الكاتب: يوحنا الاسير
يا ساكني الأرض
من أعماق الجحيم أكتب إليكم ، من أعماق الظلمة ، من أعماق الشقاء واليأس .
المكان موحش ، مرعب ، هائل، ليس له نظير في أرضكم ، لقد بئست الجحيم لي مستقراً ، لقد اكتنفني ليل أبدي لا أعرف له صبحاً.
في ذلك الظلام الدامس أريد أن أغمض جفني لعلي أنام ، ولكن لكيف أنام هنا ، مسكين وبائس أنا ، لقد جئت إلى هذا المكان لأكون فيه إلى الأبد.
كنت في عالمكم أسرح وأمرح غير مبال بهذا المصير ، يا له من مصير رهيب.
لقد أغمضت عيني في لحظة عن عالمكم وفتحتها هنا في هذا الجحيم وقد غاب العالم عن أنظاري ، لأرى أرواح الشر ورسل الظلام ترقص من حولي ، ورأيت الشيطان وفد صوب نحوي عينيه الناريتين ، وبسط على جناحيه الأسودين ، فقبض على روحي وزج بها إلى أعماق أعماق هذا الجحيم .
فصرخت فدوت صرختي أركان الجحيم ، أنني فريسة تتحرك في أحشاء الجحيم ، لقد وقعت بين مخالبه القاسية الملتهبة ولا أستطيع النجاة. لا أستطيع أن أصف لكم ما يجول بخاطري ، وأنا أغوص تارة وأطفو تارة أخرى في أعماق بحيرة النار ،تتضارب في صدري عوامل عدة هي مزيج من الحزن و الألم والحسرة والندم !
من حولي نار تستعر ، وفي قلبي براكين تثور ، آه لقد أتيت هنا لأقضي بقية الأبدية التي لا تنتهي.
أما من حد لهذا اللهيب المتقد ؟ أما من موت يباع فأشتريه ؟
الموت قد فارقنا ، وهو لدي أحب من كل حبيب ! اللهم حنانك ورحمتك ، ولكن أعلم أنه لا رحمة لي عندك الآن ، بعد أن رفضك وأهنتك في حياتي وفي زمن الرحمة .
ها أنا أغوص تحت ثقل خطاياي ، أغوص حيث لا أعرف قراراً ، آه يا له من حمل ثقيل ، لست أدري كيف طقت حمله وأنا على الأرض ، بل لست أدري كيف استطاعت الكرة الأرضية أن تحملني وتحمل ذنوبي !
بالأمس كنت لا أحس واليوم أشعر ، بالأمس كنت أعمى واليوم أبصر ، بالأمس كنت أهذأ وأسخر واليوم أبكي دماً.
صراخ الضمير يعم أذني " ويلاً ! ويلاً ! ويلاً ! "
نم أيا ضميري قليلاً ، آه ولكنه لن ينام بعد ، لقد نام ما يكفيه في الأرض ، و ها هو الآن استيقظ يقظته الأبدية ليعذبني عذاباً أبدياً .
ضميري يصرخ صرخته " أنك مجرم قاتل ، يداك تشهدان عليك ، لقد أغرقت صوتي على الأرض في لذاتك وطربك ، وقد كان صوت النصح والإرشاد ، وقد آن لك أن تسمع صوتي صوت انتقام وعقاب ، ويلاً ! ويلاً ! ويلاً !
أرى من حولي نفوساً من مختلف الأعمار والطبقات والأجناس ، أرى ملوكاً وأمراء وأشرافاً ، أرى نفوساً لم تألف غير المديح والثناء ، وهى الآن لا تسمع غير اللعنات القاسيات ، أرى كليوباترة التى زعمت أنها ستكون سيدة العالم الأبدي ، ولكنها لا تفرق عني شيئا .
أرى نفوساً ممن لبسوا ثوب الرياء والنفاق ، وقد احترق هذا الثوب فظهر ما كانوا يبطنون .
أرى أساقفة وقسوساً وكهنة ومبشرين ممن تاجروا بكلمة الله ، وخدعوا الناس طويلاً ، وها هم يحصدون ثمر أعمالهم .
أرى أغنياء وقد استغنوا عن كل نفيس أراهم عراة حفاة ، لا يجدون نقطة ماء يبردون بها شفاهم ، أرى نفوساً ممن كانوا من ذوي الظرف واللطف ، نفوساً ممن كانوا من أهل اللهو والطرب وهي ترقص رقصة الطير المذبوح.
أرى ابنا يسب أباه ، وأخاً يلعن أخاه ، وأماً تسلم شرف ابنتها إلى أيدي التجار ، أرى صديق خائن ، وقريب شائن.
والآن أنن أغوص فلا أرى شيئاً ، فباسم شياطين الجحيم ، وباسم الأرواح الخبيثة، وباسم النار الأبدية ، أستحلفكم يا ساكني الأرض ألا تأتوا إلى هذا العذاب .
إن الله يحبك، يحبك أنت،يحبك بالرغم من جرمك وخطيتك ، يحبك ويريد خلاصك ،فماذا أنت فاعل بهذا الحب ؟
الله يحبك ،وحبه لا ينتهي ،ليس غيره يستطيع أن ينقذك،وأنه ضحى بابنه الوحيد لكي ينقذك من هذا اللهيب الذي لا ينتهي.
آه لو كنت تعلم مقدار الحب الذي يضمره لك قلب المسيح ، ذلك القلب الكبير المتسع ، الذي يهتم بك وبالعالم كله .
ربما لم تكن قد أدركت من قبل ، ولكنه حقيقة لا ريب فيها.
وإن كنت في شك وريب تأمل جراحته على الصليب ، قف أمام الصليب ليعلن لك هذا الحب السرمدي ، وستبقي أثر المسامير أعظم أثر لأعظم حب لن ولم ترى البشرية مثيلاً له .
انظر إلي الصليب لترى إكليل الشوك ينغرس في جبينه فتسيل منه سيول الدم ، انظر إلى الحربة المطعونة في جنبه لتخترق إلى أعماق قلبه لينفجر منه الدم والماء ولتفتح لنا طريقاً للحياة الأبدية .
انظر يداه اللتان بها قد خلق الكون وما فيه ، يداه اللتان لم يبسطها إلا للبركة والرحمة تشقها مسامير الغدر والانتقام.
لقد شرب المسيح من أجلك كأس الألم من أجل خلاصك أنت .
حمل كل خطاياك على الصليب حتى لا تحمل أنت العقاب .
انه يريد أن يهبك سلامه وغفرانه ، يداه المبسوطتان على الصليب مستعدتان أن تباركك ببركات الخلاص العجيب .
فان شئت ورغبت اقبله الآن ولا ترفض كما رفضت أنا ، انه مات من أجلك ، انه اشتراك حتى لا تأتي إلى هذا العذاب سلم له حياتك لتحيا .
يا ساكني الأرض
لا تموتوا عطاشى وماء الحياة يتدفق من حولكم ، لا تعيشوا جوعي وخبز الحياة معكم ، لا تقضوا حياتك يتامى ورب الحياة بجواركم .
لماذا البؤس والشقاء ، لماذا الخصام والنزاع ورب السماء يريد أن يفعم قلوبكم بسعادة لا تنتهي.
المعذب
أحد ساكني الجحيم