الكاتب: دعوة للجميع
برغم أنك تقرأ هذا الكلام بعينيك، وتقلب الصفحة بيديك، كما تغلق التليفزيون بأصابعك على الريموت أو مباشرة، ثم تذهب إلى الحمام سائراً على قدميك، لتعود عليهما، ثم تستلقى و تتمطى قبل أن تنام، أو تلقى بجسدك على السرير فيتقلب منك أو لا يتقلب، حتى تستغرق فى النوم، برغم كل ذلك فأنت - مثلي غالباً- ليس عندك خبر أن لك جسداً، بما هو كما هو، مع أنك أنت شخصياً - مثلي أيضاً- لستّ إلا جسدك. تصور؟!
لا يمكن أن تتعرف على جسدك بحق من خلال رأي عقلك فيه، أو تصوير عقلك له. مع أن الجسد له أولوية في الوجود، وكذلك عبر تاريخ التطور. كانت الكائنات الأولية تفكر بجسدها، وتحفظ بقاءها بجسدها، وتحافظ على نوعها بجسدها، وتمارس مشاعرها بجسدها، كل ذلك قبل أن يتخلق لها دماغ (مخ) .
جسدك ليس في حاجة إلى توصية من عقلك المحترم حتى تعترف به.
كيف السبيل لنتعرف معاً على ما نسيناه حتى ألغيناه؟
بالنسبة لما نحاوله معاً هنا والآن، للأسف ليس هناك سبيل إليك، إلينا، إلا من خلال عقلك الذي تقرأ به هذا الكلام. أليست القراءة هي وظيفة عقلية حتى لو كانت تمر من خلال عضو إحساس رائع، هو "العين" التي لم نعد نستعملها إلا مَعْـبراً لما يتجاوزها؟ ومع ذلك دعنا نحاول:
هل تعرف أن لك جسدا (ولا مؤاخذة) ؟
أولا: ماذا فعلنا بأجسادنا حتى تاريخه؟
ماذا طرأ على مفهوم الجسد عند الإنسان المعاصر؟ وبالتالي ماذا طرأ على ما هو جسد؟ عند أغلبنا؟. لقد انتهى الأمر بنا وبأجسادنا إلى اغتراب منذر. (مع عدم التعميم).
لا أريد الإطالة لكن الأمر يحتاج إلى النظر فيما آل إليه الحال:
(1) تم إهمال الجسد، أو تهميشه لحساب ما يسمى العقل، فنحن نعرف أجسادنا من خلال ما شاع عنها في كلامنا وأحكامنا، أكثر مما نعرفها من خلال ما يصلنا منها مباشرة.
(2) تم احتقار الجسد، أو ازدرائه، لحساب ما يسمى الروح. ومع أن الروح من أمر ربي، فالأفضل ألا نفتي فيها، فإنه ما أسهل على أي واحد لا يعرف جوهر دينه أن يضعها استقطابا على أقصى الناحية الأخرى من الجسد، يحدث هذا في التدين المُنغلق المُنشق، كما يحدث حتى فى بعض أنواع العلاجات تحت مسمى "الروحانية"، فيصل هذا الاستقطاب بين الروح والجسد، وكأنهما نقيضان، إلى الشخص العادى ليسود الحديث عن طهارة الروح، وعشق الروح الذى ليس له آخر، "لكن عشق الجسد فاني، عشق الجسد فاني!!"
(3) يصل الأمر إلى أن نعامل الجسد كمجرد أداة، أو وسيلة لغيره، ومن ذلك:
• أن نقصر دوره على أن يكون وعاء ثم مطبخاً لطحن الطعام وهضمه وأيـْضِـهْ، (تمثيله الغذائى) ليمدنا بالطاقة، وأحيانا نبني من خلال ذلك بعض وحدات من الخلايا البديلة نعوّض بها ما تلف منا.
• كما قد نستعمل الجسد أداة للمتعة بما يحقق لنا ما تيسّر من لذة أو يطفئ ما أثير من شبق.
• كذلك قد يستخدم الجسد معرضاً للممتلكات حين نضع عليه ما نملك من إكسسوارات لزوم رموز الطبقة للإعلان على أننا نمتلك من المال ما يمكن الاستغناء عنه ووضعه على رف الجسد للإعلان والتنويه.
• ثم إنه كثيرا ما يستعمل الجسد كلوحة تتلقى عبث الوشم المؤقت، أو الدائم، كلافتة تعلن عن هوية صاحبه أو رغباته أو احتياجاته أو حتى موقفه السياسي أو المذهبي أو الديني.
• وأيضاً: راح أهل السوق والشطارة يستغلون أجسادنا كمجال ومرتع لتسويق بضائعهم، سواء كان جسدنا يحتاج هذه البضائع أم لا.
• وقد يبدأ استعمال الجسد لما ليس له منذ الطفولة، كأداة للتنافس المسعور، وذلك مثلما يحدث حين يعدّ الأهل بناتهن ليصبحن أبطالاً في ألعاب القوى، فتظل الطفلة فالفتاة فالبطلة تقوم بتدريباتها سنين عددا لتكسر الرقم القياسي، أو تفوز على منافستها بواحد على ستة عشر من الثانية (أي والله!!)، والأكثر قسوة أننا نفرح بذلك ونصفق لها وهي طائرة فى الهواء، أو سابحة فوق الحاجز!!!
(4) مع زيادة الاهتمام بالصحة الجسمية والوقاية من الأمراض والتلوث والمخاطر ينقلب تعاملنا مع الجسد إلى اعتباره سلعة لها ظروف تأمين خاصة، حتى نكاد نوصى أن نمسكها من الناحية التي بها أسهم إلى أعلى لأنها تحتوى محتويات قابلة للكسر، ونظل نتبارى فى إطالة عمرها الافتراضي، بغض النظر عما تعنيه أو تحتوية هذه السلعة، وبغض النظر عما ستقوم به في السنوات التى طالت بفضل حرصنا على سلامتها.
خامسا: في العلم، والطب، والتطييب، يتم اختزال الجسد –عادة – إلى وحداته الأولية، باعتباره خلايا ومشتبكات، ترسل رسائلها إلى أعضاء وعضلات، ليصدر عنها سلوك وحركات ....إلخ
إن الدعوة المطروحة ليست دعوة للاعتراف بالجسد، وإنما هي دعوة أكثر لإعادة التعرف عليه من جديد، أولا بالتوقف عن نفيه وتهميشه، وثانياً بتعديل ما أمكن من سلوكنا العادى لعلنا نستعيد التعود على الإنصات للغته، واحترام حواره مع جسد آخر، ليس باعتباره ذنباً أو لذة، وإنما باعتبار ذلك أقدر على التعبير الأعمق والأبقى والأكثر إبداعا، أي إيماناً.
الأستاذ الدكتور يحيى الرخاوي