الكاتب: يوحنا الاسير

هذه أول رسالة اكتبها لك يا بني بعد أن رحلت دون كلمة وداع  ، رسالة تحمل معها حنيني واشتياقي لكي أراك ، فنحن على موعد للقاء عاجلاً أم آجلاً سنلتقي بلا فراق

عزمت على لا أبكيك ، فصار البكاء حلم لا أشتهه .


في ذكراك يا جان ، كيف أعبر عن شوقي بين أشواكي ، بعد أن صار الفراق حقيقة .

فأيامك القليلة على الأرض ، وساعاتك المعدودة بصحبتي  زادت فيَ الحنين .
فأنا أب بلا ابن

هل تسمعني يا بني ، هل تتذكرني وأنت بين أحضاني بلحظة اللقاء وفي لحظة الوداع؟



سجني صار لي حرية ، حرية لأعبر عن آلامي وأنيني

سجني صار لي حرية ، لأرى حقائق أخفت عني لسنوات عديدة

سجني صار لي موقعة تحرير أحتمي بها عن متاهات الحياة  وعن اعوجاج الطريق

سجني صار لي شلال مياه تحيى أرضي الجافة

هل تعلم ما هو السر وراء هذا ؟

هو يسوع الذي تعانقه الآن ، يسوع الذي صار لي كل شيء .



ربما شعرت مراراً أن هذا السجن هو الذي فصلني عنك ، وهذه حقيقة ! لا أستطيع أن أنكرها أو أخفيها  ولكن من هنا بدأت رحلة التحرير والفداء والخلاص ، ومن هنا أخذني الراعي العظيم من أحضان عالم مرير ، لا ليفصلني عنك بل ليقربني منك .



انفصالي عنك هو أن أكون خارج هذه الحرية

حريتي ليست من سجني هذا ، بل  حريتي من عالمي ، حريتي من داخل أسوار جسدي الذي يئن ويتعذب ويخطئ ويتأنب .



أبني الحبيب



معركتي الآن هي أن أفي بوعدي لك باللقاء ، لقاء بلا وداع ، لقاء في سماء بلا أنين وفراق

سنلتقي معاً مع المسيح .

معركتي أن أبقى وفيا  أميناً على الوعد .
فإن كنت أنا هنا أب بلا ابن ، فأنت هناك ابن مع أعظم أب

كم أحن إليك يا بني ، كم اشتاق لساني أن ينطق اسمك لأناديك ، كم أحمل لك مشاعر حب ، فأنت لم تمت بل حياً ، أن لم تنتهي بل ستبقى لأنك مع رب الحياة وواهب الخلود.



لا أستطيع البكاء ، فالدموع ستجف قبل أن تسيل

لا أستطيع النحيب ، فصوتي مكرس لنغني معاً ترنيمة النصر

لا أستطيع العويل لأننا  سنهتف معاً بفرحة اللقاء ، ونهتف بمن حررنا من ذنوبنا العظيمة .



لا أعلم إن كنت تراني و تسمعني الآن  ، ولكن متيقن أنك في أمان .



عندما رحلت عني يا أبني رحلت معك ارتباطاتي بالعالم الخارجي ، فصار الكل كلا شيء ، وصرت مثل الطائر الذي يحلق ويحلق حتى لا أسقط بين أنياب الوحوش الضارية ، صرت أحلق بعيدا حتى لا يد ركني اليأس والخنوع والقنوط.



صممت على أن أبدأ من جديد ، تولد داخلي حب عجيب لشخص الفادي يسوع ، وجده يمد يده ليقيمني ، أعطاني قوة جديدة للانطلاق في سماء المحبة والرجاء .



أنها ليست تخيلات تصيب المصدومين ، ولا أوهام يجن  بها اليائسين ، لكن يسوع وهبني عمق جديد للحياة ، لقد حطم قيودي ، لقد جعل الحب يتدفق في قلبي ، وأنار لي الطريق.



فمهما طالت مدتي هنا في سجن حريتي ، فأنا أعلم أن يوماً ما سنلتقي ، وإن كنت سأبقى ما تبقى من أنفاسي فسأظل أعيش محلقاً في سماء الرجاء .



فأنا مازلت أحمل قلب أب ، والى أن نلتقي سأفي بوعدي يا بني ، مهما تكاثفت الغيوم ، فهناك شمس لابد أن تشرق ، ومهما ثقل الظلام فلابد أن يأتي شعاع الأمل والرجاء.



فالآلام ربما تطرحننا وتلاشينا ، ولكن يمكنها أيضا أن تقودنا إلى أن نتطهر ونتنقى .

وإن أقسـى الآلام هي التي تولد أروع وأجمل الألحان ، فالألم يكشف للإنسان حقيقة نفسه ، والحب يرفع الإنسان فوق نفسه ، ومتى امتزج الاثنان الحب والألم  فستتولد أعماق جديدة للحياة ، وكانســان يحمل قلب أب ، أدركت بأنني كنت محتاجاً ومازلت للحب وللألم معاً.



فوسط أعاصير الظروف الصاخبة المدمرة ، وزوابع المحن والآلام هناك ملاحم رائعة كتبت بالدموع والدماء ، لتحكي أعظم قصص الحب الإنساني وتسجل بسطور ذهبية قصة الإنسان.



هذه رسالة لا تحمل من ساعي بريد ، ولا تكلفني اجرة توصليها ، ولكن هل تعرف بأنني  أريد أن أوصلها بنفسي لك ، على الأقل لأرى وجهك وتلمسك يداي ، أنني أشعر بأنه كل جزء في نفسي وروحي وجسدي يريدون الالتقاء بك ، ولو لثواني معدودة ، أحشــائي تفيض شوقاً لأقبلك قبلة اللقاء بعد سنين الفراق.



اذكرني يا بني ، وسأتي إليك عندما يحين وقت الرحيل .



عنواني أنت تعرفه ، وستجدني أنتظر بشوق  لحظة اللقاء .



المشتاق

أب بلا ابن
يوحنا الأسير

هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.