وحدانية الله

PDFطباعةأرسل إلى صديق

الله هو واجب الوجود, أي لابد أن يكون موجودا , وإلا فمن خلق هذا العالم بنواميسه الدقيقة? ومن خلقني أنا? ولمن أنا مدين بوجودي وكياني? ان الدليل علي وجود الله موجود في كيان الإنسان الكافر الذي يرفع عقيرته منكرا وجوده, إذ في داخله الضمير الذي هو صوت الله, وصوت الأبدية أيضاً في قلبه

أن أدخل بكل خشوع وإجلال إلي الكلام عن حقيقة الله عز وجل أري لزاما علي أن أمهد لذلك بتأملات مختصرة عن وجود الله.

وجود الله

الله هو واجب الوجود, أي لابد أن يكون موجودا , وإلا فمن خلق هذا العالم بنواميسه الدقيقة? ومن خلقني أنا? ولمن أنا مدين بوجودي وكياني? ان الدليل علي وجود الله موجود في كيان الإنسان الكافر الذي يرفع عقيرته منكرا وجوده, إذ في داخله الضمير الذي هو صوت الله, وصوت الأبدية أيضاً في قلبه كما هو مكتوب «صنع الله الكل حسنا في وقته, وأيضاً جعل الأبدية في قلبهم» (جامعة 11:3) . وفي داخل الإنسان روح عاقل ليس موجود في الحيوانات, مصدره الله ذاته كما هو مكتوب «ولكن في الناس روحا ونسمة القدير تعقلهم» (أيوب 8:32) . وبسبب نسمة القدير في الإنسان لا يشبعه العالم المادي كله, ولا يمكن أن يستريح قلبه أو يشبع إلا بالله. والغريزة الدينية قد وضعها الله في الإنسان دون سائر المخلوقات, غريزة الرغبة في التعبد وغريزة الشعور بالضعف, وبالحاجة إلي الاعتماد علي قوة أعلي منه, خصوصا أمام الأهوال, وأمام المجهول, وأمام الموت حيث يحس الإنسان بحقارته, فإذا تعرض للغرق أو للحريق مثلا يصرخ لا شعوريا «يا رب» مستنجدا بمن هو أعلي وأقوي منه.

الفخاري يصنع الإناء الجميل الذي يتحدث عن دقة وبراعة صانعه, ولكن لا علاقة بين الإناء وبين صانعه. لكن الله صنعنا وهو دائم الاتصال بنا «إذ هو يعطي الجميع حياة ونفسا وكل شيء. وصنع من دم واحد كل أمة من الناس يسكنون علي وجه الأرض. وحتم بالأوقات المعينة وبحدود مسكنهم. لكي يطلبوا الله لعلهم يتلمسوه فيجدوه مع أنه (هو) عن كل واحد منا ليس بعيدا . لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد» (أعمال 25:17-28) .

ومن محبته للبشر أعلن ذاته لهم في كتابه, وكلمهم «بالأنبياء قديما بأنواع وطرق كثيرة» (عبرانيين 1:1) .

لا يوجد إنسان عاقل ينكر وجود الله ولكن «قال الجاهل في قلبه ليس إله» (مزمور1:14) , أي أنه يحاول أن يغالط نفسه ويسكت صوت عقله, ويوجد سبب لهذا, يذكره الكتاب المقدس بعد هذه العبارة «فسدوا ورجسوا بأفعالهم». فالعلة ليست في عقله لكن في قلبه الذي يحب الفساد والرجس وصوت الضمير في داخله يقول إن الله ديان لهذا الفساد. وكما تخفي النعامة رأسها في الرمال لكي تبعد عن عينيها منظر الصياد, هكذا الجاهل يري أن خير مهرب من الدينونة هو أن يقنع نفسه أنه «ليس إله».

ويشهد الكتاب المقدس أن الوثنيين لم يجهلوا وجود الله « إذ معرفة الله ظاهرة فيهم لأن الله أظهرها لهم. لأن أموره غير المنظورة تري منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته حتى أنهم بلا عذر. لأنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله بل حمقوا في أفكارهم وأظلم قلبهم الغبي. وأبدلوا مجد الله الذي لا يفني بشبه صورة الإنسان الذي يفني والطيور والدواب والزحافات. لذلك أسلمهم الله في شهوات قلوبهم إلي النجاسة» (رومية19:1-24) . فهم عرفوا الله ولكنهم لم يمجدوه, والسبب في ذلك هو شهوات قلوبهم ونجاستهم. وقد قال أيوب عن مثل هؤلاء«فيقولون لله ابعد عنا وبمعرفة طرقك لا نسر » (أيوب 14:21) . فهم لا ينكرونه ولكن يبعدونه عن أنفسهم. أو يريدون أن يقطعوا قيوده ويطرحوا عنهم ربطه (مزمور3:2) .

فالعقل السليم يستطيع أن يعرف وجود الله ولكنه يعجز عن معرفة ذاته وحقيقة كيانه وجوهره لأن العقل محدود, والله عظيم وغير محدود كما جاء في سفر أيوب «أإلى عمق الله تتصل أم إلي نهاية القدير تنتهي? هو أعلي من السموات فماذا عساك أن تفعل? أعمق من الهاوية فماذا تدري?» (أيوب7:11) . وأيضاً «عند الله جلال مرهب. القدير لا ندركه» (أيوب22:37, 23). من هنا لزم الإعلان الإلهي. لأنه لو لم يعلن الله ذاته لنا ما كنا لنعرفه.

وقد سئل أحد علماء الصوفية «ما الدليل علي الله?» فقال «الله». ولما سئل «فما العقل?» قال «العقل عاجز. والعاجز لا يدل إلا علي عاجز مثله». وقال "ابن عطا": «العقل آلة للعبودية (أي للتعبد) وليس للإشراف علي الربوبية» وهذا صحيح تماما , لأننا نعبد الله بالروح وبالعقل «عبادة عقلية» (رومية1:12) . ولكننا نعرفه بموجب الإعلان الإلهي, ونؤمن به بالقلب «إن آمنت بقلبك» (رومية9:10) . أما العقل فينحني خاشعا للإعلان الإلهي ولا يستطيع أن يعترض عليه لأنه ليس ضد العقل, بل هو أكبر منه ويسمو فوقه.

ولنأخذ مثلا بسيطا علي عجز العقل المحدود عن إدراك الله غير المحدود. هل يستطيع العقل أن يدرك "الأزل"? ليرجع العقل إلي ملايين الملايين من السنين, هل يكون قد وصل إلي شيء من أبعاد الأزل? كلا , لأن الأزل لا أبعاد له. وإذا ذهب الخيال إلي ملايين الملايين من السنين قبل التي وصل إليها أولا , هل يكون قد وصل إلي شيء? كلا... وهكذا "الأبد". وما أصدق ما قاله أليهو «هوذا الله عظيم ولا نعرفه وعدد سنيه لا يفحص» (أيوب 26:36) . لقد أعطانا الله العقل لنفهم به خليقة الله ولنعبد به الخالق بخشوع, ولكن إذا تطاولت عقولنا محاولة فحص الذات الإلهية فإننا نخسرها ونخسر أنفسنا.

إن الله هو خالقنا العظيم الذي أعطانا هذا الكيان الثلاثي العجيب المركب من الروح والنفس والجسد, هذا الكيان الذي لم نستطع للآن أن نحيط بكل أسراره ودقائقه, فمنذ القديم قد تفرغ بعض العلماء لدراسة الطب ووظائف أجهزة الجسم, وتفرغ آخرون لدراسة علم النفس, وآخرون لدراسة الروحيات وسر الحياة وما بعد الموت, وللآن كل هذه الدراسات مستمرة ومتجددة, وتكتشف الجديد دائما ولكنها تعترف كلها أنها لم تصل.

والله هو أيضاً خالق السموات والأرض وكل ما فيها, وواضع قوانينها وأسرارها وحافظ كيانها بكلمة قدرته, ومنذ القديم يوجد علماء تفرغوا لدراسة علم الفلك والكواكب والفضاء وآخرون لدراسة الجيولوجيا, وآخرون للطبيعة والكيمياء, وآخرون للهندسة والرياضيات, وآخرون للنبات والحيوان, وغير هذه من العلوم بشتى فروعها. ومنهم من كرس حياته كلها لدراسة علم الحشرات, وعلم الطفيليات, والمخلوقات الدقيقة التي لا تري إلا بالمجهر الإلكتروني, وجميعهم مع ما يصلون إليه من جديد يعترفون بأنهم لا يزالون علي هامش المعرفة وعلي شاطئ المعرفة وعلي شاطئ محيط العلم.

فكم هو عظيم ذلك الخالق غير المحدود الذي يملأ السموات والأرض ولا تسعه سماء السموات, الأزلي الذي لا بداءة له, والأبدي لا نهاية له, غير المحدود في قدرته وسلطانه, وفي علمه وحكمته, وفي كل شيء. أجل, هو أعظم من أن يحيط به عقل الإنسان المخلوق المحدود.

ولقد أوجد الله في البشر غريزة دينية فأخذوا يتلمسون الله لعلهم يجدونه, ولكنه لم يجدوه لأن الشيطان أعمي أذهانهم والخطية أظلمت قلوبهم كما سبق القول. وهكذا جميع البشر بما فيهم الفلاسفة صنعوا لأنفسهم آلهة بحسب تصور عقولهم-أوثانا أودعوا فيها صورة ما يظنون وما يتمنون أن يكون إلههم (انظروا رومية الأصحاح الأول), ويبين الوحي الإلهي جهلهم بقوله عن الذي يصنع الوثن «نجر خشبا مد الخيط.. يصنعه بالأزاميل. وبالدوارة يرسمه. فيصنعه كشبه رجل كجمال إنسان ليسكن في البيت.. غرس سنوبرا والمطر ينميه.. ويأخذ منه ويتدفأ. يشعل أيضاً ويخبز خبزا . ثم يصنع إلها فيسجد. قد صنعه صنما وخر له. نصفه أحرقه بالنار. علي نصفه يأكل لحما . يشوي مشويا ويشبع. يتدفأ أيضاً ويقول بخ قد تدفأت... وبقيته قد صنعه إلها صنما لنفسه. يخر له ويسجد ويصلي إليه ويقول نجني لأنك أنت إلهي» (إشعياء 13:44-17) .

أما الفلاسفة الذين لم يصنعوا لأنفسهم أوثانا ليسجدوا لها إشباعا لغريزتهم الدينية, فتساموا عن الأصنام المادية ورسموا في خيالهم كائنا روحيا عظيما جدا يجلس علي عرش كبير ونسبوا إليه الوحدانية المطلقة. وهذه الوحدانية تتطلب أنه لا يتميز بمميزات, وليس له ماهية أو كيان أو صفة من الصفات. ورغبة في تعظيمه بحسب فكرهم والمحافظة علي وحدانيته نز هوه عن كل شيء في الوجود حتى عن العلم والبصر والسمع. ولكن إلها مثل هذا يكون وهما لا حقيقة ويكون هو والعدم سواء, وذلك كالنقطة الهندسية الفرضية التي لا وجود لها, وإله خيالي مثل هذا لا يتصل بمخلوقاته ولا يراهم أو يسمعهم, هو والوثن سواء.

ولكن شكرا لله لأنه يوجد فلاسفة آخرون كثيرون رأوا أن تنزيه الله عن كل شيء يجرده من الكمال اللائق به, ولذلك وصلوا إلي أن وحدانية الله هي وحدانية إذا جامعة, وأن كانوا قد تحيروا في إدراكها. وهذه الحيرة طبيعية لأن الله فوق العقل المحدود كما أسلفنا القول. ولكننا إذا رمنا الحقيقة التي تستريح إليها نفوسنا وتطمئن بها قلوبنا, فلا يمكن أن نستمدها إلا من الله نفسه إذا كان قد شاء أن يعلن ذاته لنا, لأننا نحن لا نستطيع أن نصل إليه, أما هو فيستطيع أن يصل إلينا إذا شاء. وتبارك اسمه وتعالي لأنه شاء أن يعلن لنا ذاته وصفاته في الكتاب المقدس الذي أوحي به إلينا.

وحدانية الله

يخبرنا الكتاب المقدس في عهديه القديم والجديد أن الله واحد, لا إله إلا هو. ومجرد ذكر اسم «الله» بال التعريف دليل علي وحدانيته. وإليك بعض الشواهد من الكتاب المقدس.

من العهد القديم: «فاعلم اليوم وردد في قلبك أن الرب هو الإله في السماء من فوق وعلي الأرض من أسفل ليس سواه» ( تثنية 39:4) . «اسمع يا اسرائيل الرب إلهنا رب واحد» (تثنية 4:6) . «أنا الرب صانع كل شيء ناشر السموات وحدي باسط الأرض. من معي» (أشعياء 24:44) . «أليس أنا الرب ولا إله آخر غيري, ليس سواي» (إشعيا 21:45) . «أليس إله واحد خلقنا» (ملاخي 10:2) .

ومن العهد الجديد:«بالحق قلت لأنه الله واحد» (مرقس 32:12) . «المجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه» (يوحنا 44:5) . «لأن الله واحد» (رومية 30:3) . «نعلم أن ليس إله آخر إلا واحدا » (كورنثوس الأولى 8:4) «لأنه يوجد إله واحد» (تيموثاوس الأولى 5:2) . «أنت تؤمن أن الله واحد. حسنا تفعل» (يعقوب 19:2) .

نوع وحدانية الله

قبل أن أ بي ن بالأدلة العقلية والنقلية والمنطقية النوع الوحيد للوحدانية التي تليق بالله جل جلاله, أرجع إلي الكتاب المقدس الذي اقتبسنا منه بعض الآيات الدالة علي وحدانية الله حيث نجد فيه صيغة الجمع في اسم الله عز وجل; تلك الصيغة التي وردت في العهد القديم نحو ثلاثة آلاف مرة, فضلا عن العبارات الكثيرة الواضحة التي نجد فيها لا ما يفيد الجمع فقط بل الثالوث بالتحديد. وإليك بعض الشواهد الكتابية من العهد القديم :

أول آية في الكتاب المقدس هي «في البدء خلق الله (ايلوهيم بصيغة الجمع) السماوات والأرض» وفي عدد 26 من نفس الأصحاح يقول الله «نعمل الإنسان علي صورتنا كشبهنا».

وفي عدد 22 من الأصحاح الثالث يقول الله «هوذا الإنسان قد صار كواحد منا» وقوله تعالي كواحد يدل علي وجود أقانيم في اللاهوت. وفي العدد السابع من الأصحاح الحادي عشر يقول الله «هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم» .

وفي مزمور 6:45 - 7 نقرأ «كرسيك يا الله إلي دهر الدهور (وذلك عن الابن)» (عبرانيين 8:1) من أجل ذلك مسحك الله إلهك (عن الآب) بدهن الابتهاج». وهنا نري الآب والابن.

وفي المزمور الثاني نجد الله الآب الماسح, والله الابن الممسوح, والروح القدس المسحة «لكم مسحة من القدوس» (1 يوحنا 20:2) , فنقرأ قول الآب عن الابن «أما أنا فقد مسحت ملكي» (مزمور 6:2) . وقول الابن عن الآب «قال لي أنت ابني» (ع7). وقول الروح القدس عن الابن «اعبدوا الرب بخوف.. قبلوا الابن لئلا يغضب» (ع 11, 12).

وفي مزمور110 نقرأ «قال الرب لربي» وهنا نري الآب والابن. وفي إشعياء 8:6 نقرأ «من أرسل (بالمفرد) ومن يذهب من أجلنا (بالجمع)».

وفي إشعياء 12:48, 16 نقرأ «أنا هو الأول وأنا الآخر (الابن)... منذ وجوده (الآب) أنا هناك (الابن). والآن السيد الرب (الآب) أرسلني (الابن) وروحه (الروح القدس)». وهنا نري ثالوثا في اللاهوت.

ثم إليك هذه الشواهد من العهد الجديد:نقرأ في متى 16:3 و 17أن الرب يسوع له المجد عندما اعتمد من يوحنا في نهر الأردن انفتحت له السموات وأتي عليه الروح القدس «نازلا مثل حمامة. وصوت من السموات قائلا هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت» وهنا أيضاً نري الأقانيم الثلاثة.

ونقرأ في متى 19:28 قول الرب يسوع لتلاميذه «اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح والقدس» فنجد هنا أقانيم اللاهوت الثلاثة ونلاحظ أن الرب يسوع يقول "باسم" لا "بأسماء"; لأن الثلاثة هم واحد, الله الواحد.

ونقرأ في إنجيل يوحنا 16:14, 17, 26 «وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيا آخر ليمكث معكم إلي الأبد روح الحق» وهنا نجد الأقانيم الثلاثة.

ونقرأ في كورنثوس الثانية 14:13«نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله وشركة الروح القدس» وهنا نري الأقانيم الثلاثة.

ونقرأ في غلاطية 6:4«بما أنكم أبناء أرسل الله روح ابنه إلي قلوبكم صارخا يا أبا الآب», وهنا نري الأقانيم الثلاثة. وكذلك في أفسس 18:2حيث نقرأ «لأن به (المسيح) لنا كلينا قدوما في روح واحد إلي الآب» وكذلك نقرأ في رسالة يهوذا عدد 20 «مصلين في الروح القدس, واحفظوا أنفسكم في محبة الله (الآب) منتظرين رحمة ربنا يسوع المسيح».

ولأن الله بثالوث أقانيمه هو إله واحد, لذلك عندما يذكر الكتاب المقدس أقنومين أو أكثر لا يأتي بالفعل في صيغة المثني أو الجمع بل في صيغة المفرد. مثال ذلك قوله «والله نفسه أبونا وربنا يسوع المسيح يهدي (بالمفرد) طريقنا» (تسالونيكي الأولى 11:3) . وأيضاً «وربنا نفسه يسوع المسيح, والله أبونا يعزي (بالمفرد) قلوبكم» (تسالونيكي الثانية 16:2) . ونلاحظ في هذه الآية تقدم ذكر الابن عن الآب لأن الأقانيم الثلاثة واحد في اللاهوت. ومن الخطأ أن نقول:الأقنوم الأول, والثاني, والثالث. نقرأ أيضاً «صارت ممالك العالم لربنا (الآب) ومسيحه (الابن) فسيملك (بالمفرد) إلي أبد الآبدين» (رؤيا 15:11) . وأيضاً «وعرش الله والخروف (المسيح الفادي) يكون فيها (عرش واحد) وعبيده يخدمونه (بالمفرد)» (رؤيا 3:22) .

الثالوث الأقدس

مما تقدم نري أن الله أعلن ذاته في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد, إلها واحدا , لا نظير له, ولا شريك; في ثلاثة أقانيم الثالوث الأقداس: الآب والابن والروح القدس. الآب هو الله, والابن هو الله, والروح القدس هو الله; لا ثلاثة آلهة بل إلها واحدا , ذاتا واحدة, جوهرا واحدا , لاهوتا واحدا . ولكن ثلاثة أقانيم متحدين بغير امتزاج, ومتميزين بغير انفصال. وكل أقنوم أزلي, أبدي, غير محدود, لا يتحيز بمكان أو زمان, كلي العلم, كلي القدرة, كلي السلطان, لأن الأقانيم ذات واحدة.

وكلمة «أقانيم» كلمة سريانية, وهي الوحيدة في كل لغات العالم التي تستطيع أن تعطي هذا المعني; أي تميزا مع عدم الانفصال أو الاستقلال. لأنه بما أن الله لا شبيه له بين كل الكائنات, وبما أن لغات البشر إنما تصف الكائنات المحدودة, فلا توجد فيها كلمة تعطينا وصفا للذات الإلهية بحسب الإعلان الإلهي. وبهذه المناسبة أقول إنه لا يجوز بالمرة تشبيه الله الواحد من جهة أقانيمه الثلاثة بتشبيهات من الكائنات كالشمس وغيرها, لأن كل الكائنات محدودة ومركبة, والله غير محدود ولا تركيب فيه وقد استعملت بعض اللغات كالانجليزية كلمة «شخص» للتعبير عن الأقنوم ولكن كل شخص كائن مركب والله لا تركيب فيه, والأشخاص المتميزون منفصلون, ومهما تماثلوا لا يمكن أن يتعادلوا تماما أو يتحدوا. أما كلمة أقانيم فتعني شخصيات متميزة, ولكن متحدة «بغير امتزاج» وهم ذات واحدة. وربما تكون أقرب كلمة عربية لمدلول الأقانيم هي كلمة «تعينات». وقد تبدو هذه الحقيقة معقدة فعلا وصعبة الاستيعاب, ولكن أليس هذا دليلا واضحا علي صحتها وعلي أن الله نفسه هو الذي أعلن ذاته بها? لأن الإنسان إذا أراد أن يزيف إيمانا أو يصنعه, فإنما يصنعه وفق الفطرة البشرية وفي مستوي العقل ليسهل قبوله واستيعابه. أما إذا كان الأمر خاصا بحقيقة الله غير المحدود فلابد أن يكون الإعلان كبيرا فوق الفهم الطبيعي, وأسمي من العقل ولكن لا يتعارض معه, ليكون المجال لقبول الإعلان الإلهي, للإيمان ولنور الله في القلب, كما يقول الكتاب المقدس أن «الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله لأنه عنده جهالة ولا يقدر أن يعرفه لأنه إنما يحكم فيه (أي في ما لروح الله) روحيا » (رسالة كورنثوس الأولى 14:2) .

فالإيمان بإعلان الله عن ذاته ثالوثا , وإن كان يبدو صعبا , ولكنه معقول, بل هو المعقول, لأننا سبق أن رأينا أن الوحدانية المطلقة لا تليق بالله; لأنها تقتضي تنزيهه عن الصفات والعلاقات, ولكن بما أن الله ذات فهو يتصف بصفات وله علاقات. ولكن بما أنه وحده الأزلي فلم يكن غيره في الأزل ليمارس معه الصفات والعلاقات. وبناء عليه تكون صفاته وعلاقاته عاطلة في الأزل ثم صارت عاملة بعد خلق الكائنات, وحاشا أن يكون الأمر كذلك لأن الله منزه عن التغير, وهو مكتف بذاته, مستغن عن مخلوقاته. إذا , لابد أن الله كان يمارس علاقاته وصفاته في الأزل مع ذاته لأنه لا شريك له ولا تركيب فيه. ولابد في هذه الحالة من الاعتراف بأن وحدانيته جامعة; أي جامعة لتعينات الذات الواحدة, لأن من لا تعين له لا وجود له.

ولا تناقض بين الوحدانية والتعينات, لأن الله واحد في جوهره وجامع في تعيناته, لأنه يمارس صفاته وعلاقاته مع ذاته بالفعل منذ الأزل, مع تعيناته وليس مع صفاته لأن الصفات معان وليست تعينات عاقلة يمكن التعامل معها. فلا يقال مثلا إن الله كان في الأزل يكلم صفاته ويسمعها ويبصرها ويحبها, أو إن صفاته كانت تكلمه وتبصره وتحبه, ولكن نقرأ في الكتاب المقدس أن الابن يحب الآب, والآب يحب الابن, قبل إنشاء العالم, والروح القدس هو «روح المحبة». وكانت هناك مشورة في الأزل بين الأقانيم الثلاثة.

ولابد من الإقرار بتعينات الله وإلا جعلناه جوهرآ غامضا لا يمكن الاتصال به أو معرفة شيء عنه بينما يتفق الجميع علي أنه تكلم مع موسى ومع إبراهيم وأظهر ذاته للأنبياء. ووجود التعينات في الله لا يمس وحدانيته كما قلنا لأن التعينات هم ذات الله وليسوا أجزاء من ذاته, حاشا. بل هم ذات واحدة, جوهر واحد, لاهوت واحد.

لا شك أن هذه الحقيقة فوق الإدراك البشري لأنه لا شبيه لهذه الوحدانية في الكائنات المنظورة, ولكن هذه الحقيقة لا تتعارض مع العقل ولا يرفضها المنطق, كيف نستصعب أن ندرك أن الله واحد ولكنه مثلث الأقانيم بينما نقبل بسهولة أن الإنسان واحد وهو مثلث الكيان, روح ونفس وجسد, روح تعقل ونفس تحس وتشعر وجسد يتحرك, أما الحيوان فليس له الروح العاقل فهو نفس وجسد فقط ونفسه في دمه ويتلاشى بموته (لاويين 11:17) , أما نفس الإنسان فهي خالدة. قال الرب يسوع لتلاميذه لكي يشجعهم علي الشهادة والاستشهاد من أجله «لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها» (متى 28:10) . فالإنسان لا يستطيع أن يقتل النفس لحظة واحدة, وحتى الجسد الذي قتله لا يستطيع أن يمنعه من القيامة.

عقيدة الثالوث ليست مقتبسة من الوثنية

يقول البعض - إما عن عدم درس وفهم أو عن سوء نية بغرض التضليل - يقولون إن عقيدة الثالوث كانت موجودة عند الوثنيين في الهند, وكانوا يطلقون علي إلههم المثلث: براهما, وفشنو, وسيفا. ويقولون إن البوذيين كانوا يعتقدون أن بوذا ذو ثلاثة أقانيم: الأول والوسط والآخر. وإن قدماء المصريين كانوا يعتقدون بآلهة ثلاثية: الأولى أمون, وكونس, وموت; والثانية:أوزوريس, وايزيس, وحورس; والثالثة:خنوم, وساتيت, وعنقت. وإن الأول من كل مجموعة هو الآب والثاني هو الابن والثالث هو الروح القدس كما هو الحال عند المسيحيين. ويقولون إن البابليين والفرس والصينيين كانوا يعتنقون مثل هذه العقيدة.

والواقع أن كل هذه الأقوال هراء في هراء وليس لها أي نصيب من الصحة. وهي تقال لتضليل غير الدارسين. ولكن بالدرس الدقيق لتلك الديانات يتضح أن براهما وفشنو وسيفا عند الهنود ثلاثة آلهة مختلفون عن بعضهم تماما . أما بوذا فكان رجلا عاديا عاش في الهند حوالي سنة 500 قبل الميلاد وكانت له تعاليم معينة. أما آلهة المصريين فهي لا تنص علي أن كل مجموعة من آلهتهم إله واحد بل ثلاثة آلهة مختلفون عن بعضهم تماما فكانوا يمثلون أمون برجل وكونس (أو خنسو) بالقمر, وموت بأنثي النسر, وأوزوريس برجل, وايزيس بأمرأة, وحورس بالصقر, وخنوم بالكبش, وساتيت بامرأة هي زوجته الأولى, وعنقت زوجته الثانية. ولا مجال هنا للكلام عن الأوثان الأخرى عند البابليين والفرس وغيرهم.

تميز الأقانيم

أقانيم اللاهوت الثلاثة متحدون في الجوهر واللاهوت, ولكل أقنوم كامل صفات اللاهوت, أي أزلي وأبدي وغير محدود وكلي القدرة والعلم والسلطان والقداسة, ولكن الأقانيم متميزون, أي أن لكل أقنوم بعض أعمال خاصة لا نستطيع أن ننسبها إلي الأقنومين الأخرين, فهناك تميز واتحاد, ولكن ليس هناك امتزاج; أي لا نستطيع أن نقول أن الابن هو الآب ولا الآب هو الابن, مع أن الابن والآب واحد.

وواضح جدا من الكتاب أن أقنوم الابن هو الذي جاء إلي العالم متجسدا م رس لا من الآب ليتمم عمل الفداء بموته الكفاري علي الصليب, فمكتوب «في هذا هي المحبة ليس أننا نحن أحببنا الله بل أنه هو أحبنا وأرسل ابنه كفارة لخطايانا» (1يوحنا 10:4) و«هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يوحنا 16:3) «ولما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودا من امرأة» (غلاطية 4:4) . والابن يقول «خرجت من عند الآب, وقد أتيت إلي العالم, وأيضاً أترك العالم وأذهب إلي الآب» (يوحنا 28:16) . فالآب هو الذي أرسل الابن, وهو الذي بذله لأجلنا وهو الذي قدمه كفارة عن خطايانا. والابن هو الذي خرج مولودا من عذراء, وهو الذي مات علي الصليب حاملا قصاص خطايانا. ولا نستطيع أن ننسب إلي الابن ما اختص به الآب. ولا ننسب إلي الآب ما اختص به الابن فنقول مثلا إن الآب تجسد وأتي إلي العالم مولودا ومات علي الصليب. هذا خطأ محض لأن الذي تجسد هو أقنوم الابن فقط. ولا يجوز أن نقع في هذا الخلط في الكلام أو في الصلاة.

والروح القدس جاء إلي العالم في يوم الخمسين مرسلا من الآب والابن, جاء غير متجسد ليشهد للابن وليسكن في جميع المؤمنين - بعد أن ولدهم ولادة ثانية - في كل الأجيال وفي كل مكان في العالم, وهذا دليل علي لاهوته غير المحدود الذي لا يتحيز بمكان أو زمان.

ومن اختصاص الابن أيضاً أن يدين الأشرار, الأحياء والأموات لأنه هو الذي أكمل الفداء علي الصليب. ومما يبين هذا التميز بوضوح قول الوحي «الآب لا يدين أحدا بل قد أعطي كل الدينونة للابن لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب» (يوحنا 22:5) .

ومن سخف القول أن هذا التميز يعني انقساما أو تجزيئا في اللاهوت, وسبق أن أوضحنا الرد علي هذا الاعتراض لأن اللاهوت واحد غير محدود لا يد رك ولا ينقسم لأنه لا تركيب فيه. ولكن التميز هو في الأقانيم أو تعينات الله المتحدة في الجوهر بغير انقسام أو امتزاج.

ومن سخف القول أيضاً إنه إذا كان الله قد تجسد ونزل من السماء إلي هذا العالم فهل كانت السماء خالية في مدة التجسد? ومن الذي كان يدير الكون في تلك المدة? فواضح أن الذي تجسد هو أقنوم الابن الذي شهد عنه الآب من السماء أكثر من مرة قائلا «هذا هو ابني الحبيب» (متى 17:3, 5:17) وحتى بالنسبة لأقنوم الابن الذي تجسد فإنه بلاهوته لم يترك السماء, ولم يكن يخلو منه مكان كقوله لنيقوديموس «وليس أحد صعد إلي السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء» (يوحنا 13:3) . ومن الخطأ تطبيق ما للكائنات المحدودة, التي تقع تحت حس نا وبصرنا, علي الله غير المحدود الذي لا يتحيز بمكان أو زمان من الأزل وإلي الأبد, وبتطبيق أقيسة المحدود علي الله غير المحدود.

طبيعة الله

تكلمنا فيما سلف عن جوهر الله, لاهوته, وعن صفات الله, وأعماله, ونضيف هنا كلمة مختصرة عن طبيعة الله.

يخبرنا الكتاب المقدس في رسالة يوحنا الرسول الأولى عن طبيعة الله قائلا «الله نور وليس فيه ظلمة البتة» (5:1). وفي أصحاح 4 يقول مرتين «الله محبة» (ع 8, 16). ليست هاتان صفتين لله بل هما طبيعة الله: نور; يتضمن القداسة والحق والبر, ومحبة; وتتضمن الرحمة والرأفة والنعمة والحنان... إلخ. ولا يمكن أن الله عز وجل يعمل عملا إلا إذا كان متوافقا مع طبيعته في الناحيتين.

التزام حدود المكتوب

عندما نتأمل في حقيقة الله غير المحدود وغير المدرك, في جوهره, وأقانيمه, وطبيعته, وصفاته; يجب أن نحرص كل الحرص علي التزام حدود الإعلان الإلهي بكل دقة, وأن لا نرتئي فوق ما هو مكتوب أو نضيف أي شيء من أنفسنا, لئلا يضل العقل في متاهات الخيال, سيما وأن الشيطان لنا بالمرصاد ليوقعنا في حبائل الكفر أو المساس بجلال الذات القدسية بأي شكل من الأشكال.

ونحن نشكر الله لأننا مارسنا إيماننا عملي ,ا ونلنا اليقين بالغفران والتبرير والخلاص, واطمأنت قلوبنا إلي مصيرنا الأبدي السعيد في المجد علي أساس موت المسيح لأجلنا, واحتماله دينونة خطايانا علي الصليب. كما أن نفوسنا امتلأت هناء واكتفاء, عب ر عنه بعض المؤمنين بقولهم «لا يعوزني شيء», وأيضاً «من لي في السماء ومعك لا أريد شيئا في الأرض», وأيضاً «قلت للرب أنت سيدي خيري لا شيء غيرك» (مزامير 23, 73, 16) وأيضاً «يسوع المسيح الذي وان لم تروه تحبونه.. وتؤمنون به فتبتهجون بفرح لا ينطق به ومجيد» (بطرس الأولى8:1) .

ثم أن الإيمان القلبي الحي يثمر أعمالا صالحة في الحياة العملية «وأما ثمر الروح فهو محبة, فرح, سلام, طول أناة, لطف, صلاح, إيمان, وداعة, تعفف» (غلاطية 22:5, 23). وهو أيضاً يعطي للمؤمن النصرة علي الخطايا والشهوات, ومحبة المال والماديات ويجعله يسلك سلوكا سماويا وهو علي الأرض.

هذا وقد اختبرنا إلهنا الذي نؤمن به, بكيفية لا يسهل علينا التعبير عنها إلا بأن نقول للآخرين «ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب» (مزمور 8:34) فمع أن الله عظيم بلا حدود, ويدير الأكوان, إلا أنه يسمع صلوات المؤمنين به, وينقذهم من كل ضيقاتهم ويهتم بدقائق أمورهم, لدرجة أن قال المسيح «وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها محصاة» (متى 30:10) .

ونجد القول المشجع «لا تخف» في الكتاب المقدس بمعدل مرة لكل يوم من أيام السنة تقريبا ونجد أقوالا كثيرة أخري مثل «لا تهتموا بشيء بل في كل شيء بالصلاة والدعاء مع الشكر لتعلم طلباتكم لدي الله. وسلام الله الذي يفوق كل عقل يحفظ قلوبكم وأفكاركم في المسيح يسوع» (فيلبي 6:4 - 7) . وأيضاً «ملقين كل همكم عليه لأنه هو يعتني بكم» (بطرس الأولى 7:5) .

كما أن المؤمن عندما يدخل روحيا ليسجد في مقادس الله, في شركة عميقة معه, يختبر لذة وسعادة تفوق كل وصف ولذلك يقول أحدهم «تشتاق بل تتوق نفسي إلي ديار الرب, قلبي ولحمي يهتفان بالإله الحي» (مزمور 2:48) . ويقول داود النبي والملك «واحدة سألت من الرب وإياها ألتمس أن أسكن في بيت الرب كل أيام حياتي لكي أنظر إلي جمال الرب وأتفرس «فيه» في هيكله» (مزمور 4:27) . ويقول أيضاً «أمامك شبع سرور» (مزمور 11:61) . وأيضاً «كما من شحم ودسم تشبع نفسي وبشفتي الابتهاج يسبحك فمي» (مزمور 5:63) .

حذار أيها الصديق العزيز أن تكتفي بأن تكون مسيحيا بالاسم فقط, دون أن تختبر الحياة الجديدة في المسيح, وسكني الروح القدس فيك. إن الإيمان الذي لا يجدد الحياة, ويغير السلوك, ويفتح القلب للمسيح ليحل فيه ويملأه, هو إيمان فارغ وميت لا يغني شيئا , بل هو شبيه بمصباح لا زيت فيه ولا نور له, أو كغصن جاف لا حياة فيه ولا ثمر له.

أدعوك أيها الصديق الآن أن تأتي بقلبك إلي المسيح فيخلصك من كل خطاياك ومشاكلك, ويسعدك حاضرا وأبديا , فقد قال بفمه الكريم, «تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم» (متى 28:11) .

 

أضف تعليق

لا يسمح بالكلمات التى يتطاول فيها صاحب التعليق على فكر او معتقد او شخص بعينه.. كما لا يسمح بنشر التعليقات التى تتضمن الفاظ تتنافى مع الاخلاق و الاداب العامة


كود امني
تحديث

Facebook

Twitter

Facebook

YouTube