الكاتب: دعوة للجميع
اعتصر الألم جسدي وأنا أصرخ قائلاً: "يا رب، لا أعرف كيف أتي إليك. أحتاج أن أعرفك، وأن اشعر بحضورك ومحبتك أكثر من أي شئ آخر. لكني لا أدري ماذا أفعل. كل طريق أسلكه إنما يقود إلى ذاتي مرة أخرى. لابد أن أجد الطريق إليك! أنا أعرف أنك كل ما أملك. ولكني لا أعرفك بما يكفي أن تكون كل ما أحتاج. من فضلك دعني أجدك."
لماذا يجد بعض الأشخاص الله بطريقة لا يستطيعها الآخرون؟ لماذا يُظهر الله حضوره للبعض ويترك جموع آخرين يصارعون في ظلال اختبارٍ مسيحيٍ ناقص؟ بالطبع إن مشيئة الله واحدة للكل، فهو ليس لديه أشخاص مفضلين عن آخرين من أهل بيته، وكل ما يفعله لأي من أبناءه سوف يفعله لكل أبناءه. وإنما الفرق يكمن فينا نحن وليس في الله.
وإني أجرؤ على القول بأن الخاصية الحيوية التي تصنع هذا الفرق، والتي اشترك فيها القديسون عبر العصور مع اختلاف شخصياتهم، إنما هي ما أسميه بـ "التفتح والتقبُّل/ الاستقبال الروحي". لقد كان هؤلاء القديسون يملكون وعياً روحانياً تعهدوه بالعناية وعملوا على رعايته حتى صار هذا الوعي أعظم شئ في حياتهم. فقد اختلفوا جميعهم عن الإنسان العادي في أنهم حين شعروا بالشوق في داخلهم فعلوا شئ تجاهه. لقد اكتسبت حياتهم عادة التجاوب الروحي كعادة ملازمة لهم طوال العمر. لم يكونوا غير طائعين للرؤية السماوية. أو كما وضعها داوود بوضوح حين قال: "لك قال قلبي: "قلت: اطلبوا وجهي". وجهك يا رب أطلب." (مز27: 8)
إن "التفتح والتقبُّل الروحي" ليس شيئاً أحادياً بل أمر يتجمع فيه مزيج من عناصر عديدة في نفس الإنسان. إنه يحتوي على "انجذاب روحي"، "نزوع نحو .."، "تجاوب عاطفي لـ .."، "رغبة للحصول على ..". ومن هنا يمكن القول بأن "التفتح والاستقبال الروحي" يمكن أن يتجمع ويتمثل بدرجات متفاوتة في القلة أو الكثرة بناء على الفرد، وقد يزداد بالممارسة أو يفنى بالإهمال. إنه ليس قوة سيادية لا تقاوم تأتي من فوق لتستولي علينا. نعم هو هبة من الله، لكنها الهبة التي لابد وأن نعتبرها ونتعهدها ونرعاها كأي عطية أخرى إن كان لنا أن ندرك الغرض الذي لأجله اُعطيت لنا.
إن الفشل في رؤية ذلك هو السبب في الانهيار الخطير في حركتنا الإنجيلية المعاصرة. إذ أن فكرة تعهد "استقبالنا الروحي" بالعناية والرعاية والممارسة، تلك الفكرة العزيزة لدى قدامى القديسين، لم يعد لها مكان في مجمل المساحة الدينية الآن. فهي فكرة بطيئة واعتيادية، بينما نحن الآن نطلب الفعل الدرامي المتدفق الساحر والسريع. إن جيل من المسيحيين قد شب على الآليات السريعة والضغط على الأزرار لا يطيق الوسائل البطيئة وغير المباشرة لتحقيق أهدافه. فما نفعله الآن هو أننا نحاول تطبيق وسائل عصر الميكنة على علاقتنا بالله. فنحن نقرأ إصحاح اليوم، ونأخذ تأملنا القصير، ونندفع في طريقنا على أمل أن نصطلح مع إفلاسنا الداخلي العميق بحضور اجتماع روحي آخر أو بالاستماع إلى أقصوصة أخرى تهز المشاعر من أحد المغامرين الدينين الذين قد عادوا مؤخراً من سفرة بعيدة.
إن النتائج المأساوية لهذه الروح، والتي تعمنا جميعاً، هي: حياة ضحلة، فلسفات دينية فارغة، ترجيح عنصر المرح في الاجتماعات الروحية، تمجيد الإنسان، وضع الثقة في مظاهر التدين الخارجية، لقاءات الشركة شبه الدينية، اتباع أساليب رجال المبيعات، الأخذ الخاطئ بالشخصية الديناميكية بديلاً لقوة الروح القدس. تلك الأشياء ومثيلاتها هي أعراض لمرض شرير، مرض عميق وخطير في النفس الإنسانية.
لا يوجد شخص واحد مسئول عن هذا المرض العظيم، كما إنه لا يوجد مسيحي واحد برئ بالتمام من اللوم. لقد أسهمنا جميعنا، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، في هذه الحالة المحزنة. لقد كنا عميان بشدة عن أن نرى، أو خائفين بشدة من أن نتكلم، أو شاعرين بشدة بالرضا عن أنفسنا حتى أننا لا نرغب في أي شئ أفضل من الغذاء الفقير العادي الذي يظهر أن الآخرين به راضيين. بعبارة أخرى، لقد قبلنا نظريات وأفكار وانطباعات بعضنا البعض، وقلدنا حياة بعضنا البعض ، وجعلنا خبراتنا هي المثال والأنموذج بعضنا للبعض. وبالنسبة للجيل بأكمله نزع الاتجاه نحو الهبوط والانحدار. والآن قد وصلنا إلى مستوى واطئ من الرمال وبددنا وأفنينا أخر خطوط العشب، وأسوأ من ذلك كله قد جعلنا كلمة الحق تتشكل على خبراتنا وقبلنا هذا المستوى المسطح المنخفض على أنه مرعى البركات الوفيرة.
سوف يتطلب الأمر وجود قلب مصمم وشجاعة ليست بقليلة حتى نستطيع أن ننتزع أنفسنا بقوة ونطلق أنفسنا من قبضة زماننا هذا ونعود إلى المسالك الكتابية. لكنه ليس بالأمر المستحيل.
بين حين وآخر احتاج المسيحيون في الماضي أن يقوموا بمثل حركات العودة تلك بطريقة واسعة النطاق سجل التاريخ أناس مثل القديس فرانسيس الأسيزي ومارتن لوثر ووجورج فوكس وغيرهم ممن قادوها. مما يؤسف له أنه لا يوجد لوثر آخر أو جورج فوكس آخر يلوح في الأفق. على أي حال سواء كانت هناك حركة عودة كهذه متوقعة قبل مجيء المسيح أم لا، وهو ما لم يتفق عليه المسيحيون تماماً، فإن ذلك لا يمثل أهمية كبيرة لنا الآن. فلست أدعي أني أعرف ما قد يفعله الله في سيادته على مستوى العالم، ولكني أعتقد بأني أعرف ما سوف يفعله الله لأي إنسان مجرد يطلب وجه الله، ويمكنني أن أخبر بذلك.
دع أي إنسان يعود إلى الله في جدية، دعه يدرب نفسه في التقوى، دعه يسعى لتنمية قدرات "التفتح والتقبُّل الروحي" لديه من خلال الثقة والطاعة والتواضع، ولسوف تتعدى النتائج أي شئ قد تمناه في أيامه المنحدرة والضعيفة.
إن أي إنسان بالتوبة والعودة الصادقة لله سيكسر القالب الترابي الذي احتـُجز فيه ويرجع إلى الكتاب المقدس نفسه ليأخذ منه مقاييسه الروحية، لسوف يكون مسروراً بما يجده هناك. فالله يحاول على مر السنين أن يلفت انتباهنا إليه، ليعلن نفسه لنا ويتواصل معنا. ونحن نملك في دواخلنا القدرة على أن نعرفه فقط إذا استجبنا لعرضه وتجاوبنا مع مفاتحته لنا (وهو ما نسميه السعي وراء الله). وسوف نعرفه بدرجة متزايدة حين يصير "استقبالنا الروحي" اكثر اكتمالاً بالإيمان والحب والممارسة.
. و. توزر"
من كتاب "السعي وراء الله"
ص 66 - 71