1 الاعتراض على لاهوت الابن :
قد يعترض أحدهم على لاهوت المسيح، ويعّزز اعتراضه بقول المسيح : لِأَنِّي لَا أَطْلُبُ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ الآبِ الذِي أَرْسَلَنِي الإنجيل بحسب يوحنّا 5 :30 أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي الإنجيل بحسب يوحنّا 14 :28. فإلى هذا المعترِض نقول : هذه العبارات، لا تنفي لاهوت المسيح باعتبار نسبته إلى الآب في الثالوث الأقدس. وكلّ ما هنالك هو أنّه كان من مستلزمات الفداء أن يتجسّد الأقنوم الثاني لله، لإتمام المشيئة الإلهيّة بتقديم نفسه كفّارة عن البشر. وبعد أن أكمل هذا العمل الإلهيّ، صعد إلى السماء وجَلَسَ فِي يَمِينِ العَظَمَةِ فِي الأَعَالِي عبرانيين 1 :3 فَوْقَ كُلِّ رِيَاسَةٍ وَسُلْطَانٍ وَقُّوَةٍ وَسِيَادَةٍ، وَكُلِّ ا سْمٍ يُسَمَّى لَيْسَ فِي هذَا الدَّهْرِ فَقَطْ بَلْ فِي المُسْتَقْبَلِ أَيْضاً أفسس 1 :21.
ونفهم من التعليم الرسوليّ أنّ عمل الفداء استلزم أن يكون الفادي إنساناً، ليشترك في طبيعة الذين أتى ليفديهم، وأن يكون إلهاً ليكون له سلطان فائق ليغلب الخطيّة ويحرّر كلّ مَن يؤمن به من سلطتها. وكلّ مَن يدرس الكتاب المقدّس يرى طيف هذا الفادي خلال سطوره، من سفر التكوين إلى آخر سفر الرؤيا. يراه تارة إنساناً مولوداً من امرأة، مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس، لننال التبنّي غلاطية 4 :4-5. ويراه تارة إلهاً، ليكون مركزاً لعبادة مختاريه وموضوعاً لإيمانهم. فالمسيح شخص عجيب أي أنّه إله وإنسان معاً. وهذا الشخص العجيب ملأ رؤى الأنبياء خلال الأجيال التي سبقت تجسّده. وقد أشار إشعياء النبيّ إلى تجسّده كآية الله العظمى، إذ يقول : وَلَكِنْ يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً : هَا العَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابناً وَتَدْعُو اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ الذِي تَفْسِيرُهُ : اَللّهُ مَعَنَا إشعياء 7 :14، الإنجيل بحسب متّى 1 :23. ثمّ وصفه النبيّ الكريم بالقول : وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيباً، مُشِيراً، إِلَهاً قَدِيراً، أَباً أَبَدِيّاً، رَئِيسَ السَّلَامِ إشعياء 9 :6.
2 الاعتراض على لاهوت الروح القدس :
يقول بعضهم إنّ الروح القدس ليس بأقنوم، وإنّما هو قوّة الله في إجراء عمله في الكون وفي قلوب البشر. بيد أنّ نصوص الكتاب المقدّس تؤكّد أنّ الروح القدس شخص وليس مجرّد قوّة إلهيّة فعّالة فينا، لأنّ القوّة المجرَّدة من الأقنوميّة لا يمكن أن توصف بأنّها ذات قداسة، حقّ وحكمة، ومشيئة، وأنّها تخاطِب وتُخاطَب.
لقد جاء في الكلام عن معموديّة المسيح أنّ الروح القدس نزل عليه بهيئة جسميّة مثل حمامة وكان صوت من السماء قائلاً : أَنْتَ ابنِي الحَبِيبُ، بِكَ سُرِرْتُ الإنجيل بحسب لوقا 3 :22. وهذا يدلّ على وجود الأقانيم الثلاثة، فالروح القدس نزل من السماء من لدن الآب، الذي تكلّم في السماء وعلى الابن الذي كان على الأرض.
ومن هذا القبيل صورة البركة الرسوليّة 2كورنثوس 13 :14 ، ووعد المسيح لتلاميذه بمعّزٍ آخر يوحنا 15 :26 ، والقول الرسوليّ إنّ لنا بالمسيح قدوماً في روح واحد إلى الآب أفسس 2 :18.
وكلّ مَن درس الكتاب المقدّس، يرى نصوصاً كثيرة تبيّن بُطل زعم القائلين بأنّ الروح القدس مجرّد قوّة إلهيّة. منها : القول الرسوليّ أنّه بالروح الواحد أُعطيت الكنيسة مواهب كثيرة، التي من جملتها عمل القوّات 1 كورنثوس 12 :4-11. فلو كان الروح القدس مجرّد قوّة، لكان المعنى أنّ الروح نفسه هو إحدى هذه المواهب. ومن هذه النصوص أيضاً الآيات الآتية :
وَرَجَعَ يَسُوعُ بِقُوَّةِ الرُّوحِ القدس الإنجيل بحسب لوقا 4 :14.
مَسَحَهُ اللّهُ بالرُّوحِ القُدُسِ والقُوَّةِ أعمال الرسل 10 :38.
لِتَزْدَادُوا فِي الرَّجَاءِ بِقُوَّةِ الرُّوحِ القُدُسِ رومية 15 :13.
بِقُوَّةِ آيَاتٍ وَعَجَائِبَ، بِقُوَّةِ رُوحِ اللّهِ رومية 15 :19.
بِبُرْهَانِ الرُّوحِ والقُوَّةِ 1 كورنثوس 2 :4.
فلو صحّ زعم المعترضين للزم تفسير هذه الآيات هكذا : فرجع يسوع بقوّة القوّة لتزدادوا في الرجاء بقوّة القوّة القدّوسة. ولوجب تفسير البركة الرسوليّة على هذا النحو : نعمة ربّنا يسوع المسيح، وشركة القوّة القدّوسة معكم إلى الأبد. وهذا لا يقبله العقل السليم.
3 الاعتراض على القول بالأقانيم الثلاثة :
كثيراً ما طُرِح عليّ هذا السؤال : ما هو دليلكم على تعدّد الأقانيم في ذات الله الواحد؟ والجواب : إنّ بروز وحدانيّة الله في الكتاب المقدّس، والاعتراف بأنّ الكون لا يسع آخر نظير الله، لا يمنع بالضرورة كونه في ثلاثة أقانيم، هم واحد في الجوهر.
ونستدلّ على ذلك من نصوص الكتاب المقدّس. فالنصّ المستعمل اسماً لله في العهد القديم، هو في الغالب إلوهيم في صيغة الجمع وكذلك الاسم المسنَد إليه، والضمير الذي يعود إليه. وأبرز ما جاء في هذا الخصوص، هو في تثنية 6 :4 حيث يقول : اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ : الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. فكلمة إلهنا وردت هنا في صيغة الجمع، مع أنّه كان القصد منها بيان وحدانيّة الربّ. وهناك آيات أخرى عديدة ورد فيها اسم الجلالة في صيغة الجمع، منها :
نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا تكوين 1 :26.
هُوَذَا الإِنْسَانُ قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا تكوين 3 :22.
هَلُمَّ نَنْزِلْ وَنُبَلْبِلْ هُنَاكَ لِسَانَهُمْ تكوين 11 :7.
مََنْ أُرْسِلُ، وَمَنْ يَذْهَبُ مِنْ أَجْلِنَا؟ إشعياء 6 :8.
يقول البعض أن الله قصد في ذلك تعظيم نفسه نظير عادة الملوك. ولكن ماذا عن التساؤل : من أرسل,,, من أجلنا؟ وماذا عن قول الله : هوذا الإنسان صار كواحد منّا إنهما ينفيان هذا القول.
قد يكون سرّ الثالوث فوق إدراكنا، ولكن هذا لا يعني أنّه يصحّ رفضه لعدم إمكاننا إدراكه. فإعلانات إلهيّة كثيرة إدراكها فوق طاقتنا، نظير كونه تعالى قائماً بنفسه وأزليّاً وعلّة العلل، وغير معلول البتّة، وموجوداً في كلّ مكان، في وقت واحد، وعالماً بكلّ شيء، وبكلّ ما يحدث، منذ الأزل إلى الأبد، وفي كلّ وقت.
وقد تقدّم أنّ القول بالثالوث، وإن كان حقيقة فوق إدراكنا، فإنّه لا ينافي التوحيد. وليس فيه ما يلجئنا إلى رفضه، أو ما يؤول إلى المُحال عقلاً أو إيماناً. لأنّه لا يعني وجود ثلاثة آلهة.
وربّ سائل يقول : هل لتعليم الثالوث من فائدة في الدين المسيحيّ؟ فإلى هذا أقول : إنّ فائدة تعليم الثالوث تظهر في إيضاح تعاليم أخرى مهمّة في الأسفار المقدّسة، منها :
1 إنّه يرفع شأن اللاهوت، ويوضح كمالاته. فالتوحيد دون الثالوث يحصر اللاهوت ويجعله خلواً من كلّ موضوع للمحبّة والسعادة، لأنّنا نرى في مشاورة الأقانيم ومحبّة أحدها الآخر، ما يجعل في اللاهوت كلّ مقتضيات السعادة الأزليّة.
2 إنّ الثالوث وسيلة إعلان الله نفسه للخليقة. فكلٌّ من الآب والابن والروح القدس إله من جوهر واحد. فالابن يعرف الله كمال المعرفة. ولذلك يقدر أن يعلنه بكماله. والروح القدس من جوهر اللاهوت، ولذلك يقدر أن يعلن اللاهوت لأرواح البشر.
فبواسطة الأقانيم الثلاثة يقترب الله إلى المخلوقات، وبدون هذا الاقتراب يصبح الله بعيداً عنّا، محجوباً عن إدراكنا، منفصلاً عن اختبارنا.
3 إنّ الله في الثالوث أتمّ عمل الفداء بكلّ لوازمه. فالأقنوم الثاني تجسّد، وكفّر عن خطايانا، وشفع فينا. ورتّب كلّ وسائط التبرير والمصالحة والخلاص. هكذا قال الرسول : إِنَّ اللّهَ كَانَ فِي المَسِيحِ مُصَالِحاً العَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ 2كورنثوس 5 :19 وكذا يُقال عن عمل الروح القدس، الأقنوم الثالث. فهو يجدّد قلوبنا، وينير عقولنا، ويقدّسنا التقديس اللازم للدخول إلى حضرة الله.
والواقع أنّه بدون الأقانيم، لا يصحّ أن يكون الله فادياً ومخلِّصاً ومقدِّساً وقاضياً معاً، على كيفيّة تتمّ فيها كلّ لوازم فداء الخاطي من لعنة الشريعة، التي لحقت به من جرّاء الخطيّة.
4 إنّ الثالوث يقدّم الله كمثال للحياة البشريّة فيما يتعلّق بالمعاشرة الحبّيّة والإلفة الأهليّة. فنرى حقيقة الأبوّة في الأقنوم الأوّل والبنوّة في الأقنوم الثاني. الأمر الذي يرفع شأن النسبتَين الأبويّة والبنويّة بين البشر.
ولو جرّدنا اللاهوت من كلّ شعور بالمحبّة لأصبح الله بالنسبة لنا ذلك السيّد الصارم الجبّار، الذي تفصلنا عنه الصرامة والجبروت.