الكاتب: دعوة للجميع
وبقدر ما يُستعاد في الصلاة الإقرار بالصفات التي ميَّزنا بها الله حتَّى نرفع إليه آيات الشكران عنها، بقدر ذلك يمكن أن تتبدَّل علاقتنا بالله. في الواقع إنَّ المعرفة الحقَّة للإيجابيَّات فينا تُفسح في المجال أمام مفهوم آخر للتواضع. في الماضي، كان من المحتمل أن أرفض حسناتي أو أن أنكر نجاحي، لإبراز عدم أهليَّتي، ولكن، من الآن فصاعداً، لم يعُد التواضع نكراناً أو كبتاً، بل ثقة بالنفس، بفضل تقبُّلنا الهادئ للواقع. إنَّ جذر الفعل العربي "وَضَعَ" مُعبِّر وإيحائي للغاية، فالتواضع هو الجرأة على "الوضع"، هو الاعتراف بما هو راسخٌ فيِّ، كالمرأة التي تضع ولداً وتعترف بالمولود الجديد ابناً لها.
على الصعيد الروحي، لم يعد التواضع إقراراً بعدم أهليَّتي أو بفقري، إذ ربَّما كنتُ موهوباً جداً، بل هو اكتشافي، في ضوء الروح، أنَّ كلَّ قيمة فيَّ من خيرٍ وصلاحٍ هي هبةٌ من لدنه تعالى، وأنِّي أنا وُهِبتُ لنفسي. لقد استطعتُ حقاً، خلال سنوات، وبفضل جهود مثابرة، أن أستثمر مواهبي كأنِّي أنا منبعها، ولكن من الآن فصاعداً، أقرُّ أنَّه "قبل" أيِّ عمل أقوم به ترتسم أمامي مجانيَّة "حبٍّ للإنسان" لم يكن ولن يكون لي أي تأثير عليه. فمن تحقير للذات أصبح التواضع من ثمَّ اعترافاً بقدراتي ومبعثاً لسروري.
إنَّ الله يعتلن ينبوعاً مُخصباً: فمنذ أن اعترفتُ بقدرتي الفاعلة ورضيت بها، بتُّ أرفض أن أنتظر من لدنه تدخُّلات آنيَّة ودقيقة كنتُ أتوسَّلها في الماضي، لأنِّي صرتُ أرى فيها الآن تدخُّلاً في حريَّتي. وبدلاً من أن أعارض العناية الربَّانيَّة، صرتُ أتيح لها على العكس أن تُظهر فيَّ "طاقاتها". فيصبح الله تعالى لي ذاك الذي يمحضني كامل ثقته إلى حدِّ أنَّه يؤهِّلني ويُشرِّفني بأن أكون مُعاونه في كلِّ لحظة من حياتي.
وهناك أيضاً النقائص. فالمسيحي… غالباً ما يدركها بسهولة أكثر من إدراكه لمواهبه، ولكن قلَّما يتقبَّلها بهدوء وسلام. وهذا الرفض، لدى اكتشافه، يجب أن يخضع للمعالجة التي تقوم على اكتشاف ما هو إيجابي في السلبي، بفضل "إعادة خلقٍ" للماضي. لا داعي بالتأكيد، أن نعيد بناء الماضي، بل أن نلقي عليه نظرة غير النظرات السابقة. وهذا أمر يتطلَّب جهداً طويلاً، وسنوات عديدة قبل التوصُّل إلى احتضان هذا السلبي الذي يعوق المسيرة قدُماً.
وبسبب رغبة في الكمال تشغل بالنا باستمرار، نحاول بكلِّ قوانا رفض كلَّ انتقاص لتصوُّرنا الأسمى للذات، وبالتالي نسعى لاسترداد براءتنا. ولدعم هذا الوهم، نتخيَّل إلهاً قادراً على حذف هذا الجزء من ذاتنا الذي لم تعد لنا القدرة على احتماله، فالله وحده هو "القادر" على تبريرنا، كما يؤكِّد ذلك بعض المقاطع في الكتاب المقدَّس (أشعيا 1/18).
ولكن بقدر ما نتوصَّل إلى مصالحة، لن تكتمل أبداً، مع الذات، بقدر ذلك تتنقَّى صورة الله: هو أيضاً لا يستطيع أن ينتزع شيئاً من الماضي، مثلما لم يستطع والد الابن الضال أن يمحو من حياة ابنه مرحلة الانقطاع. وبالضبط يظهر الحنان الإلهي حينئذ على صعيد آخر: فهو ليس حباً وعطاءً فحسب، بل منتهى العطاء أي غفراناً، ومنتهى الحب. ومن ثمَّ يصبح الجرح الذي كان يؤلمني ولا أستطيع قبوله، يصبح بطريقة عجيبة "المكان" الذي فيه أختبر حنانه: «إنِّي لم آتِ لأدعو الصدِّيقين بل الخطأة…» (متَّى 9/13).
معالجة الجماعة
إنَّ إذكاء روح الثقة يفترض أيضاً مُعالجة تطال الجماعة في حدِّ ذاتها. وأوَّل مظهر من مظاهر هذه المعالجة يقوم، هنا أيضاً، على إعادة النظر في أسلوب التربية: وهو التوصُّل إلى الخروج، جزئياً على الأقل، من أسلوب التقدير "بالعلامات" حيث الهدف الأسمى هو بلوغ المرتبة الأولى. فأسلوب التنافس المناهض لتثقيف الشخص يمكن أن يصدم بعض الشبَّان، فيعيشوا مرحلة الدراسة كأنَّها عمل سُخرة. ويليق بالمربِّين ألاَّ يركِّزوا حصراً على المواهب الفكريَّة إلى حدِّ أن يطرحوا جانباً كلَّ ما يعود إلى الفن (موسيقى، رقص، رسم…) خارجاً عن الإطار المدرسي.
ويجب اعتماد أسلوب التشجيع في التربية، وهو القائم على إبراز كلِّ ما هو إيجابي. بهذه الشروط، وبها فقط، يتمكَّن كلُّ شاب، وليس فقط الموهوبون على الصعيد الفكري، من امتلاك ثقة حقيقيَّة بنفسه والتخلُّص من هاجس "القيل والقال".
لا شكَّ أنَّ تربية متجدِّدة ليست مؤهَّلة بحدِّ ذاتها لأن تُصحِّح بعض صوَر الله، ولكنَّها تستطيع البدء بتصحيحها في حال جرت توعية في حصَّة التعليم الديني، تُشير إلى أنَّ الله يتطلَّع إلينا شخصياً، دون أن يُقارننا بالآخرين، كما يُلمح إلى ذلك بوضوح مثل الوزنات (متَّى 25/14-30). فهو لا يُطالبنا بأقصى الإنتاج، كما يفعل الأهلون في غالب الأحيان، ولكن "فقط" -ويا لروعة الطلب!- أن نُضاعف وزناتنا الخاصَّة. كما إنَّا نكتشف أيضاً أنَّ نظر الآب تستوقفه أولاً الثمار الطيِّبة التي نُنتج.
والعيش في سلام وثقة يستلزم أيضاً منح اللذَّة مكانتها. إنَّ مجتمعنا، والحق يُقال، يميل إلى التمتُّع واللذَّة، ولكن كثيراً ما ينظر إليها نظرة سلبيَّة، مع شعور خفيٍّ بالذنب. وما طريقة الخوض في موضوع الجنس سوى شاهد صريح على ذلك، فكثيراً ما يُشار إلى الجنس بالتلميح، وبالتلاعب على الألفاظ، وقلَّما يمكن إثارة تبادل صريح للآراء…
إنَّ الاعتراف الصريح باللذَّة قادرٌ على تبديل صورة عن الله تمثِّله تعالى مستاءً من لذَّة الإنسان، راغباً بالأحرى أن يراه يتألَّم حبَّاً به. فإذا ما تقبَّل الإنسان اللذَّة الملازمة للحياة البشريَّة كعطيَّة من لدن الآب، لا يعود تعالى يُعتبر مُعارضاً للذَّة بحد ذاتها، بل مُعادياً لذاك الذي لا يحترم الشريك ولا يسمح بالتالي أن تُعقد معه علاقة مشرقة.
إنَّ الحذر المستمر من اللذَّة يؤثِّر في مفهوم الصوم الذي نحياه تقشفاً أكثر منه مشاركة… ويمكن، إلى ذلك أن نكتشف دوافع مشبوهة تُرافقها بالتالي صورةٌ ما: إنِّي أريد "التفاوض" مع الله، مُستخدماً تقشُّفي عملةً للتبادل معه بغية الحصول على نعمة منه. هذا إذا لم تكن الصورة صورة "كائن" يفرض التضحيات الباهظة تعويضاً عن خطايانا!
هناك تطرُّق آخر إلى التقشُّف، على صعيد الفكر أولاً ولكن خصوصاً على صعيد العمل، يمكنه أن يبدِّل مثل هذه الصورة. إنَّ الله لا يريد عذاب مخلوقاته، ولكنَّه يثور على كلِّ مُخالفة للمحبَّة تصل إلى حدِّ "نهش" القريب "وافتراسه" (غلا 5/15)… ومن جهة أخرى، فإنَّ الذي يرتضي تقبُّل المجانيَّة الإلهيَّة، لا يستطيع أن يتخيَّل التقشُّف وسيلة "للتعويض" عن الخطايا، ولكن سبيلاً لازماً يهدف إلى تحرير طاقات المحبَّة. فمن يعيش التقشُّف بعد الآن بقدرة الروح المحوِّلة، يكون قد اختار حياة ملتزمة إلى أقصى حدود الالتزام بمحبَّة الذات، ومحبَّة الرب، ومحبَّة الأخوة.
غالباً ما يحيا المسيحي في بلادنا علاقته بالله بطريقة يلفُّها الالتباس. صحيح أنَّه يذكر الله باستمرار في كلامه، ولكن في واقع الحياة، كثيراً ما يُقصيه إلى نطاق الدين، ممَّا يخلق في الحياة المسيحيَّة نوعاً من انفصام الشخصيَّة، إذ يعتبر عدد من "المؤمنين الصالحين" أنَّ الله لا دخل له في مهنتهم أو أشغالهم، فينصرفون من ثمَّ، بكلِّ راحة ضمير، إلى ممارسات مشبوهة، إن لم نقل بكلِّ صراحة لا أخلاقيَّة…
فما هو العلاج الذي نقترحه؟ التثبُّت أولاً من أنَّ متطلِّبات الله تعالى تشمل الحياة بأكملها: فهي لا تنحصر في "الاحتفال" بالليترجيَّا، بل تتعدَّاه إلى الليترجيا المعيوشة. فهناك ارتباط حيوي والتزام بين محبَّة الله وخدمة القريب. ولا يمكن أن نتحقَّق في النهاية من قيمة محبتنا لله إلاَّ من خلال نوعيَّة علاقاتنا الأخويَّة (1كور 13/4-7)، حيث أخطار الأوهام لا تزول ولكن تتقلَّص كثيراً.
إنَّ أقصى ما يتطلَّبه منا الآب، هو أن يرانا نحترم، في واقع الحياة، الأخ المعدم، أو المعوق في جسده أو الأخ المشوَّه في ذكائه، أو العدو. وإذا كنَّا نريد أن نتحاشى الأقوال الرنَّانة، فالعلاج يكون بإيقاظ الضمائر باستمرار وإرشاد الجماعة إلى متطلِّبات العدالة…
يجب ألاَّ يقود الشعور بالذنب إلى التشاؤم والاستسلام، بل أن يكون حافزاً لانطلاقة إلى الأمام. من المفارقة أنَّ من الممكن لبعض الإثم أن يولِّد بطريقة عجيبة صحوة للضمير…
إنَّ الاحتفال بجدارة بسرِّ المصالحة (أو سرِّ التوبة) يمكنه أن يشكِّل فرصة ممتازة في سبيل المعالجة، إذا عرفنا أن نُحلَّ الآب في مركز الصدارة فيكون قبلة تفكيرنا. وإذا عرفنا أن نعيش هذا السر كاحتفال بحنانه تعالى. فلا يعود من ثمَّ الإقرار بالخطايا عمل إذلال لابدَّ منه وشرطاً للحصول على الغفران، بل اعتراف واثق من ابن ضالٍّ «تحرَّكت أحشاء أبيه، وبادر إليه، وألقى بنفسه على عنقه وقبَّله طويلاً» (لوقا 15/20).
نقلاً عن الكتاب المشترك: ما هو إلهُكَ؟،