تؤمن المسيحيّة بأنّ الله شخص حيّ، ليس جسماً مادّيّاً، يمكن أن يُرى ويُلمَس، أو يُدرَك بالحواس. إنّ الله كما قال المسيح : رُوحٌ. والذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ والحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا الإنجيل بحسب يوحنّا 4 :24. وهو أيضاً أبو الأرواح، إذ أبدع هذه على صورته كشبهه. هكذا نقرأ في الكتاب العزيز : وَقَالَ اللّهُ : نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا تكوين 1 :26. وإنّما هذا الإله الواحد الشخص، ذو ثلاثة أقانيم : الآب والابن والروح القدس.
ولكن حين نتأمّل هذه العقيدة، لا بدّ لنا من الاعتراف بأنّنا إزاء سرّ من أعمق أسرار الوجود والحياة. وقد اعترف القدّيس أوغسطينوس، وتلاه المصلح العظيم كالفن، بأنّ اللغة اللاتينيّة، على ما فيها من جمال وغنى في المفردات، عاجزة كلّ العجز عن التعبير عن عمق هذا السرّ.
والأمر المتيقّن عندنا أنّ المسيحيّين لم يأخذوا عقيدة الوحدانيّة والثالوث من بشر، فلم تأتِهم من إنتاج فكر بشريّ، بل آمنوا بها كحقيقة معلَنة من الله ومتمشّية في رحاب كتابه المقدّس، من مطلعه إلى نهايته.
ولعلّه من الأفضل، قبل وضع هذه العقيدة على بساط الدرس، أن نلمّ في شيء من الإفصاح بتاريخها في كنيسة المسيح، والأفكار التي تناولتها، حتّى وصلت إلى وضعها النهائيّ الدائم، غير المتغيّر.
كان المسيحيّون في أيّام الرسل، وحتّى أول القرن الثاني الميلاديّ لا يفكّرون في وضع صيغة معيّنة للعقائد المسيحيّة، إذ كانوا يتعلّقون بهذه العقائد ويمارسون مبادئها كما جاءت في الكتاب المقدّس، دون أن يضعوا لها شكلاً معيّناً وموحَّداً. وحين كانت تعترضهم مشكلة أو صعوبة ما، كانوا يرجعون إلى الرسل، وإلى تلاميذهم من بعدهم.
بيد أنّه حين قامت بعض البدع، وثارت خلافات حول بعض النقاط، أهمّها مركز المسيح، أو الروح القدس من اللاهوت، صارت الحاجة ماسّة إلى أن تقول الكنيسة كلمتها الفاصلة في هذا النزاع الخطير. وخصوصاً حين انتشرت آراء سباليوس وأريوس. فالأوّل قال : إنّ وحدانيّة الله مجرّدة من الثالوث. أمّا القول بالآب والابن والروح القدس فليست سوى تجلّيات ومظاهر لله. أمّا أريوس، فقد نادى بعدم مساواة الابن والروح القدس بالآب. لأنّ كليهما حسب إدّعائه مخلوق. وعلى هذا الأساس، يكونان أقلّ منه، وإن كان الآب جعلهما مشابهَين لطبيعته الإلهيّة.
فرفضت الكنيسة هذه الآراء بسبب مناقضتها للكتاب المقدّس، الذي يعلّم صراحة بأنّه لم يكن هناك زمن لم يكن فيه كلّ من الأقانيم قائماً بذاته، إذ كان الابن قائماً مع الآب منذ الأزل. إذ نقرأ في المزمور 110 :1 قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي : ا جْلِسْ عَنْ يَمِينِي. ونقرأ في المزمور 16 :8 ما قيل بلسان الابن : جَعَلْتُ الرَّبَّ أَمَامِي فِي كُلِّ حِينٍ. لِأَنَّهُ عَنْ يَمِينِي فَلَا أَتَزَعْزَعُ.
ومن أبرز رجال الكنيسة الذين حاربوا البدع وحاموا عن الإيمان القدّيس أثناسيوس القبطي الإسكندري الذي فنّد تلك البدع، وأصدر القانون الأثناسيّ المعروف، والذي ألخصه بما يلي :
1 كلّ مَن ابتغى الخلاص وجب عليه قبل كلّ شيء أن يتمسّك بالإيمان الجامع للكنيسة المسيحيّة.
2 هذا الإيمان الجامع هو أن نعبد إلهاً واحداً في ثالوث، وثالوثاً في توحيد.
3 لا نمزج الأقانيم ولا نفصل الجوهر.
4 إنّ للآب أقنوماً، وللابن أقنوماً، وللروح القدس أقنوماً، ولكنّ الآب والابن والروح القدس لاهوت واحد، ومجد متساوٍ وجلال أبديّ معاً.
5 كما هو الآب، كذلك الابن، وكذلك الروح القدس.
6 الآب غير مخلوق، والابن غير مخلوق، والروح القدس غير مخلوق، ولكن ليسوا ثلاثة غير مخلوقين بل واحد غير مخلوق.
7 الآب غير محدود، والابن غير محدود، والروح القدس غير محدود، ولكن ليسوا ثلاثة غير محدودين بل واحد غير محدود.
8 الآب سرمد، والابن سرمد، والروح القدس سرمد، ولكن ليسوا ثلاثة سرمديّين، بل سرمد واحد.
9 الآب ضابط الكلّ، والابن ضابط الكلّ، والروح القدس ضابط الكلّ. ولكن ليسوا ثلاثة ضابطين الكلّ، بل واحد ضابط الكلّ.
10 الآب إله، والابن إله، والروح القدس إله، ولكن ليسوا ثلاثة آلهة بل إله واحد.
11 الآب ربّ، والابن ربّ، والروح القدس ربّ. ولكن ليسوا ثلاثة أرباب بل ربّ واحد.
12 وكما أنّ الحقّ المسيحيّ يأمرنا بأن نعترف، أنّ كلاًّ من هذه الأقانيم بذاته إله وربّ هكذا الدين الجامع ينهانا عن القول بوجود ثلاثة آلهة وثلاثة أرباب.
13 فإذ لنا آب واحد لا ثلاثة آباء، وابن واحد لا ثلاثة أبناء، روح قدس واحد لا ثلاثة أرواح قدس.
14 ليس في هذا الثالوث مَن هو قبل غيره أو بعده، ولا مَن هو أكبر أو أصغر منه. ولكن جميع الأقانيم سرمديّون معاً ومتساوون.
15 لذلك في جميع ما ذُكِر يجب أن نعبد الوحدانيّة في ثالوث، ونعبدالثالوث في وحدانيّة.
16 الإيمان المستقيم، هو أن نؤمن ونقرّ بأنّ ربّنا يسوع المسيح هو إله من جوهر الآب، مولود قبل الدهور، وأنّه إنسان من جوهر أمّه مولود في هذا الدهر.
17 وهو وإن يكن إلهاً وإنساناً إنّما هو مسيح واحد، لا إثنان. وقد صار إنساناً ليس باستحالة لاهوته إلى جسد، بل باتّخاذ الناسوت إلى اللاهوت.
ولربّ سائل يقول : ولكن ما هو عماد هذه الحقيقة وأساسها؟ وما برهان صحّتها وثباتها؟ ولماذا بلغت هذا الحدّ من القوّة والرسوخ والاستقرار في التاريخ؟
الجواب : نعتمد أولاً وأخيراً على الكتاب المقدّس. إذ لا يمكن للإنسان مهما بلغ من قوّة الفكر وعظمة التأمّل أن يدرك طبيعة الله بدون كشف أو إعلان من الله ذاته. وما جاء من خارج الكتاب عن الثالوث من أفكار فلسفيّة أو محاجات منطقيّة لم يكن إلاّ بسطاً أو عرضاً لِما في الكتاب المقدّس، عن طريق القياس. وهل يمكن أن يكون الأمر غير ذلك ما دمنا بصدد سرّ من أعوص الأسرار التي يقف أمامها الإنسان؟ وممّا لا شبهة فيه، أنّ الوحدانيّة في طبيعة الله التي نادى بها الكتاب المقدّس، والتي تعلو كلّ منازعة وجدل، ليست وحدانيّة مجرّدة أو بسيطة، بل هي وحدانيّة شاملة تكشف عن طبيعة الثالوث الأقدس التي يؤمن بها المسيحيّون. والمعنيّون بدراسة هذه العقيدة في الكتاب المقدّس آمنوا بها، واستقرّوا عليها، ورسموا صورتها في قوانين الكنيسة. وأبرز هذه القوانين، هو قانون الإيمان النيقاويّ وهذا نصّه :
أنا أومن بإله واحد، آب، قادر على كلّ شيء، خالق السماء والأرض، وكلّ ما يُرى وما لا يُرى. وبربّ واحد، يسوع المسيح، ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كلّ الدهور. إله من إله. نور من نور. إله حقّ من إله حقّ. مولود غير مخلوق. ذو جوهر واحد مع الآب. هو الذي به كان كلّ شيء، الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء، وتجسّد بالروح القدس من مريم العذراء وصار إنساناً. وصُلِب على عهد بيلاطس البنطيّ. وتألّم وقُبِر. وقام أيضاً في اليوم الثالث. وصعد إلى السماء، وهو جالس عن يمين الآب. وسيأتي بمجد ليدين الأحياء والأموات، الذي ليس لملكه نهاية. وأومن بالروح القدس، الربّ المحيي المنبثق من الآب، الذي تكلّم بالأنبياء. وأعتقد بكنيسة واحدة جامعة رسوليّة. وأعترف بمعموديّة واحدة لمغفرة الخطايا، وأنتظر قيامة الموتى وحياة الدهر الآتي، آمين.
صحيح أنّ الكتاب المقدّس يقول : الربّ إلهنا ربّ واحد. أنا الربّ، هذا اسمي ومجدي لا أعطيه لآخَر ولكنّ الكتاب العزيز مليء بالآيات التي تدلّ على أنّ في ذات الله وحدانيّة جامعة، أوردنا بعضها فيما تقدّم.
وكذلك من مطالعة الأسفار المقدّسة، ندرك أنّ الله متّصف بصفات، كالسمع والبصر، والكلام، والعلم، والإرادة، والمحبّة. لأنّه تعالى ذات، له علاقة بمخلوقاته، التي تتّصف بهذه الصفات. وهذه الصفات لم تكن معطّلة في الأزليّة، أي قبل أن يخلق هذه الكائنات. وهذا يفيد أنّه له المجد كان يمارس هذه الصفات. وبديهيّ أنّ ممارستها لا يمكن أن تقوم إلاّ بين أكثر من كائن عاقل. وهذا يحتّم وجود الأقانيم الثلاثة في وحدانيّة الله.
ولا ريب في أنّ مَن يتأمّل في العقيدة المسيحيّة بعمق، سيجد الأمور التالية :
1 لكلٍّ من الأقانيم، الآب والابن والروح القدس، ما للآخر من الألقاب والصفات الإلهيّة. وأن كلاً من الآب والابن والروح القدس يستحقّ العبادة الإلهيّة والإكرام والثقة.
2 يتّضح من الكتابة المقدّسة لاهوت الابن، كما يتّضح لاهوت الآب. فقد قال المسيح : لِيُكْرِمَ الجَمِيعُ الابْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ الآبَ الإنجيل بحسب يوحنّا 5 :23.
3 أيضاً يتّضح من الكتابة المقدّسة لاهوت الروح القدس، كما يتّضح لاهوت الآب والابن. فقد قال المسيح : اَللّهُ رُوحٌ. والذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ والحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا الإنجيل بحسب يوحنّا 4 :24.
وكذلك حين ندرس العقيدة المسيحيّة، نرى أنّ أسماء الثالوث الأقدس، أي : الآب والابن والروح القدس، ليست كنايات عن نسب مختلفة بين الله وخلائقه، كما زعم البعض، كلفظة خالق، وحافظ، ومنعم، الأمر الذي تنفيه الإعلانات التالية :
1 إنّ كلاًّ من الآب والابن والروح القدس، يقول عن ذاته أنا.
2 إنّ كلاًّ منهم يقول للآخر في الخطاب أنت ويقول عنه في الغيبة هو.
3 إنّ الآب يحبّ الابن، والابن يحبّ الآب، والروح القدس يشهد للابن ويمجّده.
وكنتيجة طبيعيّة لكلّ هذه الحقائق الكتابيّة، خرج المسيحيّون إلى العالم بعقيدتهم الكبرى، عقيدة الإيمان بالإله الواحد، والثالوث الأقدس الآب والابن والروح القدس.
قد يقول كثيرون : إنّ هذا التعليم فوق إدراكنا. ولكن هذا القول لا يفسّر ما يشابهه من الحقائق الدينيّة والعلميّة. ويجب الاعتراف بأنّ عقولنا القاصرة لم تُخلَق مقياساً للممكن وغير الممكن ممّا هو فوق إدراكنا.