أن هناك إلهين، لكان كلٌ منهما متحيزاً بمكان وبما أن المتحيز بمكان لا يكون أزلياً بل حادثاً، فلا يمكن أن يكون أيٌ منهما هو الله، لأن الله لا يتحيز بحيّز فلا يمكن أن يكون هناك إلا إله واحد غير متحيز بمكان وهذا الإله هو الله

" ج " ولو فرضنا أيضاً أن هناك إلهين، لكانا إما قد اتفقا على خلق العالم أو اختلفا فإن كانا قد اتفقا على أن يقوما معاً بهذه المهمة، لما كان كلٌ منهما مستقلاً في عمله وهذا يتعارض مع الألوهية، لأن من مستلزمات الألوهية الاستقلال بالعمل وإن كانا قد اتفقا على اقتسام المهمة المذكورة بينهما لكانت سلطة كل منهما محدودة وإن كانا قد اتفقا على أن أحدهما يعمل دون الآخر لكان أحدهما عاطلاً، وهذا ما يتعارض مع الألوهية كذلك، لأن من مستلزمات الألوهية الحياة والعمل أما إذا كانا قد اختلفا، لما كانت هناك وحدة أو انسجام في العالم، ولكان قد تلاشى وانعدم تبعاً لذلك منذ تأسيسه ولذلك ليس من المعقول أن يكون هناك إلا إله واحد، وهو الله

2 - الأدلة الطبيعية :

مع اختلاف النباتات بعضها عن بعض الآخر، تتحد جميعاً في الأجزاء الرئيسية الخاصة بها وإذا نظرنا إلى البشر وجدنا أنه وإن كان كل جنس منهم يختلف عن الجنس الآخر في الشكل الخارجي، إلا أنهم يتحدون في جميع الأعضاء وخصائصها وإذا نظرنا إلى المادة بصفة عامة، وجدنا أنها على اختلاف أنواعها تتحد معاً في التركيب العام لذرّاتها، فجميع الذرات " كما يقول العلماء " تشبه المجموعة الشمسية التي نعيش في نطاقها وبما أنه لا يُعقل أن تكون هناك مثل هذه الوحدة العامة بين الكائنات، إلا إذا كان الخالق لها واحداً، فلا شك أنه ليس هناك إلا إله واحد، وهو الله

3 - شهادة الفلاسفة :

شهد معظم الفلاسفة بوحدانية الله، وعدم وجود شريك له، وللاختصار نكتفي بما يأتي :

" أ " فلاسفة اليونان : قال أكسينوفان : لا يوجد إلا إله واحد وقال أيضاً : لو كان لله شريك لما استطاع أن يفعل كل ما يريد وقال مليسوس : اللامتناهي واحد فقط، إذ يمتنع أن يكون هناك شيء خارج اللامتناهي وقال أفلاطون : الله واحد لا شريك له، وإلا لحَدَّ الشريك من سلطته، التي لا يثبت له الكمال إلا إذا كانت لا حد لها وقال أرسطو : مما يدل على وحدانية الله، انتظام العالم وتناسق حركاته

" ب " فلاسفة اليهود : قال موسى بن ميمون : الله واجب الوجود بالبرهان، وهو واحد لا شريك له وقال فيلون : الله واحد لا شريك له

" ج " فلاسفة المسيحية : قال فكتور كوزان : لما كان الله غير متناهٍ، كان هو الموجود الأوحد وقال توما الأكويني : لو كان هناك إلهان لوجب أن يتمايزا فيما بينهما، فيصدق على الواحد شيء لا يصدق على الآخر، ولكان أحدهما تبعاً لذلك عادماً كمالاً، فلا يكون إلهاً وقال ترتليان : إذا لم يكن الله واحداً لا يكون هو الله، لأن الله لا يكون إلا فريداً في العظمة ولا يكون فريداً في العظمة إلا من لا مساوي له، ومن لا مساوي له لا يكون إلا واحداً مفرداً

" د " فلاسفة المسلمين : قال الفارابي : الله واحد وهو واجب الوجود " أي ليس معلولاً بعلة " وقال ابن سينا : للكون إله واحد هو علة كل مَنْ عداه وما عداه من موجودات علوية وسفلية وقال ابن مسكويه : الصانع واحد وهو واجب الوجود

وإذا رجعنا إلى الكتاب المقدس وجدناه يشهد عن وحدانية الله بكل وضوح وجلاء قال الله : أَنَا الْأَّوَلُ وَأَنَا الْآخِرُ وَلَا إِلَهَ غَيْرِي " إشعياء 44 :6 " وقال أيضاً : أَنَا أَنَا هُوَ وَلَيْسَ إِلهٌ مَعِي " تثنية 32 :39 " وقال للذين اتخذوا غيره إلهاً : أَلَيْسَ أَنَا الرَّبُّ وَلَا إِلَهَ آخَرَ غَيْرِي؟ إِلَهٌ بَارٌّ وَمُخَلِّصٌ لَيْسَ سِوَايَ " إشعياء 45 :21 " ولذلك خاطبه نحميا : أَنْتَ هُوَ الرَّبُّ وَحْدَكَ " نحميا 9 :6 " وقال موسى : الرَّبَّ هُوَ الْإِله فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَعَلَى الْأَرْضِ مِنْ أَسْفَلُ لَيْسَ سِوَاهُ " تثنية 4 :39 " وقال أيضاً : الرَّبُّ إِلهنَا رَبٌّ وَاحِدٌ " تثنية 6 :4 " وقال بولس : لنا إِلهٌ وَاحِدٌ " 1تيموثاوس 2 :5 " وقال يعقوب : اللّهَ وَاحِدٌ " يعقوب 2 :19 "
الفصل الثاني
الأدلة على عدم وجود أي تركيب في الله

تبيَّن لنا فيما سلف أن الله واحد لا شريك له ولنبيّن الآن أن وحدانيته ليست الوحدانية المركبة، مثل الوحدانية التي تتصف بها المخلوقات، بل بالوحدانية التي لا تركيب فيها على الإطلاق

1 - الأدلة العقلية

" أ " بما أن المركب من أجزاء لا يتكوّن إلا بعد وجودها " إذْ أن وجود الأجزاء يسبق وجود الكل " وبما أن الله لم يكن مسبوقاً بعدم أو وجود، لأنه هو الأزلي وحده، إذاً فهو ليس مركباً

" ب " بما أنه لا بد للمركَّب من مركِّب يضمّ أجزاءه بعضها إلى بعض حتى يصير كلاً " لأن الأجزاء لا ينضم بعضها إلى البعض الآخر دون علة " وبما أن الله لا علة له، لأنه موجود بذاته أزلاً، إذاً فهو ليس مركباً

" ج " بما أن كل مركَّب محدود بكمية أجزائه وقدرها، وبما أنه الله غير محدود، إذاً فهو ليس مركباً

شهادة الفلاسفة

شهد كل الفلاسفة الذين يؤمنون بالله، بعدم وجود أي تركيب في ذاته وللاختصار نكتفي بما يأتي :

" أ " فلاسفة اليونان : قال أكسينوفان : الله أرفع الموجودات السماوية والأرضية، وهو ليس مركباً وقال أرسطو : كل مركب صائر إلى الانحلال، ولذلك لا يكون الواحد " أي الله " إلا بسيطاً غير قابل للتجزئة

" ب " فلاسفة اليهود : قال فيلون : الله لايمكن وصفه ولا يمكن حدُّه وما لا يمكن وصفه أو حدّه يكون بسيطاً، لأن المركب يمكن وصفه وحده وقال موسى بن ميمون : يلزم من وجوب وجود الله أن يكون بسيطاً أو لا تركيب فيه

" ج " فلاسفة المسيحيين : قال أوريجانوس : يجب ألا نظن أن الله ذو جسد، إذ أنه من جميع جهاته عقل، أي أنه لا تركيب فيه بوجه من الوجوه وقال توما الأكويني : الله بسيط كل البساطة ومنّزه كل التنزيه عن أي نوع من أنواع التركيب، فهو ليس مركباً من هيولي وصورة، أو من ماهية وشخص حاصل عليها، أو من ماهية ووجود، أو من جنس وفصل، أو من جوهر وعَرَض، لأنه ليس جسماً وقال القديس أوغسطينوس : الله جوهر مجرد لا تركيب فيه

" د " فلاسفة المسلمين : قال الفارابي : الله ليس مؤلَّفاً من أي نوع من أنواع التألف الحسّي أو العقلي أو المنطقي وقال ابن سينا : الله منزّه عن التألّفات الخمسة، التي تعرض لكل من عداه وما عداه وهذه التألفات هي التألف المادي، والتألف الذهني، والتألف المنطقي، والتألف من الذات والصفات، والتألف من الماهية والوجود فهو بسيط لا تركيب فيه بوجه

وإذا رجعنا للكتاب المقدس رأينا أنه وإن كان لم ينبّر على تنزّه الله عن التركيب، كما نبّر على وحدانيته وتفرّده بالأزلية " وذلك لعدم ظهور اختلاف بين الناس من جهة عدم تركيب الله من أجزاء في العصور التي كُتب فيها " ، لكن ذُكر في سياق موضوعاته المتعددة آيات كثيرة تدل على أنه لا تركيب فيه فقد قال إن اللّهُ رُوحٌ " يوحنا 4 :24 " والقول الله روح لا يُقصَد به " كما يتبين من الآية الوارد فيها " أنه روح مثل الأرواح المخلوقة، بل يقصد به فقط أنه ليس مادياً أو مركباً أو محدوداً، وقيل عنه : غَيْرِ الْمَنْظُورِ " كولوسي 1 :15 " و لا يتحيّز بمكان " مزمور 139 :8-12 " وهذه الصفات تدل على أنه غير مركب، لأن المركب يتحيّز بحيّز، ومن الممكن أن يُدرَك أو يُرى إذ أنه محدود بحدود الأجزاء المركب منها - وأجمعت كل كتب العقائد على اختلاف مذاهب كتابها، على أن الله روح سرمدي، غير مركب أو محدود، أو متغير

مما تقدم يتبيّن لنا أن المسيحية نادت منذ نشأتها بوحدانية الله وعدم وجود تركيب فيه فإذا درسنا الكتاب المقدس وجدناه ينذر المشركين بالعذاب الأليم، ليس في الأبدية فقط بل وفي العالم الحاضر أيضاً فقد قال تعالى لهم : فَأُحَطِّمُ فَخَارَ عِزِّكُمْ، وَأُصَيِّرُ سَمَاءَكُمْ كَالْحَدِيدِ وَأَرْضَكُمْ كَالنُّحَاسِ، فَتُفْرَغُ بَاطِلاً قُوَّتُكُمْ، وَأَرْضُكُمْ لَا تُعْطِي غَلَّتَهَا,,, أُطْلِقُ عَلَيْكُمْ وُحُوشَ الْبَرِّيَّةِ فَتُعْدِمُكُمُ الْأَوْلَادَ، وَتَقْرِضُ بَهَائِمَكُمْ,,, أَجْلِبُ عَلَيْكُمْ سَيْفاً يَنْتَقِمُ نَقْمَةَ الْمِيثَاقِ " اللاويين 26 :19-26 " وقال أيضاً : وَأَمَّا الْخَائِفُونَ وَغَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالرَّجِسُونَ وَالْقَاتِلُونَ وَالزُّنَاةُ وَالسَّحَرَةُ وَعَبَدَةُ الْأَوْثَانِ وَجَمِيعُ الْكَذَبَةِ فَنَصِيبُهُمْ فِي الْبُحَيْرَةِ الْمُتَّقِدَةِ بِنَارٍ وَكِبْرِيتٍ، الَّذِي هُوَ الْمَوْتُ الثَّانِي " رؤيا 21 :8 "
الفصل الثالث
الوحدانية المجردة والوحدانية المطلقة

يؤمن فلاسفة اليونان واليهود والمسيحيين والمسلمين أن الله واحد،لكنهم يختلفون فيما بينهم من جهة نوع وحدانيته فيقول فريق منهم إنها وحدانية لا تتصف بصفة أي أنها وحدانية مجردة ويقول فريق آخر إنها وحدانية مطلقة وهذه تختلف عن تلك

فالوحدانية المجردة لا تتصف بصفة، والقائلون بها ينزّهون الله عن الاتصاف بأية صفة من صفات الكائنات، بدعوى أن ذلك يجعله محدوداً مثلها ولذلك ينفون عنه حتى الوجود، بدعوى أن الوجود صفة من صفاتها وليتمشى هذا النفي مع اعتقادهم في عظمة الله، يقولون عنه إنه فوق الوجود، وفوق العلم، وفوق الإرادة، وفوق وفوق وإن كانت صيغة هذا الوصف تبدو إيجابية، إلا أنها في الواقع سلبية وكل ما في الأمر أنها سلبية بصيغة مهذبة، إذ أن مَنْ هو فوق الوجود هو في الواقع غير موجود، لأنه خارج عن دائرة الوجود وعلى هذا النسق : من هو فوق العلم غير عالِم ومن هو فوق الإرادة غير مريد ولذلك فإن إلهاً مثل هذا لا يمكن أن يكون إلهاً حقيقياً

والوحدانية المطلقة غير مقيدة، أو هي وحدانية لا حدَّ لها، ولم تُستعمل الوحدانية المطلقة بهذا المعنى عند جميع الفلاسفة، فقد استعملها بعضهم بالمعنى الذي يُفهم من الوحدانية المجردة فنرجو ملاحظة ذلك

والقائلون بهذه الوحدانية يؤمنون أن لله وجوداً واقعياً لكنهم ينقسمون من جهة صفاته إلى فريقين : فريق ينفي عنه صفة الإرادة وبعض الصفات الأخرى، كالاختيار والعلم بالجزئيات وحجتهم في ذلك أنه إذا كان الله يريد، فإنه يريد أزلاً وإرادته أزلاً تتطلب إما وجود كائنات أزلية معه كان يريدها، أو وجود تركيب في ذاته وبما أنه لا تركيب فيه ولا شريك له، إذاً فهو لا يتصف بالإرادة ولا بالصفات الأخرى التي تتطلب في ممارستها ما تتطلبه هذه الصفة

وفريق آخر يسند إلى الله جميع صفات الكمال اللائقة به، كالإرادة والعلم والقدرة والبصر والسمع والكلام ولكن يتعذر عليه التوفيق بين إسناد هذه الصفات إلى الله أزلاً، واعتبار وحدانيته وحدانية مطلقة، لأن التوفيق بينهما محال " كما سيتبين بالتفصيل في الباب التالي "

والآن : بما أن الإيمان بالله يقتضي الاعتراف بأنه موجود بالفعل، وبما أن الموجود بالفعل يتصف بكل الصفات الإيجابية اللائقة به، فلا يُعقَل أن تكون وحدانية الله وحدانية مجردة من الصفات الإيجابية وبما أنه مع تفرّده بالأزلية وعدم وجود تركيب في ذاته، من اللائق بكماله أن تكون كل صفاته هي بالفعل أزلاً، إذاً فلا يُعقل أن تكون وحدانيته وحدانية مطلقة تتصف بصفات لم يكن لها عمل أزلاً

وإذا كان الأمر كذلك، فما نوع الوحدانية التي تليق بكماله؟

الجواب : هذه الوحدانية تسمو فوق العقل والإدراك، وليس لها نظير على الإطلاق، ولذلك نرى من الواجب قبل التحدّث عنها أن نتحدث أولاً عن الفرق بين الوحدانية الوهمية والوحدانية الحقيقية، ثم عن درجات الوحدانية الحقيقية وآراء الفلاسفة فيها، حتى يتسنى لنا إدراك شيء عن وحدانيته
الفصل الرابع
الوحدانية الحقيقية والوحدانية الوهمية

بما أن الله واحد ولا ينفي عنه الوحدانية إلا من ينكر وجوده، فإدراكنا لماهية الوحدانية يساعدنا على إدراك شيء عن وحدانيته مع العلم بأننا نقرّ أن وحدانية الله هي أدق وأسمى وحدانية في الوجود، وأنه ليس لها نظير على الإطلاق " كما سيتبين بالتفصيل في الفصل الرابع "

فما هي الوحدانية؟

الجواب : الوحدانية اسم معنى من الواحد، والواحد كما يقول الشيخ ابن الطيب : هو موجود لا يوجد فيه غيره، من حيث هو ذلك الواحد أو كما يقول ابن سينا : هو ما كان غير منقسم من الجهة التي قيل عنه إنه واحد

وما هي خصائص هذا الواحد أو مميزاته؟

للإجابة على هذا السؤال علينا أن نتأمل أولاً في الحقائق المدرَكة لدينا، لأننا لا نستطيع إدراك خصائص الواحد أو مميزاته بدونها

فلننظر إذاً إلى أي كائن من الكائنات، وليكن الإنسان مثلاً، ثم تسأل : أليس بواحد؟ الجواب : نعم هو واحد، لأنه لا يوجد فيه غيره من حيث هو ذلك الإنسان الواحد لكن هل وحدانيته هي الوحدانية غير المركبة التي تساعدنا على إدراك شيء عن وحدانية الله؟ الجواب : طبعاً كلا، لأن الإنسان مركب من روح ونفس وجسد، وجسده هذا مركب من عناصر وأجزاء والله غير مركب

ولذلك لندع الإنسان وكل الكائنات المركبة جانباً، ولنأخذ مليجراماً من أي عنصر من العناصر، وليكن الذهب النقي مثلاً فهذه الكمية شيء واحد لأنه لا يوجد فيها غيرها من حيث هي هذا الشيء الواحد لكن وإن كانت شيئاً واحداً غير مركب من أشياء غير ذاتها، إلا أنها قابلة للتجزئة، ولذلك فوحدانيتها ليست الوحدانية المحضة التي تساعدنا على إدراك شيء عن وحدانية الله، لأنه تعالى لا يتجزأ على الإطلاق فلنقسم هذه الكمية إذاً لملايين الأقسام، حتى يصبح كل قسم منها غير قابل للتجزئة، فماذا تكون النتيجة؟ الجواب : إننا نحصل على ذرّة والكلمة المعروفة عندنا بالذرة، هي في الأصل Atemno ومعناها غير القابل للانقسام أو التجزئة، لأن الذرة لا يمكن تقسيمها إلى أجزاء أصغر منها، وهي كما يقول العلماء توازي جزءاً من مائة بليون جزء، من أصغر شيء يمكن أن تراه العين البشرية أما تحطيمها فليس هو تقسيمها إلى أجزاء، بل هو ملاشاة كيانها، أو بتعبير آخر ملاشاة وحدتها لأنه بالتحطيم تفقد معظم خواصها وأهمها فالذرة إذاً هي أدق مثال يمكن أن نعرف به شيئاً عن الوحدانية غير القابلة للانقسام أو التجزئة

وما مميزات وحدانية الذرة؟

الجواب : إنها كما يقول العلماء مركبة من بروتونات ونيوترونات تدور حولها إلكترونات، أو بتعبير آخر قائمة بمميزات تنشأ بسببها نِسَب أو علاقات بينها وبين ذاتها ولذلك فإن وحدانيتها ليست أيضاً وحدانية محضة، أو وحدانية غير مركبة

مما تقدم يتبين لنا أن الوحدانية غير المركبة ليس لها وجود في العالم المادي على الإطلاق، وأن كل وحدانية، حتى وإن كانت غير قابلة للتجزئة تقوم بمميزات تنشأ بسببها نِسَب أو علاقات بينها وبين ذاتها وقد شهد بهذه الحقيقة كثير من الفلاسفة فقال فنت : الوحدة الجوهرية في كل موجود تتألف من ذرة وإرادة معاً ولعل فنت يقصد بكلمة الإرادة هنا القوة أو الطاقة أو بتعبير آخر : تقوم بمميزات تنشأ بسببها نسب أو علاقات بينها وبين ذاتها، كما قلنا وقال أرسطو : كل موجود تحدّه عشر مقولات، هي الجوهر والكمية والكيفية والإضافة والمكان والزمان والموضع والملك والفعل والانفعال وقال غيره : لكل موجود ثلاث نسب، هي الذات والصورة والقوة، أو الجوهر والشكل والنتيجة

وليست النسب أو العلاقات قاصرة على الكائنات المادية، بل إنها توجد أيضاً في الكائنات الروحية، لأننا إذا تأملنا النفس مثلاً وجدنا أنها تشتمل على مميزات أو ملكات خاصة، وهذه تنشأ بسببها علاقات بين النفس وذاتها، وهذه العلاقات هي التي تكوّن شخصية النفس التي تميزها عن غيرها من النفوس

ومع ذلك فإننا لا ننكر أن هناك وحدانية ليست قائمة بمميزات، وليست بينها وبين ذاتها نِسب أو علاقات، وهذه الوحدانية هي وحدانية النقطة الهندسية لكن هذه النقطة كما نعلم، ليست حقيقية بل وهمية وإن اتصفت بصفات، فإنها لا تتصف إلا بالصفات السلبية، الأمر الذي ينمّ عن عدم وجود كيان حقيقي لها ولذلك لا يصح اتخاذ وحدانيتها وسيلة لإدراك شيء عن وحدانية الله، أو أية وحدانية حقيقية في الوجود
الفصل الخامس
درجات الوحدانية الحقيقية

تبين لنا مما سلف، أن قيام الوحدانية بمميزات تنشأ بسببها بينها وبين ذاتها نسب أو علاقات، هو الشرط الأساسي لحقيقة وجودها، أو بالحري لصدق وحدانيتها لكن إذا تأملنا الكائنات المحيطة بنا، وجدنا أن بعضها يختلف عن البعض الآخر اختلافاً عظيماً، فهناك كائنات لا تقوم بمميزات واضحة، ولا تتميز حتى عن غيرها من فصيلتها ومن الفصائل الأخرى، فأي نوع من هذه الكائنات أرقى مكانة وأسمى وحدانية؟

للإجابة على ذلك علينا أن نتأمل أولاً كل نوع من هذه الكائنات لنعرف خصائصه ومميزاته، ولذلك نقول :

1 - إذا نظرنا لقطعة من الجماد كالحديد مثلاً، وجدنا أن لها وحدة، لأنه ليس فيها غيرها، من حيث كونها قطعة من الحديد لكن ما أتفه وحدتها هذه، وما أقل مميزاتها، لأنه ليس بينها وبين ذاتها نسب أو علاقات تجعل لها كياناً خاصاً يميزها من الناحية النوعية عن غيرها من الحديد الذي تنتمي إلى فصيلته ولذلك جرت العادة في اللغات الأوربية ألا يُنظر إلى أية قطعة من الجماد كوحدة خاصة فلا يقال في الإنجليزية مثلاً an ironأو a gold أي حديدة أو ذهبة بل يقال a piece of iron وa piece of gold أي قطعة من الحديد أو قطعة من الذهب

2 - وإذا انتقلنا لمملكة النبات ونظرنا إلى الطحلب مثلاً، وجدنا أنه لا يقوم بمميزات واضحة، لأنه لا يمكن التمييز بين كمية وأخرى منه، وبين مستعمرة وأخرى من فصيلته، إلا بالمجهر ولذلك كان الطحلب نباتاً دنيئاً " بالنسبة للنباتات الراقية " ووحدانيته تافهة أو غير ظاهرة أما إذا نظرنا إلى الأشجار فإننا نجد أن كل شجرة قائمة بمميزات واضحة، وأمكننا تبعاً لذلك أن نميز بين كل شجرة وغيرها من فصيلتها ومن الفصائل الأخرى بكل سهولة ولذلك كانت الأشجار نباتات راقية، وكانت وحدانية كل منها ظاهرة أو سامية

3 - وإذا تركنا مملكة النبات، ونظرنا إلى الأوبليا مثلاً، وجدنا أنه لا يقوم بمميزات واضحة، لأنه لا يمكن التمييز بين كمية وأخرى منه، وبين مستعمرة وأخرى من فصيلته، إلا بالمجهر ولذلك كان الأوبليا حيواناً دنيئاً ووحدانيته تافهة أو غير ظاهرة " الأوبليا حيوان بسيط من فصيلة الجوف المعويات، وهو لا يعيش إلا في البحار " أما إذا نظرنا إلى الحيوانات الكاملة فإننا نجد أن كل حيوان قائم بمميزات واضحة، وأمكننا تبعاً لذلك أن نميز بين كل حيوان وغيره من فصيلته ومن الفصائل الأخرى بكل سهولة ولذلك كانت هذه الحيوانات كائنات راقية، وكانت وحدانية كلٍ منها ظاهرة أو سامية

4 - وإذا تركنا الحيوانات ونظرنا إلى البشر وجدنا أن كل إنسان قائم بمميزات واضحة، وهذه المميزات نوعان : مادية ومعنوية فالأولى تبيّن وحدانيته الشكلية، وتميزه عن غيره من البشر من الناحية الجسدية والثانية تبيّن وحدانيته المعنوية أو بالحري شخصيته التي هي الجوهر الحقيقي لإنسانيته، وتميزه عنهم من الناحية العقلية والروحية ولذلك فإنه حتى إذا اتفق بعض الناس في المميزات الشكلية، تظل لكلٍ منهم شخصيته، أو بالحري مميزاته العقلية والروحية، التي لا يشاركه فيها غيره ولهذا السبب كانت الوحدانية الإنسانية أسمى من وحدانية أي مخلوق من المخلوقات

وقد شهد الفلاسفة أن لكل كائن مميزات تبيِّنه وتفصله عن غيره من الكائنات، وأنه كلما سمت هذه المميزات كان الكائن أقرب إلى الكمال وأقدر على الوجود فقال جون سكوت : بقدر ما يحوز الكائن من المميزات التي تعينه وتفصله عن غيره يشغل درجة عليا أو دنيا فوق سلم الوجود فالكائن الأكثر فوزاً بعوامل التعيّن هو الأعمق في الأحقية، وبالتالي هو الأقرب إلى الكمال وقال ديكارت : كلما كانت طبيعة الشيء حاصلة على حقيقة أعظم، كان أقدر على الوجود وقال ليبنتز : كلما كان إدراك الذرة واضحاً وتصويرها للكون دقيقاً كانت أكثر حيوية وأعظم نشاطاً ويزداد هذا الإدراك قوة ووضوحاً كلما صعدنا إلى الإنسان وقال رينوفييه : إذا ظهرت الحرية في كائنٍ ما، فإنه يصل بفضل ما فيه من هذه الحرية لدرجة راقية من الوجود الذاتي فما كان من قبل يمكن تمييزه عن غيره فحسب، يصبح الآن منفصلاً ومستقلاً وما كان بالأمس نفساً فحسب، يصبح اليوم فرداً وأرقى أنواع الفردية، هو الإنسان أو الشخصية الإنسانية، لأنه يتميز بمميزات عقلية وروحية، قلما يتحد معه غيره فيها

مما تقدم يتبين لنا أن لكل وحدانية حقيقية مميزات تعينها، وأن أرقى أنواع المميزات هي العقلية والروحية وهذه المميزات لا توجد إلا في أرقى الكائنات وأسماها
الفصل السادس
آراء الفلاسفة عن الوحدانية الحقيقية

بحث كثير من الفلاسفة مميزات الوحدانية الحقيقية وفيما يلي أهم آرائهم عنها :

1 - فلاسفة اليونان : قال هيرقليطس : الواحد ليس إلا كثرة توحَّدت، والكثرة ليست إلا واحداً تكثَّر وقال ديمقريطس : الجوهر الفرد لا يمكن أن يكون وحدة بمعنى الكلمة، وإن الكثرة تقوم في وحدات لا مادية " روحية " وهي محكمة، ووجودية في نفس الوقت والجوهر الفرد " كما يُستنتَج من أقوال الفلاسفة " هو الذي لا يتميز بميزة تدل على أن له كياناً حقيقياً، فهو والنقطة الهندسية سواءٌ من هذه الناحية ولذلك لا يصح أن يُقال عن الله إنه الجوهر الفرد لأن الله مع وحدانيته وعدم وجود أي تركيب فيه، له مميزات تدل على أن له تعيناً أو كياناً خاصاً وإذا كان لابد من اسم يُسمَّى به الله كجوهر، فمن الممكن أن يسمَّى الجوهر الحقيقي مع ملاحظة أنه ليس مثل الجواهر المخلوقة التي تتكون من جوهر وعرض، إذ أنه من كل نواحيه " إن جاز التعبير " هو جوهر محض، لأن جوهره وتعينه واحد، كما سيتضح بالتفصيل في الباب الرابع

وكان أفلاطون يحمل على القائلين بالوحدة المطلقة فقال : إذا كانت الكثرة تقتضي الوحدة، فالوحدة بدورها تقتضي الكثرة لأننا إذا قلنا عن الماهيات إنها وحدة ثابتة، ولم نضف إليها شيئاً من الكثرة، فإننا نسلبها الحياة والحركة و الماهيات كائنات روحية تصّوَر أفلاطون أنها موجودة منذ الأزل، واعتبرها الوجود الحقيقي للكائنات المنظورة، والمثال الذي خُلقت عليه هذه الكائنات فمثلاً كان يعتقد أن الرجولة، " أي ماهية الرجال " سابقة في وجودها للرجال، وعلى مثالها خُلقوا وهكذا الحال مع باقي الكائنات وقال أفلاطون أيضاً : كل حمل يقتضي وجود شيئين فإذا قلنا مثلاً إن الوجود واحد، فإن هذا القول نفسه غير ممكن، لأننا قلنا بصفتين : هما الوجود والوحدة فلابد من القول بالكثرة وقال أيضاً : الوجود وحدة تتضمن الكثرة، أو هو كثرة تتضمن الوحدة لكن ليس كثرة مطلقة، وإلا لما أمكن العلم كما أنه ليس وحدة مطلقة، وإلا لما أمكن الحمل وليست مسألة الكثرة خاصة بالمحسوسات أو الوجود المحس فحسب، بل إنها أيضاً تتعلق بالوجود غير المحسوس أو وجود الماهيات علماً بأن أفلاطون، وبعض الفلاسفة الآخرين المذكورين في هذا الفصل يردّون على القائلين بوحدة الوجود، ولكن يُستنتَج أيضاً من أقوالهم، أنهم يرون أن كل وحدة قائمة بكثرة، وأنه ليست هناك وحدة حقيقية لا كثرة فيها

وقال أرسطو : لا يُستثنى من الكائنات إلا الجوهر الفرد أي أن الجوهر الفرد لا يُعتبر كائناً من الكائنات الحقيقية، لأنه لا يتميز بميزة تدل على أن له كياناً خاصاً وقال أيضاً : إن شيئاً واحداً بعينه، يمكن تماماً أن يكون واحداً وكثيراً أي لا يمكن الفصل بين الوحدة والكثرة فيه

2 - فلاسفة اليهود : يُستنتج من أقوال فيلون وموسى بن ميمون وغيرهما من فلاسفة اليهود، أن كل وحدانية " مهما كانت دقتها " لها صفات خاصة، واتّصاف الوحدانية بصفات خاصة هو شمولها على كثرة من نوع ما

3 - فلاسفة المسيحيين : قال هيجل : ليس الكثير والواحد طرفين متناقضين كما يُرى، بل هما وجهان لحقيقة واحدة يلتقيان في نهاية الأمر، لو أنك سَمْوت بتفكيرك إلى مرتبة فوق المستوى الضيّق المعهود فالكمية في معناها الصحيح هي كثير في واحد وواحد في كثير، ومن الخطأ أن تحاول التفريق بين هذين الوجهين فلن تجد واحداً لا يتكون من وحدات كثيرة، ولن تجد وحدات لا تأتلف في واحد ولو حاولت ذلك، لكنت كمن يريد أن يظفر بعصا لها طرف واحد

وقال هبهوس : لا غنى للوحدة عن كثرتها ولا غنى للكثرة عن وحدتها وقال ليبنتز : الوحدة ليست خالية أو مجردة، وإلا ما تميزت عن غيرها وقال بربراند : كل كلمة في الوجود تدل على شيء كلي أو جامع وقال رسل : لا يتعارض مذهب الوحدة مع مذهب الكثرة، فإن الوحدة هي وحدة في الكيف، على حين أن الكثرة هي كثرة في الجوهر

4 - فلاسفة المسلمين : قال ابن سينا : لا وجود للجوهر الفرد وقال أيضاً : الجوهر النفيس " أي الجوهر الحقيقي " مكوَّن من هيولي وصورة وقال غيره : قيام الشيء بذاته لا بد له من جزئين أو ثلاثة أجزاء، أو ثمانية أجزاء وقال الإمام الشيخ محمد عبده : الجوهر الفرد الذي لا يقبل القسمة فعلاً ولا عقلاً ولا وهماً، لا حقيقة له ومعنى ذلك أن كل جوهر حقيقي قائم بكثرة بأي وجه من الوجوه

هذه هي آراء الفلاسفة والعلماء في الوحدانية ومنها يتبيّن أنهم يرون أن كل وحدانية في الوجود سواء كانت مادية أو روحية، هي وحدانية قائمة بكثرة - أو بتعبير آخر بمميّزات تظهر حقيقتها أو بالأحرى وحدانيتها، وتجعل بينها وبين ذاتها نسباً أو علاقات وأنه إذا شذَّت وحدانية عن ذلك فقدت مميزات الوحدانية الحقيقية، وكانت وحدانية وهمية لا وجود لها في عالم الحقيقة إطلاقاً، مثلها في ذلك مثل النقطة الهندسية تماماً وآراؤهم تتفق مع الحقائق المدركة لنا كل الاتفاق
الفصل السابع
الوحدانية اللائقة بالله،
أو الوحدانية الجامعة المانعة

انتهينا إلى أن كل وحدانية، مادية كانت أو روحية، تقوم بمميزات تنشأ بينها وبين ذاتها نِسَب أو علاقات، وأن هذه المميزات هي التي تبيّن حقيقة وحدانيتها فإذا كان الله واحداً قائماً بذاته، ألا يكون أيضاً متميزاً بمميزات خاصة، تدل على حقيقة وحدانيته، وتنشأ أيضاً بسببها علاقات بينه وبين ذاته؟ أو بتعبير أدق، ألا تكون ذاته عينها مع وحدانيتها وعدم وجود أي تركيب فيها، تتميز بمميزات خاصة، تنشأ بسببها علاقات بينها وبين نفسها؟

الجواب : طبعاً نعم، لأن هذا هو ما يتوافق مع الحقيقة كل التوافق كما اتضح لنا، وكما سيتضح بأكثر تفصيل مما يلي

الأدلة على أن وحدانية الله تتميز بمميّزات خاصة

1 - لله " كما ذكرنا في الباب الأول " تعيّن خاص وكل كائن له تعين خاص له مميزات تبين حقيقته فمن المؤكد أن تكون لله مميزات " أو بتعبير أدق، أن يكون هو بذاته متميزاً بمميزات " تبيّن حقيقته

2 - بما أن صفات الله لم تكن عاطلة أزلاً ثم صارت عاملة عندما خلق، بل كانت عاملة أزلاً قبل وجود أي كائن من الكائنات " لأن هذا ما يتناسب مع ثباته وعدم تعرضه للتغير، كما ذكرنا في الفصل الثالث من هذا الباب "

وبما أنه لا يُعقل أنه كان يمارس صفاته في الأزل مع غيره، لأنه لا شريك له ولا يعقل أنه كان يمارسها مع جزء من ذاته لأنه لا تركيب فيه إذاً لا شك أنه كان يمارسها بينه وبين ذاته نفسها

وإذا كان الأمر كذلك كانت ذاته مع وحدانيتها وعدم وجود تركيب فيها متميزة بمميزات متكاملة، تجعل ممارسته لهذه الصفات بينه وبين ذاته أزلاً أمراً عملياً حقيقياً، لأنه لا سبيل لممارسة الصفات بين كائن وذاته إلا إذ كان متميزاً بمميزات خاصة

ولإيضاح ذلك نقول إن صفة العدالة مثلاً تدل " كما يقول أفلاطون " على التعادل، والتعادل في الكائن الفرد معناه التوافق والانسجام ولذلك فاتّصاف الله بالعدالة أزلاً يدل على وجود توافق أو انسجام بينهوبين ذاته ووجود توافق أو انسجام بينه وبين ذاته يدل على وجود علاقات بينه وبين ذاته كما أن صفة المحبة تدل على وجود روابط طيبة بين اثنين على الأقل، أحدهما محب والآخر محبوب ولذلك فاتّصاف الله بالمحبة أزلاً، يدل على وجود علاقات خاصة بينه وبين ذاته وهكذا الحال مع باقي الصفات فإذا تأملنا في اتّصاف الله بها أزلاً وجدنا أنها تدل على وجود علاقات بينه وبين ذاته وطبعاً لا مجال لوجود علاقات للهبينه وبين ذاته، إلا إذا كان متميزاً بمميزات خاصة يمكن أن تنشأ بسببها هذه العلاقات

3 - لو فرضنا أن الله لم تكن له علاقة بينه وبين ذاته أزلاً، وقلنا إن له علاقة بالعالم لأنه خالقه والمعتني به، لكانت النتيجة الحتمية لذلك أنه دخل في علاقة لم يكن لها أساس في ذاته أزلاً، فيكون قد تطّور وتغيّر! وبما أنه لا يتطور ولا يتغير، إذاً لا مفر من التسليم بأن له علاقة أزلية بينه وبين ذاته وبما أن الأمر كذلك إذاً فهو يتميز بمميزات خاصة يمكن بسببها أن تنشأ هذه العلاقة كما ذكرنا آنفاً

4 - هذا وقد شهد كثير من الفلاسفة بوجود علاقات لله بينه وبين ذاته قال تيلور : الحياة الإلهية في جوهرها هي فعل اتصال بين الذات والذات أي أن بينها وبين نفسها علاقات وقال ليبنتز : العلاقات التي ندركها بين الظواهر المختلفة في العالم الخارجي هي نتيجة لتدبير قديم يُطلق عليه الانسجام الأزلي ولا انسجام إلا إذا كانت هناك علاقات وقال محيي بن العربي : الذات لو تعرَّت عن النِّسب، لم تكن إلهاً وبما أن الله ذات إذاً فهو يتميز بنِسَب أو بتعبير آخر بعلاقات وقال أحد فلاسفة الفرس المسلمين : الوحدانية الإلهية تتضمن نسب الوحدانية وعلاقاتها ووجود نسب أو علاقات في الوحدانية الإلهية دليل على أنها تتميز بمميزات خاصة، تنشأ بسببها هذه النسب أو العلاقات كما قلنا فيما سلف

ويبدو لي أن ابن العربي قد استعمل كلمة النِّسب بالمعنى الذي استعملنا به كلمة العلاقات ولكن منعاً من حدوث لَبْس في فهم معاني الألفاظ، استصوبنا أن نستعمل كلمة النسب فيما يختص بالجماد، وكلمة العلاقات فيما يختص بالأحياء

والآن بما أن الله مع وحدانيته وعدم وجود تركيب في ذاته يتميّز بمميزات خاصة، إذاً فهذه المميزات لا يمكن أن تكون غير ذاته، لأنه لا شريك له ولا يمكن أن تكون عناصر أو أجزاء في ذاته، بل أن تكون هي عين ذاته، لأنه لا تركيب فيه ولا يمكن أن تكون مادية بل أن تكون روحية، لأنه لا أثر للمادة فيه ولا يمكن أن تكون محدودة بأي نوع من الحدود، بل أن تكون منزّهة عن الحدود، لأن ذاته لا يحدّها حدّ كما أن العلاقات الناشئة بسببها، لا يمكن أن تكون متوقّفة على وجود الكائنات، بل أن تكون أولاً وقبل كل شيء بينه وبين ذاته نفسها أزلاً، لأنه كامل كل الكمال منذ الأزل الذي لا بدء له، ولا يكتسب شيئاً من الأشياء، ولا يتغيّر أو يتطّور على الإطلاق

مما تقدم يتبيّن لنا أن وحدانية الله لا يمكن أن تكون وحدانية مجردة من الصفات الإيجابية، أو وحدانية مطلقة لا مجال لوجود صفاتها بالفعل أزلاً بل لابد أن تكون وحدانية تتصف بكل الصفات الإيجابية اللائقة بها، وأن تكون هذه الصفات ليس بالقوة بل بالفعل أزلاً أو بتعبير آخر لابد أن تكون وحدانية الله ذات كيان حقيقي، أو وحدانية لها مميزات خاصة بها، تنشأ بسببها بينها وبين ذاتها علاقات خاصة منذ الأزل إلى الأبد، بصَرْف النظر عن وجود المخلوقات أو عدم وجودها وإن كان لابد من اسم تسمَّى به فمن الممكن أن نسميها الوحدانية الجامعة المانعة أو الوحدانية الشاملة المانعة ، لأنها جامعة أو شاملة للمميزات المذكورة، ولأن الله بسبب هذه المميزات لم يكن يحتاج إلى شيء سوى ذاته، لوجود صفاته وعلاقاته بالفعل أزلاً ولذلك لا يُقصد بوحدانية الله الجامعة المانعة أن هناك آلهة مع الله، أو أن هناك تركيباً في ذاته، بل يُقصَد بها أن ذاته الواحدة التي لا تركيب فيها على الإطلاق، هي بنفسها جامعة مانعة، أو شاملة مانعة، أو بتعبير آخر أنها تتميز بالمميزات الروحية اللائقة بكمالها، واستغنائها عن كل شيء غيرها، منذ الأزل وإذا كان الأمر كذلك فليس في إسناد هذه الوحدانية إلى الله ما يُفهم منه أن له شريكاً أو به تركيباً
الاعتراضات والرد عليها

أما الذين لا يفهمون معنى كون وحدانية الله جامعة مانعة، ومعنى تميزه بمميزات له بها علاقات بينه وبين ذاته أزلاً، فيظنون أن تلك الوحدانية تتعارض مع عدم وجود تركيب فيه، وأن هذه العلاقات تتعارض مع تفرّده بالأزلية وفيما يلي أهم اعتراضاتهم والرد عليها :

1 - لا تقوم للعلاقات قائمة إلا بين اثنين على الأقل، والله هو الأزلي وحده فليس من المعقول أن تكون له أصلاً أو أزلاً أية علاقة من العلاقات وبناءً على رأيهم لا تكون لذاته مميزات خاصة بها

الرد : ليس للكائن العاقل علاقة مع غيره فحسب، بل له أيضاً علاقة بينه وبين ذاته فالأولى اكتسابية أو غير أصلية، أما الثانية فذاتية أو أصلية وليس هناك شيء في الوجود لا علاقة له بينه وبين ذاته، أو بينه وبين غيره إلا غير الموجود، لأنه لا يتميز بميزة تدل على أن له كياناً خاصاً وبما أن الله " وإن كان لا نهائياً " هو كائن عاقل له كيانه الخاص ووجوده الحقيقي الواقعي، إذاً فوجود علاقات بينه وبين نفسه أمر يتوافق مع حقيقة وجوده، بل ويتطلّبه هذا الوجود ذاته وبما أن له مثل هذه العلاقات، إذاً فهو متميز بمميزات خاصة، لأنه لا سبيل لوجود العلاقات في وحدانية مجردة من المميزات

هذا بالطبع مع مراعاة الفرق الذي لا حد له بين العلاقات الكائنة بين الله وذاته، والعلاقات الكائنة بين أي كائن عاقل وذاته فالعلاقات الكائنة بين الله وذاته هي علاقات أصلية فيه وملازمة أزلاً لذاته الواحدة التي لا تركيب فيها أما العلاقات الكائنة بين أي كائن عاقل وذاته فليست أصلية فيه، لأنها ناشئة عن الغرائز المتنوعة التي ورثها عن أجداده أو عن العناصر المختلفة المكّونة منها ذاته ولذلك فهي علاقات مكتَسبة أو حادثة ولكنها تُسمّى أصلية بالنسبة إلى العلاقات التي تتكون لديه بسبب وجوده في العالم واتصاله بما فيه أما علاقات الله حتى مع الكائنات الحادثة فليست اكتسابية، لأنه يعلم كل شيء عنها قبل خَلْقها

2 - يدلّ تميّز الله بمميزات خاصة على قيامه بكثرة، والحال أنه ليست به كثرة ما

الرد : ليست المميزات التي يتميز بها الله عناصر أو أجزاءً فيه، أو أموراً مقترنة به، بل هي عين ذاته المتميزة بكل ما هو لائق بكمالها واستغنائها عن غيرها، لأنه لا تركيب فيه فالمميزات المذكورة ليست كثرة بالمعنى المعروف في الكائنات، بل هي الخصائص الأصلية الذاتية لله، والتي بدونها لا يكون إلهاً حقيقياً بل يكون إلهاً وهمياً، أو إلهاً كانت صفاته عاطلة أزلاً، كما يقول الفلاسفة الذين يؤمنون أن وحدانيته مجردة أو مطلقة لأن هذه المميزات هي التي تعيّن الله، أو هي عين تعيُّنه فليس هو الإله المجرد من الصفات، أو الذي يتصف بصفات كانت بلا عمل أزلاً، بل الإله الذي يتصف بكل صفات الكمال، والذي كانت كل صفاته بالفعل أزلاً، أي قبل وجود أي كائن من الكائنات سواه - الأمر الذي يتوافق مع كماله واستغنائه بذاته عن كل شيء في الوجود، وعدم تعرّضه للتطوّر والتغيّر

والكثرة التي تقوم بها الكائنات هي عناصر أو أجزاء أما الكثرة التي يتميز بها الله فليست عناصر أو أجزاء، بل هي الخواص الأصلية للوحدانية غير المركبة التي يتفرد بها

ولا مجال للاعتراض على تميّز الله بهذه المميزات بدعوى أنها تدل على كثرة، لأن مجرد إسناد الصفات إليه معناه إسناد كثرة إليه فإذا أسندنا هذه الصفات إليه، وسلّمنا بوجودها فيه بالفعل أزلاً، ثم أنكرنا تلك المميزات بعد ذلك، نكون قد قلنا بوجوده نتيجة دون سبب، أو بمظهر دون حقيقة وكل ذلك باطل، لأن الصفات لا تكون بالفعل من تلقاء ذاتها، بل لابد لها من علّة وهذه العلة لا يمكن أن تكون سوى مميزات تتميز بها ذات الله عينها، لأنه لا تركيب فيه تنشأ بسببه علاقات بينه وبين ذاته، ولا شريك له يجعل صفاته بالفعل أزلاً فهذه المميزات هي إذاً " إن جاز التعبير " من مستلزمات حقيقية وحدانية الله المحضة، وتفرّده بالأزلية، واستغنائه عن كل شيء في الوجود، ولذلك لا سبيل لإنكارها على الإطلاق

3 - لا يصح اتّخاذ العلاقات الموجودة بين الكائنات العاقلة وبين ذواتها دليلاً على وجوب وجود علاقات لله بينه وبين ذاته، لأنه لا يصحّ تطبيق صفات المخلوق على الخالق

الرد : إننا لم نفعل ذلك إطلاقاً، بل استنتجنا وجود علاقات لله بينه وبين ذاته من حقيقة اتصافه بالصفات الإيجابية وممارسته لها أزلاً، قبل وجود أي كائن سواه، الأمر الذي يتطلبه كماله المطلق، واستغناؤه بذاته عن كل شيء في الوجود أما الأمثلة الخاصة بالكائنات وأقوال الفلاسفة عنها، فلم نذكرها إلا ليعرف القارئ أن وجود علاقات بينه وبين ذاته ليس أمراً غريباً، بل هو حقيقة ثابتة مُدرَكة لدينا تماماً، ولا سبيل لإنكارها

أخيراً نقول : لأن معظم الناس لم يألفوا التأمل العميق في ذات الله، يكتفون بالقول إنه واحد ولكن لو فطنوا لعلموا أن الواحد لا يكون واحداً إلا إذا كان متميزاً بمميزات تعيّنه وتُظهر حقيقته فالوحدانية الحقيقية هي إذاً وحدانية جامعة وبما أن وحدانية الله حقيقية، إذاً فهي وحدانية جامعة ومانعة أيضاً - هذه حقيقة لا شك في صحتها إطلاقاً، لكن نظراً لسموها فوق الإدراك، وكثرة الشكوك التي تساور بعض الناس من جهتها، نرى من الواجب قبل التحدّث عن كنهها أن نتأمل في المشكلات التي تترتب على اعتبار وحدانية الله وحدانية مجردة أو مطلقة، حتى إذا تبيّن لنا تعقّدها وعدم وجود أي حل لها، سهل علينا بعد ذلك أن نقتنع اقتناعاً تاماً بأن وحدانية الله هي وحدانية جامعة مانعة



أضف تعليق

لا يسمح بالكلمات التى يتطاول فيها صاحب التعليق على فكر او معتقد او شخص بعينه.. كما لا يسمح بنشر التعليقات التى تتضمن الفاظ تتنافى مع الاخلاق و الاداب العامة


كود امني
تحديث

Facebook

Twitter

Facebook

YouTube