الكاتب: دعوة للجميع
إن الأشياء المادية لا يمكن أن تعوض الوقت الذي نقضيه مع أبنائنا. ولقد أوضح "بول تورينيه" هذه النقطة بشكل جيد عندما قال: "إن اللعب ليست هي البرهان الوحيد على المحبة؛ فالوقت الذي تقضيه الأم، أو بالأحرى الأب مع أولاده كمجموعة، أو مع أحدهم على انفراد حيث يمشون معاً على سبيل النزهة، أو يشرح الأب شيئاً عن الطبيعة،
أو عن حياته الشخصية، وأموره الخاصة لا يقدر بثمن، وتظل ذاكرة ماثلة إلى الأبد باعتبارها أجمل ما شاهدته فترة الطفولة"
هذا أمر صحيح تماماً؛ فليس بمقدورنا أن نستبدل الوقت الذي نقضيه مع أبنائنا في اتصال مباشر بما يمكن أن نقدمه لهم من لعب أو بأي شئ مادي آخر؛ لأن أبناءنا في حاجة إلى رؤيتنا، وسماعنا، والتلامس معنا.
في أحد أيام الصيف كنت أنظف أحواض الزهور مع ابني، وكنا قد اتفقنا مبدئياً على تشجيعه بمبلغاً صغيراً من المال مقابل أن يساعدني وبينما كنا على وشك الانتهاء من العمل توقف واستند على المكنسة، وقال:
"أريد أن أخبرك بشيء يا أبي .. لست في حاجة إلى أن تدفع شيئاً، يكفي أن تلعب معي لبعض الوقت!"
لقد كان الوقت الذي أقضيه معه أكثر أهمية بالنسبة له من المال.
أتذكر جيداً اليوم الذي جائني فيه ابني إلى حجرة المكتب، وسألني إن كنت سأساعده في إصلاح دراجته.
فأجبته وأنا أُواصل عملي: "ليس لدي وقت لذلك الآن." لكنه لم ينصرف، بل ظل واقفاً ينظر إليَّ بنظرات تكاد تخترق انهماكي في العمل. وقال وقد أفزعني ما قاله:
"كنت أتمنى أن يكون بوسعي أن أشتري وقتاً، فإن كان ذلك ممكناً لكنت قد أخذت كل مصروفي وأشتريت به بعض الوقت الآن!"
لقد صدمني هذا التعبير عن الحقيقة البسيطة التي أراد ابني أن يعبر عنها: "إن الوقت هو أثمن ممتلكاتنا"، وشعرت وكأن حجراً قد سقط على رأسي. ولم يكن باستطاعتي أن أترك عملي في الحال، غير انني وافقت على أن أقابله بعد نصف ساعة لأصلح له دراجته.
كيف يمكن للأب أن يجد وقتاً؟
"وقت" .. إن أغلبنا لديه مشكلة مع هذه الكلمة ذات الثلاثة أحرف، وكثيرون منا يتمنون مثل ابني"براد" أن يكون بإمكانهم شراء الوقت، غير أن ذلك ليس باستطاعتنا.
إننا نمتلك قدراً محدوداً من الوقت، وعلينا أن نقرر الكيفية التي نستخدمه بها.
إن غالبية الآباء يتغيبون عن البيت في أثناء معظم ساعات استيقاظ أبنائهم؛ وأحياناً ما نتغيب عن منازلنا في بعض الأمسيات، أو في عطلة نهاية الأسبوع من آن لآخر. وهكذا يواجه الآباء صراعاً بين أعمالهم، واحتياجات أسرهم. أنا أعرف أن الحديث عن الوقت أسهل بكثير من إيجاده، غير أن توفير الوقت للتعبير عن المحبة، ولكي تكون أباً ليس بالأمر المستحيل.
أعرف أحد الآباء يعمل مديراً للفترة المسائية في أحد المحال التجارية الكبرى، فهو يعمل حتى العاشرة مساء. ولحسن الحظ أنه لا يتواجد في العمل قبل وقت الظهيرة. لذا فهو يستيقظ مع أطفاله في الصباح، ويتناولوا طعام الإفطار على مهل مع ابنته التي في الصف الثاني الابتدائي وبعد ذلك يجد وقتاً للعب أو التمشية مع ابنه البالغ من العمر 4سنوات.
أعرف أيضاً طبيباً أعتاد أن يحدد موعداً ليتناول فيه الغداء مع كل ابن من أبنائه مرة واحدة على الأقل في الشهر، وكان يخصص هذا الوقت لمناقشة أي موضوع يرغبان في الحديث عنه.
وأب آخر في مرحلة الشباب كان عليه أن يقضي ساعات طويلة في العمل في مشروع لتشييد المباني؛ فرتب مع زوجته أن ينام ابنه الذي لم يدخل المدرسة بعد فترة أطول بعد الظهر؛ حتى يكون مستيقظاً ونشطاً حين يعود هو إلى البيت ليلاً.
لي صديق يعمل محاسباً، وكان مشغولاً في عمله للغاية؛ حتى أنه كان يقضي بعضاً من أيام إجازته الأسبوعية في مكتبه لمراجعة بعض الحسابات. وإذ كان يشعر بالأسف لاضطراره أن يكون بعيداً لأوقات كثيرة عن ابنه الذي في الثامنة من عمره، وابنته التي في السادسة؛ فإنه سمح لأطفاله بأن يذهبوا معه لساعات قليلة في يوم الإجازة إلى مكتبه. وهناك يؤدون واجباتهم المدرسية، أو يلعبون، أو يقرأون في أثناء انشغال والدهم في العمل. وإذ كان العمل في يوم العطلة قليلاً ولا يحتاج لأكثر من ساعتين فقد منح هذا الترتيب متعة للأطفال، وللأب أيضاً. وكان الأطفال يتباهون أمام أصدقائهم بأنهم "يعملون في مكتب بابا".
لم يكن من السهل عليَّ دائماً أن أجد الوقت الذي أنفرد فيه مع أبنائي؛ نظراً لجدول أعمالي الغير منتظم كطبيب. وعندما كانوا لايزالون في مرحلة ما قبل المدرسة. أكتشفت أنني أنا وابني نفضل الاستيقاظ مبكراً ونتناول وجبة إفطار شهية، في حين أن ابنتي وأمها تفضلان النوم لفترة أطول في الصباح، ولم تكن مسألة تناول الإفطار تشغلهما كثيراً.
عندما كان ابني في الرابعة أو الخامسة من عمره، بدأنا في عادة لازلنا نتبعها حتى الان .. فقد كنا نستيقظ معاً قبل السادسة صباحاً مرة أسبوعياً تقريباً، ونتوجه إلى محل سندوتشات قريب من منزلنا، حيث نتناول وجبة الإفطار على مهل.
وكنا أثناء أنتظارنا لوصول الطعام الذي طلبناه نلعب معاً بعض التمرينات الرياضية الخفيفة، ثم نشاهد شروق الشمس، ونتناقش في أمور هامة جداً .. وكنا ننتظر بشغف هذه الأوقات التي التي نقضيها معاً، والتي كانت سبباً في تقاربنا، وساعدتنا على الأحتفاظ بخطوط الاتصال بيننا مفتوحة، فضلاً عن أن تلك الأوقات كونت لنا رصيداً غنياً من الذكريات المشتركة.
ونظراً لأن ابنتي لم تكن تهتم كثيراً بوجبة الإفطار فكانت من وقت لآخر تصطحب والدها لتناول طعام الغداء في أحد المطاعم. وكانت تفعل هذا خلال أيام الأسبوع في الصيف، وفي العطلة الأسبوعية والعطلات الرسمية في أثناء العام الدراسي. وفي كل مرة كنت أخرج فيها معها كان كل منا يكتشف شيئاً جديداً عن الآخر.
أعرف أباً كان يعمل طبيباً وجد وقتاً فريداً ليقضيه مع عائلته.. فقد كانوا يقضون حوالي ربع ساعة حول المائدة بعد تناول وجبة العشاء ليقرأوا بالتبادل أجزاء من الكتاب المقدس ثم بعض الكتب ويكون موضع اهتمام مشترك بينهم. ولقد قرأوا معاً بهذه الطريقة عدة كتب .. بعضها جاد، والآخر فكاهي، على أنهم لم يحاولوا الانتهاء من قراءة أي كتاب في جلسة واحدة، بل كانوا يقرأون جزءاً منه في كل يوم. وعند انتهاء الوقت المخصص للقراءة، كانوا يضعون الكتاب جانباً حتى حين موعد وجبة العشاء التالية. وكانت العائلة كلها تتمتع بهذا الوقت الغير تقليدي، والذي أصبح يشكل جزءاً ذا أهمية خاصة في حياتهم اليومية.
وقد قال لي صديقي هذا: "إن هذه العادة تناسب تماماً نوعية الحياة التي يحياها أولئك الذين تشغل أعمالهم أغلب أوقاتهم؛ لأنها تعطينا فرصة طيبة لنحافظ على علاقتنا بأبنائنا وليكون هناك شئ مشترك بيننا. إننا كثيراً ما نفقد الأتصال بأبنائنا؛ لأننا لا نتواجد في البيت كثيراً، ونتحدث لغة تختلف عن لغاتهم؛ فنصل إلى الحد الذي فيه لا نجد شيئاً مشتركاً بيننا. إلا أن القصص التي نقرأها، والشخصيات التي نتعرف عليها ستشكل خبرة مشتركة بيننا من الآن فصاعداً."
بالطبع لا توجد أنشطة واحدة تناسب كل أب؛ إذ تختلف مواعيدنا، واهتماماتنا، وقدرتنا. بعض الأباء يمكنهم التقرب إلى أطفالهم بشكل أفضل من خلال الرياضة؛ فتراهم يمارسون مع أولادهم بعض الألعاب، بل وقد يقومون بتدريبهم عليها، أو قد يحضرون الأحداث الرياضية معهم. وآخرون قد يكونون مولعين بالحياة في المخيمات، فيرتبطون بأبنائهم بشكل أفضل من خلال الخروج معاً إلى الحدائق، أو قراءة الكتب والمجلات التي تحكي عن الطبيعة. ومن خلال تجاربهم التي لا تنسى أصبحوا يحبون النباتات، والطيور، والحيوانات؛ وهكذا أصبح لديهم اهتمام مشترك بالبيئة. ورث أب آخر وهو موسيقي رائع أطفاله الموهبة الموسيقية، وعلمهم كيف يتذوقون الموسيقى الجيدة. وكانوا يقضون وقتاً رائعاً في العزف معاً، وفي حضور الحفلات الموسيقية. لكن يجب ملاحظة أن ذات الأنشطة لا تتناسب مع كل طفل، فيجب علينا احترام تميز شخصية كل ابن أو ابنة من أبنائنا؛ فما نجح مع أحدهم قد لا ينجح مع الآخر.
إن الحلول الخلاقة التي ذكرتها هنا تمثل نوعية الجهد المطلوب بذله لنكون على مستوى المسئولية كآباء، على أننا لسنا مضطرين لوضع برنامج يبدو لنا متكلفاً وغير واقعي، بالرغم من أن الأنشطة التي يخطط لها مفيدة في بعض الأحيان. إن ما نحتاجه بالأكثر هو أن تكون لدينا حساسية تجاه احتياجات أبنائنا في وقتها، وأن نتعامل مع هذه الاحتياجات بأفضل شكل ممكن. كما نحتاج أن نشارك بفرح في الأشياء البسيطة التي يجدها الأطفال مبهجة؛ فاهتمامنا الصادق بهذه الأوقات يكون بمثابة رسالة لأبنائنا تقول: "أنتم مهمون، وأنا أحب الوقت الذي أقضيه معكم." وليس هناك ما يسعد الأطفال أكثر من سماعه لهذه المشاعر.
مقدار الوقت في مقابل نوعيته
إن مقدار الوقت الذي نقضيه مع أبنائنا ليس بالموضوع الوحيد الذي يجب أن نهتم به؛ فنوعية ذلك الوقت هامة أيضاً. وقد يبدو أن تعتبر "نوعية الوقت" يتضمن ضرورة قدرة الآباء على أن يبتكروا أنشطة مثيرة لاهتمام أبنائهم طوال الوقت، ومن ثم فهذا يعني أن الأشخاص الذين لديهم قدرة كبيرة على الأبتكار والإبداع سيكون لديهم المزيد ليقدموه كآباء. لكن هذة الفكرة ليست غير عادلة فقط، بل وغير صحيحة أيضاً؛ فأنا أؤمن أن الفرصة متاحة لنا جميعاً بذات القدر لكي نكون آباء مؤثرين.
لكن ما الذي نعنيه بنوعية الوقت الجيد؟ إنها فرصة لأن نركز بشكل تام على أبنائنا، فنكون متاحين لهم بالكامل في تلك الفترة من الوقت. سواء قضينا هذا الوقت معهم في اللعب، أو صنع شيء من الخشب، أو التمشية فلابد أن نكون متنبهين تماماً لاحتياجاتهم ومشاعرهم. إن نوعية الوقت الجيدة لا تتفق مثلاً مع التحدث في الهاتف في أثناء اللعب مع الأبناء أو أستغراقنا في التفكير في مشكلة تتعلق بالعمل في أثناء الحديث مع أحدهم.
من المهم أن ندرك أن هناك فرقاً جوهرياً بين معنى تعبير "النوعية الجيدة" الذي نستخدمه هنا، وبين المعنى العام الذي يستخدم فيه هذا التعبير عادة. ولكيما نوضح هذا الفارق لنفترض أن نجارين قام كل منهما بصنع خزانة لحفظ الملابس، وبعد الانتهاء من العمل بدت إحداهما نموذجاً رائعاً لأشغال الخشب الطبيعي، وبتشطيب يبرز جمال تجزعات الخشب. أما الآخر فكانت قطعة عملية صنعت من الخشب الصناعي (المطبوخ)، وتكسوها طبقة من الدهان البلاستيك اللامع. عندئذ نقول إن الأولى من "نوعية" تفوق الأخرى من حيث الجودة، على الرغم من أن كلا النجارين قد بذل جهداً مساوياً للآخر في عمله.
أما عندما يتعلق الأمر بالتواصل مع الأطفال فإن الأب الذي يبذل ببساطة كل جهده لإبداع اهتمامه بطفله يكون قد منح ابنه بهذا وقتاً جيداً. فسواء كان الأب موهوباً أو رجلاً عادياً فالأمر المهم هنا هو أن يكون متواجداً، ويمنح ابنه أو ابنته كل اهتمامه؛ فما يدركه الطفل في هذه الحالة هو أن "أبي يهتم بي أهتماماً كاملاً" .. إننا بقدر استماعنا للطفل، وانتباهنا له نعبر له عن مقدار اهتمامنا به.
هناك قول مأثور حديث يلخص ما أقصده بالنوعية الجيدة للوقت، ومع أنني لا أعرف من قال هذه العبارة، إلا أنها تضرب على الوتر الحساس لديَّ. تقول عبارة: "حيثما تكون كن هناك بالكامل" .. هذه إحدى نقاط ضعفي؛ فأنا أعاني من عدم قدرتي على التركيز والتواجد الكامل في الكثير من المناسبات؛ فغالباً ما أحاول التفكير مقدماً، وأتوقع المشكلات قبل حدوثها، وأعد لها حلولاً مسبقة؛ مما يجعلني في معظم الأحيان غير منتبه تماماً لما يدور حولي. وهذه السمة تعد جزءاً من طبيعتي. ومع أنني على علم بها، لكنني مازلت أجد صعوبة في التغلب عليها.
عندما يريد ابني التحدث معي أحياناً ما أواصل قراءة الصحيفة، أو التقرير الطبي الذي أحضرته معي إلى البيت وأحاول جاهداً في تلك الأثناء أن أعلق بعض التعليقات المناسبة، أو أهز رأسي بالموافقة حتى أشعره أنني أستمع له. أو عندما أذهب للتمشية مع ابنتي تجدني أحياناً مشغولاً بشكل أو بآخر. وعندما أفعل ذلك فإنني في الوقت أخدع نفسي وأبنائي في ذات الوقت، وأرهن الحاضر بمشغوليات تتعلق بالمستقبل أو بالماضي.
في علاقتي مع الآخرين إنني أدرب نفسي على "التواجد الكامل"، وخاصة مع عائلتي. وهذا يمثل صراعاً بالنسبة لي، لكنني أرى أن ثمار النجاح فيه تستحق كل ما أبذله من جهد.