لعلّ الخلاف الأكبر في الحوار بين المسيحيّة والإسلام، هو القائم على اعتقاد المسيحيّين بألوهيّة المسيح، الأمر الذي يحسبه القرآن كفراً. وقد اعترض عليه بعدّة آيات أبرزها أربع وردت في سورة المائدة، وآية خامسة في سورة النساء :
1 لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ المَسِيحُ ابنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً سورة المائدة 5 :17.
يقول الرازيّ في شرح هذه الآية إنّ فيها سؤالاً، وهو أنّ أحداً من النصارى لا يقول إنّ الله هو المسيح ابن مريم. فكيف حكى الله عنهم ذلك، مع أنّهم لا يقولون؟ وجوابه : إنّ كثيرين من الحلوليّة يقولون إنّ الله تعالى قد يحلّ ببدن إنسان معيّن أو في روحه. وإذا كان كذلك فلا يبعد أن يُقال : إن قوماً من النصارى ذهبوا إلى هذا القول. بل هذا أقرب ما يذهب إليه النصارى. وذلك لأنّهم يقولون : إنّ أقنوم الكلمة اتّحد بعيسى.
فأقنوم الكلمة، إمّا أن يكون ذاتاً أو صفة. فإن كان ذاتاً، فذات الله تعالى قد حلّت في عيسى، واتّحدت بعيسى. فيكون عيسى الإله، على هذا القول. وإن قلنا الأقنوم عبارة عن الصفة، فانتقال الصفة من ذات إلى ذات أخرى غير معقول.
ثمّ بتقدير انتقال أقنوم العلم عن ذات الله تعالى إلى عيسى، يلزم خلّو ذات الله من العلم. ومَن لم يكن عالِماً لم يكن إلهاً. وحينئذٍ يكون الإله عيسى على قولهم. فثبت أنّ النصارى، وإن كانوا لا يصرّحون بهذا القول، إلاّ أنّ حاصل مذهبهم ليس إلاّ ذلك.
ثمّ أنّ الله سبحانه، احتجّ على فساد هذا المذهب بقوله : مَن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمّه فهذه الكلمة بحسب رأي المفسّرين تعني أنّ عيسى مُشاكِلٌ لِمَن في الأرض، في الصورة والخلقة والجسميّة والتركيب، وتغيير الصفات والأحوال.
2 لَقَدْ كَفَرَ الذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ المَسِيحُ ابنُ مَرْيَمَ وَقَالَ المَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ا عْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ باللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ سورة المائدة 5 :72.
قال الإمام الرازي في شرح هذه الآية : إنّ الله لمّا استقصى الكلام مع اليهود، شرع ههنا في الكلام مع النصارى، فحكى عن فريق منهم أنّهم قالوا : إنّ الله تعالى حلّ في ذات عيسى، واتّحد بذات عيسى.
3 لَقَدْ كَفَرَ الذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ سورة المائدة 5 :73.
ينطلق الإسلام من هذه الآية فيتّهم المسيحيّين بأنّهم يعبدون ثلاثة آلهة : الله ومريم وعيسى.
ويستعرض الرازي عقيدة النصارى على الوجه التالي : حكوا عن النصارى أنّهم يقولون جوهر واحد، ثلاثة أقانيم، آب وابن وروح القدس. وهذه الثلاثة إله واحد، كما أنّ اسم الشمس يتناول القرص والشعاع والحرارة. وعنوا بالآب الذات، وبالابن الكلمة، وبالروح الحياة. وأثبتوا الذات والكلمة والحياة. وقالوا : إنّ الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى، اختلاط الماء بالخمر، واختلاط الماء باللبن. وزعموا أنّ الآب إله، والابن إله والروح إله.
ويختم الرازي شرحه بهذا التعليق : واعلم أنّ هذا معلوم البطلان ببديهيّة العقل. فإنّ الثلاثة لا تكون واحداً والواحد لا يكون ثلاثة.
4 وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ سورة المائدة 5 :116.
يجد الرازي في هذا القول مسائل :
المسألة الأولى. أنّه معطوف على قول الله : يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك، فهو يذكّره هنا بوجاهته يوم القيامة.
المسألة الثانية. أنّ الله وهو علاّم الغيوب كان عالماً بأنّ عيسى لم يقل ذلك. فليس لائقاً بعلاّم الغيوب أن يسأله. فلماذا يخاطبه؟ إن قلتم إنّ الغرض منه توبيخ النصارى وتقريعهم، فنقول إنّ أحداً من النصارى لم يذهب إلى القول بإلهيّة عيسى ومريم من دون الله. فكيف يجوز أن يُنسَب هذا القول لهم، مع أنّ أحداً لم يقل به؟
والجواب عن السؤال الأول، أنّه استفهام على سبيل الإنكار.
والجواب على السؤال الثاني : أنّ الإله هو الخالق. والنصارى يعتقدون أنّ خالق المعجزات التي ظهرت على يد عيسى ومريم هو عيسى، والله ما خلقها البتّة. وإذا كان كذلك فالنصارى قد قالوا إنّ خالق تلك المعجزات هو عيسى ومريم، والله تعالى ليس خالقها. فصحّ أنّهم أثبتوا في حقّ بعض الأشياء كون عيسى ومريم إلهَين له. مع أنّ الله تعالى ليس إلهاً. فصحّ بهذا التأويل هذه الحكاية والرواية.
وعلى أيّ حال، فقد اختلف مفسّرو القرآن في تحديد الوقت الذي فيه طرح الله هذا السؤال على عيسى.
فالسديّ مثلاً يقول إنّ الله لمّا رفع عيسى ابن مريم إليه سأله : أأنت قلتَ للناس اتّخذوني وأمّي إلهَين؟
أمّا قتادة فيقول : إنّ السؤال لم يُطرَح بعد، وإنّما سيُطرَح في القيامة. ويوافقه في رأيه ابن جريج وميسرة.
5 يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرَوُحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا باللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سورة النساء 4 :171.
قال أبو جعفر الطبريّ في تفسير هذه الآية : يا أهل الإنجيل من النصارى لا تجاوزوا الحقّ في دينكم فتفرّطوا فيه، ولا تقولوا في عيسى غير الحقّ... انتهوا أيّها القائلون : الله ثالث ثلاثة، عمّا تقولون من الزور والشرك بالله. فإنّ الانتهاء عن ذلك خير لكم من قيله، لما لكم عند الله من العقاب العاجل لكم على قيلكم ذلك، إن أقمتم عليه ولم تنيبوا إلى الحقّ الذي أمرتكم بالإنابة إليه، والأجل في معادكم.
فالمشكلة المعقّدة في الإسلام هو الاعتقاد بأنّ التثليث يعني ثلاثة آلهة : الله والمسيح ومريم. والمسيحيّة مدى أجيالها نادت، سواء كان قبل الإسلام أم بعده، أنّ كلمة تثليث ليست واردة. إنّها أوهام أهل البدع الذين نبذتهم الكنيسة وشجبت البدع التي اخترعوها، فالتصقوا بعرب الجاهليّة، ومنهم أخذ الإسلام الفكر المشوّه عن المسيحيّة.