الكاتب: ابراهيم عرفات
الرقيّ كلمة تبتهج لها مشاعرنا وتتهلل لها أساريرنا وتعلو بها هاماتنا وتثير فينا الإعجاب فنتمنى لو نكون من أبناء الأمم الراقية أو من أبناء الأسر الراقية التي تتسم بالتنسيق المهندم في التفكير والسلوك. نمتدح فلاناً فنقول: يا سلام! هذا الإنسان ما أرقاه؛ ما أحلاه فهو إنسان حضاري! إنه حقاً راقٍ! إنه بخلاف ما تعودنا عليه. ترى ما السر في أنه مختلف عن معظم الناس الذين نعرفهم؟ في المقابل ننفر من سلوك بعض الناس، بصرف النظر عن دينهم سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين. نتساءل بحق فرد أو جماعة معينة من الناس: لماذا يسلكون هكذا كالرعاع؟ ما السبب في أن الغوغائية هي الظاهرة المتحكمة فيهم ولا يملكون أكثر من الصوت المرتفع؟ نحن اليوم في حاجة ماسة لحضارة تجعلنا نسلك سلوكاً إنسانياً حضارياً يركز في المقام الأول على «حضارة الوجه».
حضارة الوجه تعبير لبطاركة الشرق الكاثوليك، ويعني حضارة التلاقي الودّي والتحاور الحقيقي والتخاطب المباشر. تقتضي هذه الحضارة استجلاء مفاهيم الكرامة الانسانية والحرية والمساواة، ووضعها موضع التطبيق بما يتفق مع الشرعة الدولية المعروفة بالاعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر في 10 كانون الاول 1948 عن منظمة الامم المتحدة (الفقرة 46). ولا حضارة أعظم من حضارة أرسى دعائمها المسيح في قوله، لا من المقاعد الفاخرة المزركشة بالذهب، بل من على الصليب وهو في تألمه يتضامن مع الجنس البشري دون تفرقة وبهذا يهبهم الفداء: "يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون". قد ينظر الناس للإساءات التي تصدر من المسيحيين ولهم الحق أن ينظروا ويستنكروا ونحن نستنكر معهم؛ ولكن مؤسس المسيحية أرسى حضارة إيمانه بكلام مؤسس على معايير إلهية وهي الغفران دون شرط أو قيد. المسيح هو قياس المسيحية وليس تاريخها أو تراثها وذلك لأنها إيمان شخصي مؤسس على علاقة بإله شخصي، لا مؤسسة يكون فيها الفرد آلة أو ضمن قطيع. أجل! كل ما في المسيح شخصي وفردي ومرتبط بإله شخصي يطالب بالغفران حتى في أقسى الظروف وهي آلام المسيح على الصليب وهو يتضرع لأجل الذين صلبوه وعذبوه ونكلّوا به أشد التنكيل: "يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون".
بحكم نشأتي كمسلم، طالما حلمت أن أكون إنساناً راقياًً؛ إنسان يقبل الآخرين على ما هم عليه ولا يفرض رأيه على الآخرين ولا ينظر إليهم في استعلاء إن خالفوه أو فعلوا ما قد يعتبره العرف مشيناً. تربيت كمسلم على أن الله يفرض إرادته على من خلقهم وكأنه يعايرهم لأنه خلقهم وأنهم بذلك مدينون لأن يكونوا أدوات طيعة بيده يصنع بهم ما يشاء. قال لي أحد الأمريكان الذين اعتنقوا الإسلام وأعجبتهم نسخة التصوف في الإسلام: "إن الله يقول في القرآن «وله أسلم من في السماوات طوعاً وكرها»؛ وهذا يراد به أنك شئت أم أبيت، بالذوق أم بالقوة، سوف تـُسلم لله؛ وعليه، ومن الأحسن لك أن تـُسلم له وتخضع له وتصير مسلماً". وفي الحقيقة لا أقبل بإله يقول لي إنك ستخضع لي طوعاً أو كرهاً ثم يخرج على الملأ بملء شدقيه قائلا في ذات القوة وفي تلك اللحظة: "لا إكراه في الدين". ياللشيزوفرونيا الربانية التي تنتاب محمدًا حينما أسقط صراعه النفسي الداخلي على إلهه أو لنقل أنه ربما أراد أن يكون الدين طواعية في البداية فلما استتب له الأمر وأقبض على مقاليد السياسة وصار ملك العرب لم يترك لهم الخيار وقال فيما بعد: طوعاً أو كرهاً، لا خيار. فعل شيء بالإكراه هنا وارد كل الورود ولا سيما إذ كان المخلوق هنا ماثلاً بين الدكتاتور الرباني المتمثل في إله الإسلام والذي لا يقيم اعتباراً لحرية الإنسان وأحقيته في الاختيار بل يفرض إرداته على الإنسان فرضاً. لقد هالني دوماً إكراه الإله في الإسلام للبشر وقلت: إن نفسي تعاف الإكراه وتعاف الاقتراب من إله يكره الناس على الطاعة كرهاً. قلت ذات مرةٍ لصديق سعودي أحترمه كل الاحترام لأنه حفظ القرآن واستظهره عن ظهر قلب ثم صدق مع ضميره وبعد كل هذا التعب قرر أن لا يبقى على الإسلام وتركه فيما بعد، قلت له يا صديقي إنّ أكثر ما يزعجني في الإسلام ليس نظام العقائديات أو نصوص الاعتقاد ولكن إجبار الله للناس في الإسلام على طاعته سواء شاءوا أو أبوا، وإجبار غير المسلم على الإسلام- كل شيء إجبار في إجبار- وهذا ما تعارفوا عليه بالترغيب والترهيب؛ وكيف يتم الإغراء بشيء ثم الترهيب للنفس بالرعب على الطاعة؟" قال لي: "يا أخي والله محمد أجبرنا على الإسلام وما لنا من خيار وأجبرنا على دخول الجنة مكبلين بالسلاسل دون اختيار منا لذلك". تذكرت عندئذ الحديث المعروف أن محمدًا قال: "عجبت لأقوام يساقون إلى الجنة بالسلاسل وهم كارهون." والسلاسل هنا تطال المسلم وغير المسلم حيث يأمر القرآن المسلم بقتال المسيحي وهو عنده الإنجيل إلى أن يتحول إلى الإسلام حتى يعطي الجزية عن يد وهو صاغر. كثيرا ما قلت لأصدقائي المسلمين إن لفظة "صاغرون" في سورة التوبة آية 29 تزعجني كل الانزعاج وكانت السبب الرئيسي في خروجي من الإسلام لأن من خلق الإنسان خلقًا جميلاً لا يمكن أن يسمح بامتهانه أو إذلاله لأنه لم يعتنق هذا الدين أو ذاك. ماذا لو أني غير مقتنع بذهني بالإسلام ولا يوافق عقلي بالمرة؟ أيكون مصيري الإذلال؟ لكن في الإسلام من لم يكن ذكراً مسلماً فمصيره المصاغرة بشكل أو بآخر. كثيرا ما يتحجج إخواني المسلمون فيقولون لي ما نصه بالحرف الواحد كالآتي:
الصغار هو الالتزام بالدفع ( يعنى هتدفع هتدفع , سواء بمزاجك او غصب عنك) يبقى الاحسن تدفع بمزاجك , هذا هو الصغار , ومن كان يلتزم بالدفع كان يعيش كريما لا ذليل او مهان .
ثم ان الجزيه كانت عرفاً سائداً , فالقوى كان يفرض شروطه على الضعيف , والدول القويه كانت تاخذ الجزيه من الدول الضعيفه وهذا قبل الاسلام , فمن اين جاء العرب بتلك القوه اللتى اهلتهم لهزيمه اكبر امبراطوريتين فى الشرق والغرب معا وفى ان واحد وفرض الجزيه عليهم؟؟
وردي على هذا بسيط:
إن كانت المصاغرة هنا تعني الالتزام بالدفع، فلماذا لم نسمع القرآن يقول لنا إن المسلم سيدفع الزكاة عن يد وهو صاغر؟
هل تقبل أنت أن يقول لك أحد إنك ستدفع هذا الأمر لدى الدولة عن يد وأنت صاغر؟
وأنت صاغر؟
هل تعرف معنى المصاغرة؟
إنها الإذلال؛ فشتان بين تصاغر الناس وبين تعاظمهم. في الولايات المتحدة، أدفع الضرائب شأني شأن أي مواطن أميركي آخر ولا يحق لأحد أن يصاغرني لسبب أو لآخر. ليس لأني مصري مثلا يقومون بإجباري على دفع الجزية عن يد وأنا صاغر.. ما كل هذه التفرقة العنصرية الربانية؟
قدرك يتعاظم عندي يا أخي المسلم ودينك يصاغرني عند دفع الجزية لأني نصراني ولهذا كفرت بالإسلام غير مأسوف عليه في عام 1987 وعندما أعلن القس في 6 سبتمبر هذا الإعلان التاريخي قائلا: أعمدك يا إبراهيم باسم الآب والابن والروح القدس. قررت أن أتضامن مع البشرية في حال تضامنها مع رب الفقراء والمساكين الذي كان يطوبهم لا مع من يسحق ويذل ويصاغر بالقهر المختلف في الدين عنه. ألم تقلها أنت بنفسك أن هذا أمر يفرضه القوي على الضعيف والغالب على المغلوب على أمره؟ أين الله من كل هذا والاعتقاد بأننا جميعاً سواسية كأسنان المشط وأكرمكم عند الله أتقاكم وكل هذه الشعارات التي تصبح قطعا عبارات جوفاء أمام مصاغرة إنسان آخر، و "آخر" في الوجود يستحق التقدير لأنه ببساطة إنسان أياً كان معتقده وتوجهه الفكري.
تطال المصاغرة المرأة كذلك في سورة النساء 34 في حالة النشوز ويأمر القرآن الرجل، أي الذكر العربي المسلم، بضربها. يحاولون ستر عوار هذه الآية بالقول إنه يجب أن يضربها بالسواك أو بريشة وما هذا سوى المزاح ثقيل الدم حيث إن الآية تتدرج في شرح صنوف العقاب من "عظوهن" إلى "واهجروهن في المضاجع" إلى درجة أعلى وهي "واضربوهن" والتدرج هنا يبدو فيه تصعيد للغضب من درجة لدرجة أعلى منها إلى أن ينتهي بالضرب والإهانة وتقليل القيمة لدى الإنسان. حتى إمرأة أيوب في القرآن لم تسلم من أمر الضرب المزعوم فيقول القرآن على لسان الله آمراً أيوب أن يضرب زوجته: "خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضرِب بِهِ وَلا تَحْنَثْ" سورة ص آية 44. هذا يستوقفنا لنقول إن الإنسان الراقي، سواء كان على دين أو بلا دين، يرفض من داخله أن يصاغر أي إنسان تحت أي مسمى من المسميات سواء كان هذا الإنسان مسيحياً من الأقليات أو ليكن إمرأة. وهنا تصدق الضمائر مع نفسها وترفض أي زعم رباني في مصاغرة أو هدر لأي كرامة إنسانية سواء كانت لإمرأة أو لطفل أو أي مخلوق من مخلوقات الله.
من جهة أخرى، يتمثل الرقي المسيحي في أنه يحترم آدمية الإنسان حتى لو كان أقسى الخطاة وحتى لو كانت هي زانية الزناة. يأتون للمسيح بإمرأة أمسكت في ذات الفعل ويريدون إهانتها وأما المسيح فيحفظ لها كرامتها ويخاطب ضمائرهم ملتمساً فيها الصدق مع الذات: "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر". يسألها المسيح: "هل أدانك أحد؟" تجيب: لا؛ فيرد عليها، ولا أنا أدينك. المسيح، وهو الديان، يرفض أن يضع نفسه في موقع الإدانة مع أنه جدير بأن يدين ويسمي الأشياء باسمها الحقيقي. هنا المسيح يدعونا لأن نستوقف ذواتنا ولا نتحدث بجمود النصوص ونقول هذا النص يقول كيت وكيت ولكن أن نقف وقفة صادقة ونفحص فيها ذاتنا فنجد أننا لسنا أفضل بالمرة من هذه المرأة الزانية وهذا الرجل الزاني. في موقف المسيح مع المرأة الزانية التي أمسكت في ذات الفعل رأينا احترام آدمية الإنسان وعدم التعالي الزائف والذي يشتهر به الوعاظ في كل الأجيال بما لديهم من بر ذاتي واصطناع مزيف للتقوى. سنذكر دوماً رقي المسيح أمام البشرية في كل ضعفها ونكرر معه ما قاله لهذه السيدة "ولا أنا أدينك أيضا". الرغبات والغرائز تملأنا وهرمونات التستاسترون كمثال تشهد علينا فلا نجرؤ أن نتعالى على آخر ونقول إننا أفضل منه/ منها. من شأن الرقي المسيحي بالتمثل بخلق المسيح أن يطهر قلوبنا من أي تعالٍ أو رياء مصطنع لأجل الله أو الدين.
يستهل المسيح حديثه عن الرقي المسيح بأن يرسي الأساس لحياة جديدة ومختلفة عن أي شيء عهدوه فيما قبل. هم تعودوا على حياة كلها لوائح وشرائع وتفريعات لا حصر لها ولا عدد عن اللوائح ولوائح اللوائح. يختصر المسيح هذه اللوائح بعرضه نظاماً مختلفاً تماماً لم يألفه البشر لا من قبل ولا من بعد في إنجيل متى الفصل الخامس:
"سـَمِعْتُمْ أَنَّهُ قيلَ لِلأَوَّلين: لاتَقْتُلْ، فإِنَّ مَن يَقْتُلُ يَستَوجِبُ حُكْمَ القَضـاء. 22 أَمَّا أَنا فأَقولُ لَكم: مَن غَضِبَ على أَخيهِ استَوجَبَ حُكْمَ القَضاء، وَمَن قالَ لأَخيهِ: يا أَحمَق اِستَوجَبَ حُكمَ المَجلِس، ومَن قالَ لَه: يا جاهِل اِستَوجَبَ نارَ جَهنَّم. 23 فإِذا كُنْتَ تُقَرِّبُ قُربانَكَ إِلى المَذبَح وذكَرتَ هُناكَ أَنَّ لأَخيكَ علَيكَ شيئاً، 24 فدَعْ قُربانَكَ هُناكَ عِندَ المَذبح، واذهَبْ أَوَّلاً فصالِحْ أَخاك، ثُمَّ عُدْ فقَرِّبْ قُربانَك. 25 سارعْ إِلى إِرضاءِ خَصمِكَ ما دُمْتَ معَه في الطَّريق، لِئَلاَّ يُسلِمَكَ الخَصمُ إِلى القاضي والقاضي إِلى الشُّرطِيّ، فتُلْقى في السِّجْن. 26 الحَقَّ أَقولُ لَكَ: لن تَخرُجَ مِنه حتَّى تُؤدِّيَ آخِرَ فَلْس. 27 سَمِعْتُم أَنَّه قيل: لا تَزْنِ. 28 أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: مَن نظَرَ إِلى امرأَةٍ بِشَهْوَة، زَنى بِها في قَلبِه. 29 فإِذا كانت عينُكَ اليُمنى حَجَرَ عَثْرَةٍ لَكَ، فاقلَعْها وأَلْقِها عنك، فَلأَنْ يَهلِكَ عُضْوٌ مِن أَعضائِكَ خَيْرٌ لَكَ مِن أَن يُلقى جَسَدُكَ كُلُّه في جَهنَّم. 30 وإِذا كانت يَدُكَ اليُمنى حَجَرَ عَثْرَةٍ لَكَ، فاقطَعْها وأَلْقِها عنك، فَلأَنْ يَهلِكَ عُضوٌ مِن أَعضائِكَ خَيرٌ لكَ مِن أَن يَذهَبَ جسدُكَ كُلُّه إِلى جَهنَّم. 31 وقد قيل: مَن طلَّقَ امرأَتَه، فلْيُعْطِها كِتابَ طَلاق . 32 أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: مَن طلَّقَ امرأَتَه، إِلاَّ في حالةِ الفَحْشاء عرَّضَها لِلزِّنى، ومَن تَزَوَّجَ مُطَلَّقَةً فقَد زَنى. 33 سَمِعتُم أَيضاً أَنَّه قِيلَ لِلأَوَّلين: لا تَحْنَثْ، بل أَوفِ لِلرَّبِّ بِأَيْمانِكَ، 34 أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: لا تَحلِفوا أَبداً، لا بِالسَّماءِ فهِيَ عَرشُ الله، 35 ولا بِالأَرضِ فهيَ مَوْطِئُ قدَمَيْه، ولا بِأُورَشليم فهيَ مَدينةُ المَلِكِ العَظيم. 36 ولا تَحلِفْ بِرأسِكَ فأَنتَ لا تَقدِرُ أَن تَجعَلَ شَعرةً واحِدَةً مِنه بَيضاءَ أَو سَوداء. 37فلْيَكُنْ كلامُكم : نعم نعم، ولا لا.فما زادَ على ذلك كانَ مِنَ الشِّرِّير. 38 سَمِعتُم أَنَّه قيل: العَينُ بِالعَين والسِّنُّ بِالسِّنّ 39 أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: لا تُقاوِموا الشِّرِّير، بَل مَن لَطَمَكَ على خَدِّكَ الأَيْمَن فاعرِضْ لهُ الآخَر. 40ومَن أَرادَ أَن يُحاكِمَكَ لِيَأخُذَ قَميصَكَ، فاترُكْ لَه رِداءَكَ أَيضاً. 41 ومَن سَخَّرَكَ أَن تَسيرَ معه ميلاً واحِداً. فسِرْ معَه ميلَيْن. 42 مَن سأَلَكَ فأَعطِه، ومَنِ استَقرَضَكَ فلا تُعرِضْ عنه. 43 سَمِعتُم أَنَّه قِيل: أَحْبِبْ قَريبَك وأَبْغِضْ عَدُوَّك. 44 أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: أَحِبُّوا أَعداءَكم وصَلُّوا مِن أَجلِ مُضطَهِديكُم، 45 لِتَصيروا بني أَبيكُمُ الَّذي في السَّمَوات، لأَنَّه يُطلِعُ شَمْسَه على الأَشرارِ والأَخيار، ويُنزِلُ المَطَرَ على الأَبرارِ والفُجَّار. 46 فإِن أَحْبَبْتُم مَن يُحِبُّكُم، فأَيُّ أَجْرٍ لكم؟ أَوَلَيسَ الجُباةُ يفعَلونَ ذلك؟ 47 وإِن سلَّمتُم على إِخواِنكم وَحدَهم، فأَيَّ زِيادةٍ فعَلتُم؟ أَوَلَيسَ الوَثَنِيُّونَ يَفعَلونَ ذلك؟ 48 فكونوا أَنتُم كامِلين، كما أَنَّ أَباكُمُ السَّماويَّ كامِل."
عندما قرأت هذه الكلمات كـ مسلم لأول مرة وجدت ما شد بصري وسلب قلبي وعقلي نحو هذا الرقي وتلك العبقرية لدى المسيح؛ وكم تختلف نظرته تماما عن أي شيء تعودت عليه. الله في المسيحية لا يرثي لحال الخطاة أو ينظر إليهم بتعالٍ دوغمائي أو يتوعدهم بنيران لا تبقي ولا تذر بل يشفق في حنان أبوي عليهم ويعرف أن ضعفهم ليس بشيء غريب يصيبه بالمفاجأة بينما في الإسلام الله دائما يتوعد حتى وإن حث الناس على فضيلة الشكر فيقول القرآن: وإنْ شكرتم لأزيدنكم وإنْ كفرتم إن عذابي لشديد. لا يتمالك واضع القرآن إلا أن يختم كل شيء بنغمة سلبية كلها تهديد ووعيد وترهيب الناس من العذاب. وبما أن الناس مطبوعون على صور آلهتهم تجد أمة الشرق هي أكثر أمة بين الأمم تميل إلى النغمة السلبية وتطغى عليها الروح السوداوية ولا تخلو من أساليب التهديد والوعيد. ماذا يحدث لو أن صاحب القرآن كان قد قال: "ولئن شكرتم لأزيدنكم" ثم توقف هنا متوسماً في ضمائرنا أن تتجاوب مع ما هو إيجابي وتشجيعي؟ في مقولة المسيح الراقية "أحبوا أعدائكم" نجد ارتقاء المستوى الإلهي في تعاليمه؛ وعليه يكون المسيح أقرب للإله في تعاليمه وشخصه منه للإنسان. المسيح كان دائماً إيجابياً حتى تجاه من لم يقبلوا أن يتبعوه لسبب أو لآخر. لم يهددهم أو يتوعدهم ومعظم وعيده وغضبه كان ينصب على أهل النفاق الديني من أحبار اليهود وحاخاماتهم ممن حملوا الناس أحمالاً صعبةً ولم يحركوا واحداً منها بإصبعهم. يرفض المسيح الروح السلبية ويرفض كذلك لهجة التهديد والوعيد تجاه من لم يتبعه بل يقول له عبارة ترن بأذني كلما شئت التكلم عن المسيح وبإسم المسيح والعبارة هي "لست بعيداً عن ملكوت الله" مع أنه كان قادر أن يقول الويل والنار وبئس المصير لك إنْ لم يتبعني. جاءت هذه العبارة في إنجيل مرقس الفصل 12
"وتَقدَّمَ أَحدُ الكَتَبةِ -وكانَ قد سَمِعَهم يَتباحثونَ، ورَأَى أَنَّ يَسوعَ قد أَحسنَ في الجَوابِ لَهم- فَسَأَلَهُ: "أَيُّ وَصيَّةٍ هي أُولى الوَصايا جميعًا؟" 29 فأَجابَ يَسوع: "أَلأُولى هيَ: اسمَعْ يا إِسْرائيل؛ أَلرَّبُّ إِلهُنا، هُوَ الرَّبُّ الوَحيد: 30 فأَحْبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بكلِّ قلبِكَ، وكلِّ نَفْسِكَ، وكلِّ ذِهْنِكَ، وكلِّ قُوِّتِك. 31 والثَّانيةُ هيَ هذِه: أَحبِبْ قريبَكَ كَنفسِك. وليسَ مِن وَصيَّةٍ أُخرى أَعظَمَ مِن هاتَيْن". 32 فقالَ لهُ الكاتِب: "حَسَنٌ يا مُعلِّم! لَقد أَصَبْتَ إِذ قُلْتَ: إِنَّهُ الوحيدُ، ولا آخَرَ سِواه؛ 33 وإِنَّ مَحبَّتَهُ بكلِّ القَلبِ، وكلِّ العَقلِ، وكلِّ القُوَّةِ، ومَحبَّةَ القَريبِ كالنَّفسِ لأَفضلُ من جميعِ المُحرَقاتِ والذَّبائح". 34 فلمَّا رأَى يَسوعُ أَنَّهُ قد أَجابَ بحِكْمةٍ، قالَ لهُ: "لَستَ بِبَعيدٍ عن مَلكوتِ الله". ولم يجسُرْ أَحدٌ من بَعدُ، أَنْ يُلقِيَ علَيهِ سُؤالاً."
الميل الطبيعي لدى الإنسان هو أن يجلد الآخرين إن لم يسبقهم بجلد نفسه جلداً ذاتياً دون شفقة. لكن المسيح يترفع عن هذا الميل البشري الطبيعي ونرى ألوهته في عبارته الشهيرة الدالة على رقيه وبعيداً عن لهجة التهديد والوعيد "لَستَ بِبَعيدٍ عن مَلكوتِ الله". المسيحي الراقي سيقول هذه العبارة وهو يثق أن الله أكبر من قلوبنا ومحبته غير مشروطة ويظل دائما يطرق باب قلبنا وهي مبادرة الحب الإلهي الصادرة من إله يحبنا أولاً وهو البادئ بالحب والتجاوب متوقف علينا ولكنه لا يقتحم حياتنا عنوةً أو كراهية أو "طوعاً أو كرهاً".
أيضا أذكر وأنا طفل مسلم استيائي عند سماع كلمة "النكاح" ورأيتها كلمة بذيئة وشوارعية وإلا كيف يشعر أبٌ ما عندما يتقدم رجل لخطبة إبنته ويقول له "أريد أن أنكح بنتك؟" تتوقعون ماذا يكون رده على عريس الغفلة هذا؟ هل يقول له: وماله.. تعالى انكح وبكل سرور؟ المعنى واضح ولا يحتاج لمعاجم ومن الجيد أن نسير مع الانطباع الأول الذي يتبادر للذهن، ولا نحاول إيهام أنفسنا وإقناعها عنوة بما قد تعافه النفس ويمجه الذوق الإنساني في حالته العفوية العادية. في الواقع لا يوجد زواج في الإسلام وإنما هناك نكاح. في كتب الفقه الإسلامي لا يستخدم أهل الفقه كلمة (زواج) وإنما يستخدمون مكانها كلمة (نكاح) فهي الكلمة المتداولة في كتب الفقه وعليها مدار البحث بين الفقهاء. والقرآن دائما يحض أتباعه من الذكور أن "فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ". ويعرفه الأحناف بقولهم: النكاح عبارة عن ضم وجمع مخصوص وهو الوطء لأن الزوجين حالة الوطء يجتمعان وينضم كل واحد إلى صاحبه (الاختيار شرح المختار جـ 2). تعريف الزواج بأنه نكاح والنكاح أنه وطء هو تعريف مهين بصدد الحديث عن ناكح ومنكوحة وأيضاً الحديث في الوطء هو عن شيء يطأه الإنسان بالأقدام ويدوس برجليه عليه وفي هذا إهدار للكرامة الإنسانية وتقليل من قيمة المرأة الموطوءة في النكاح أو الوطء. لدى جميع شعوب العالم والتي تضع للإنسان قدر من الكرامة، الجنس هو التقاء نفسي وقلبي واتحاد نابع من فيض هذه العلاقة الحميمية في الصميم ولا يكون الجنس أبداً نوعاً من أنواع الوطء. يكفينا أن نتصفح تراث الجنس العالمي عند الأسيويين في كتاب الكاما سوترا ونرى كيف أن الجنس لديهم دخل في أدبيات المقدس فيها الكلام بصدد اتحاد وانسكاب واحد داخل الآخر وكأني بتروس تتعاشق وليس بقدم تطأ كما قال صاحب الرسالة المحمدية. كيف يتباهى رجل بأنه "يطأ" إمرأة والكلام عند أقوام آخرين هو عن قدرته في إشباعها وتحقيق أمانيها الجنسية؟ ألم يكن أجدر بالجنس أن يكون إمتاعاً متبادلاً بين الرجل والمرأة؟ لعمري لو أراد الأعرابي أن يطأ وطئاً فبالأحرى به أن يطأ ملاءة السرير ويثقبها بعضوه لا إنسانة لها كيان ووجود مثله وتريد منه أن يبادلها الشعور الجنسي لا أن يطأها كما أراد المشرع المحمدي.
يأخذ الرقي المسيحي جانباً آخراً كما أراه في نظرة الله للإنسان. في الإسلام يخلق الله الإنسان والهدف من الخلق هو العبادة فنقرأ: "وما خلقت الجن والإنسان إلا ليعبدون". هذا في نظري نوع من أنواع النرجسية الربانية والتي فيها يخلق الله عبد من بين العبيد ويسخره لعبادته. والرقي المسيحي هنا يرفض كل صور من صور العبودية لله لأن الله لا يسرّ أبداً بالعبيد مسلوبي الإرادة بل يريد الأصدقاء كما قال المسيح "لا أعود أسميكم عبيداً بل أحباء" وفي ترجمة إنكليزية "بل أصدقاء" (يوحنا 15: 5)؛ والفرق بين الصديق والعبد شاسع. سألوا أحد أصدقائي المسيحيين: "هل تخشى الله؟" فأجاب: "لا.. أخشى الأصدقاء". الرقي المسيحي يقتضي علاقة بعيدة تماما عن الخوف وسبله وإنما فيها يطمئن المؤمن إلى حب الله واثقاً أن الله ليس إلا حباً ولا يريد أبداً أن يخسف بالإنسان أو يرعبه أو يكرهه على الطاعة. العبد يعمل بالأجرة (أُجريّ، كما نقول بمصر) أي أنه يكدح ويتعب وينتظر الأجرة في النهاية، أما الإبن فليس كذلك لأنه يوقن أن كل ما للآب له وما له للآب في علاقة متبادلة جميلة وصفها بولس بالعبارة التالية: "إِنَّ الَّذي لم يَضَنَّ بابْنِه نَفسِه، بل أَسلَمَه إِلى المَوتِ مِن أَجْلِنا جَميعًا، كَيفَ لا يَهَبُ لَنا معَه كُلَّ شَيء؟" (رومية 8: 32). الله، الذي أخذ طبيعتنا البشرية في تجسد المسيح وأعطانا طبيعته، فصرنا شركاء الطبيعة الإلهية كما يقول القديس بطرس. لقد أعطانا كل شيء له بدون شك ولم يسمح لنا مجالاً لأن نرى أنفسنا عبيدا يعملون عنده بالسخرة أو بالأجرة. وعندما أرد الابن الضال في المثل الذي ضربه المسيح (لوقا 15) عن حنان الله وأبوته الفائقة أن يستقل بذاته وطالب بميراثه وأبيه لا يزال على قيد الحياة"، لم يعترضه الأب أو يقلل من حريته أو يقف في طريقه ويعترضه أثناء خروجه من باب الدار ولكنه يحترم طلبه ويدعه يفعل ما تمليه عليه إرادته وهو يعلم كل العلم ما سيفعله الإبن بالميراث من تبديد وما سيفعله بذاته من إسراف فاجع ولكنه كان أيضا يثق أن الحب الأبوي لديه، وهو حب الله الآب المقصود هنا، من شأنه أن يحركه فيدرك أن ما عدا هذا الحب هو ناقص ولا راحة إلا بالعودة لراحة الآب السماوي؛ وفي راحته نستريح حقاً
تربيت كمسلم وكشأن الكثير من المسلمين وغيرنا ممن فطروا على التفكير البدائي فتصورنا الله "سبحانه وتعالى" وكأنه إنسان ضخم جالس في السماء يرسل المطر كمكافأة على الطاعة والامتثال لأوامره ويرسل الزلازل والريح الصرصر العاتية كعقاب على الإثم والفجور. تتم تربية الطفل وبداخله يتم غرس خوف من الله ورعب من جلاله؛ فكما يرتعب من الحرائق وصوت الرعد يرتعب كذلك من نيران الله. تصورناه كأطفال مسلمين وكأنه إنسان ضخم، يجلس في عرش السماء ويوزع الأرزاق متباهياً أنه الغني ونحن الفقراء (سورة محمد آية 28) ويتباهى في خيلاء أعرابي قائلا: "ألم أقل لكم أني أعلم ما لا تعلمون" (سورة البقرة آية 30)؛ إنه يتحكم في المصائر كيفما شاء، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، عن يمينه حدائق وعن يساره حرائق. تأتي المسيحية وتهدم هذا التصور البدائي والذي هو من مخلفات العقل البدائي فتخبرنا أن الله خالق الكون وما فيه هو أب. أقصى ما يشتهيه الله ليس التعظيم والتفخيم النرجسي بل الإنسان والإنسان فقط وهو القائل في الوحي الطاهر في سفر الأمثال 8 وآية 31 "ونعيمي مع بني البشر". هذا يوافق ما قاله فيما بعد القديس إيرينيوس في كتابه "الرد على الهرطقات" (St. Irenaeus, Against the Heresies, IV,20,7) ما جاء باللفظ التالي باللاتينية " "Vivens homo gloria Dei; vita hominis, visio Dei" والتي تقول إن مجد الله هو الإنسان الحي، وحياة الإنسان هي ظهور لله. كلما صار الإنسان حياً وتفيض فيه الحياة بقوتها وصار ممتلئاً بها، كلما تمجد الله. هذا ما عناه المسيح لما قال: "أَمَّا أَنا فقَد أَتَيتُ لِتَكونَ الحَياةُ لِلنَّاس وتَفيضَ فيهِم" (يوحنا 10: 10).
الرقي المسيحي يضع حرية الإنسان أولوية أولى وأخيرة مادامت حرية نفهمها في ضوء حرية الله نفسه ولا تصير الحرية فرصة لاستعباد الإنسان نفسه بنفسه راسفاً في أغلال الخطيئة كما نهانا القديس بولس قائلاً في غلاطية 5: 13 "إِنَّكم، أَيُّها الإِخوَة، قد دُعيتُم إِلى الحُرِّيَّة، بِشَرطٍ واحِدٍ وهو أَن لا تَجعَلوا هذِه الحُرِّيَّةَ فُرصَةً لِلجَسَد، بل بِفَضلِ المَحَبَّةِ اخدِموا بَعضُكم بَعضًا، 14 لأَنَّ تمامَ الشَّريعةِ كُلِّها في هذهِ الكَلِمةِ الواحِدة: أَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ". بحسب هذا الكلام، نقيض الحرية هو الأنانية والحرية ينتج عنها أننا نتفانى في خدمة بعضنا البعض. وهذا هو سمو الضمير المسيحي والذي فيه يتم تقدير الإنسان على أنه سيتخذ قرارات واعية مادام الله يسأله أن يقوم بالاختيار بنفسه في تثنية 30 وآية 19 "قَدْ جَعَلتُ قُدَّامَكَ الحَيَاةَ وَالمَوْتَ. البَرَكَةَ وَاللعْنَةَ. فَاخْتَرِ الحَيَاةَ لِتَحْيَا". يظهر رقي الضمير المسيحي هنا في أن الله يحترم الإنسان فصار ضمير الإنسان هنا لا ينشأ من خوف من السماء أو رهبة من العقاب أو نتيجة شعور مقيت بالذنب وكأن الأمر ترغيب وترهيب. نفعل الخير هنا لا طلباً في الثواب ولكن طلباً للخير حيث قال المرنم خيري لا شيء غيرك. سنتفانى في فعل الخير لأننا لا نملك إلا أن نحب تماماً مثل غريزة الأمومة وهي لا يسعها إلا أن تكون أُمّاً فتعطي دون حساب؛ والحب هنا يترجم في أفعال خيرة وابتعاد عن الشر؛ فالضمير الذي يتكون من خوف ينهار عندما يأمن وأما ضمير العبيد يرقب أعماله في وجل وإذ بخطواته تتعثر فيعيش في رهبة لئلا تطاله عدالة السماء وهو دائما في جحيم من الخوف والرهبة ويخشى الحساب العسير يوم الدين. أمام هذا نسمع صوت الإنجيل قائلا: المحبة الكاملة تطرح الخوف خارجاً ولا خوف في المحبة. ثقوا أنكم أبناء والابن لا يفقد بنوته لأي سبب من الأسباب. أنا أبوكم وأنتم أبنائي؛ فليغمركم الأمان وتملأكم الطمأنينة. أنا داخلكم وفيكم وأنتم فيّ ولا شيء يفصلكم عني وعن محبة المسيح، ولا حتى مائة مليون خطيئة. اسلكوا كأحرار لأنكم أبناء. افعلوا الخير لذات الخير؛ فالفضيلة جزاء نفسها والشر جزاء نفسه والعقاب عن الشر هو في الفعل ذاته؛ والأفعال يجب أن تفعلوها لذاتها لا طلباً في ثواب أو خوفاً من عقاب لأن الحب يدفعكم بقوته الإلهية في كل ما تفعلون. آمنت لذلك تكلمت، وأحببت لذلك فعلت. وكأني بالله يقول:عندما ترون ذاتكم فيّ، أريد لكم أن تحسوا بذواتكم إحساس القوة والثقة الذي يليق بالبنين؛ أبناء وبنات الله، وفي تلك اللحظة ترون ذاتكم كما هي فأجبر كسوركم، وأشفي سقمكم، وبلطفٍ أقوّم الاعوجاج.
في الرقي المسيحي لا نرى مسيحاً فيه إله يظهر ثم يختبيء في ناسوت ويتبادل الأدوار من حين لآخر مستعرضاً قدرته على فعل الخوارق مثلما هو لسان حال قوم عندما قال لهم الإله: ألم أقل لكم أني أعلم ما لا تعلمون؟ دائما نرى يسوع حاضراً في إنسانيته الكاملة وهو يدعونا أيضا لنحيا إنسانيتنا ولا نتنكر لمشاعرنا. كانت إنسانية المسيح حاضرة بنسبة مائة في المائة كما أنه ألوهته (من حيث هو كلمة الله) كانت هي الأخرى حاضرة بنسبة مائة في المائة؛ وعليه لا يحق لأحد أن ينكر عليه بشريته أو ننتظر منه أن يتنكر لها كما هو شأن قوم يسرفون على أنفسهم في التواضع والتقوى المزيفة فتختلط عليهم الأمور وبسبب هذا الخلط ظهرت مثلا بدعة الغنوص في أوساط المسيحية القديمة ولا تزال آثارها حاضرة إلى اليوم في بعض الأوساط. لم يكن المسيح روحانياً بالمفهوم الشعبي المبتذل في أيامنا فيسرف على نفسه في التقشف وما أكثر الذين يمزجون الغنوص القديم بروحانيتهم المسيحية حتى إنهم أنكروا على الإنسان أبسط الاحتياجات المادية. لم يخجل المسيح من المادة وهو الذي ارتضى أن يلبس طبيعتنا وجسدنا المادي البشري وقد قدّسه فيه بل ذهب للأعراس وشاركهم فرحهم وطربهم ولا أظن أنهم في أفراح ذلك الزمان كانوا ينشدون التراتيل المسيحية بل الأغاني العرسية الشعبية المنتشرة في فلسطين. كان يوحنا المعمدان متقشفاً زاهداً فأكل الجراد وهو يتبتل إلى الله في الصحراء. لاحظ المسيح أن الناس لا يرضيهم شيء فقال في إنجيل متى 11وآية 18: "جاءَ يُوحنَّا لا يَأكُلُ و لا يَشرَب فقالوا: لقَد جُنَّ. 19جاءَ ابنُ الإِنسانِ يَأَكُلُ ويَشربَ فقالوا: هُوَذا رَجُلٌ أَكولٌ شِرِّيبٌ لِلْخَمْرِ صَدِيقٌ لِلجُباةِ والخاطِئين. إِلاَّ أَنَّ الحِكمَةَ زَكَّتْها أَعمالُها". حقاً كان المسيح يأكل كأي إنسان عادي ويستطيب الطعام ويشرب الخمر ويصادق الجباة والخاطئين؛ وبهذا فهو قد خالف وخرج على توقعات الناس والتي تميل لتأطير الناس ووضعهم في قوالب يسجنونهم فيها فيصير على هواهم. لكن هذا ليس للبشر أن يقرروه بل هذا كان المسيح كامل الإنسانية والتي من خلالها يرتقي بإنسانيتنا ويرفعها لمستوى أعلى مما تصورناها بأن يشركنا في الحياة الإلهية التي كان يحياها من حيث نثبت فيه وهو فينا ونأخذ ما له بما أنه قد أخذ ما لنا.
الرقي المسيحي يقول لابد من احترام آدمية الإنسان وهو في أقسى مواطن الضعف على غرار المسيح الذي مثلت أمامه المرأة الخاطئة فلم يحاسبها بل قال عبارته التاريخية: اذهبي ولا تخطئي.. ولا أنا أدينك يا امرأة. اليوم ديان الكون كله يقول: ولا أنا أدينك يا امرأة وياله من رقي حقاً.
تسرني مراسلتكم على بريدي الآتي:
هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.