الكاتب: دعوة للجميع
كنتُ أنا وزوجتي جالسَيْن على المقعد في الحديقة المتاخمة لمنزلنا - كما تعوَّدنا - لنُراقب عالم الطبيعة يمرُّ أمام أعيننا. وإذا بحمامة تهبط على شجرة أمامنا. كان في منقارها غُصَيْن صغير، وقالت لي زوجتي: ”إنها كما يبدو تشرع في إنشاء عُشٍّ جديد!“.
ورددتُ بينما أراقبُ الحمامة: ”صَدَقتي فيما تقولين“. وراقبتُ الحمامة وهي تختار موضعاً مناسباً على الشجرة وتشبك الغصن الصغير في مكانه. ثم أتت حمامة ثانية وفي منقارها غُصَيْن آخر تشبكه في الغُصَيْن الأول.
وعلى مدى الأيام القليلة التالية، كنا نراقب الحمامتين الزوجين وهما يعملان معاً في تعاون لإنشاء عُشٍّ مـريح ليستقبل البيض المزمع بَيْضَه.
وأخيراً اكتمل العش. وبعد أيام قليلة، استقرت الحمامة الأُم في عشِّها الجديد. وأخذ الزوجان يتبادلان تدفئة البيض الجديد الواحد تلو الآخر. وبينما الواحد يهتم بإحضار الطعام، إذا بالآخر يوفِّر الدفء للبيض بالرقاد عليه.
إنها شركة حياة مُثمرة. ففي كل ساعة أو أقل، كانت الحمامتان بالتبادُل يُحافظان على سلامة البيض، بينما الآخر يُحضر الطعام.
وهطل المطر، وتدنَّى مستوى درجة الحرارة إلى أقل من درجة التجمُّد، بينما الحمامتان اللتان أخذتا وضع الأمان لعشِّهما، كانا يرقدان على بيضهما، وهما يعرفان واجبهما تماماً. وهبَّت الرياح، واهتزَّت الشجرة بشدة، والحمامتان تقفان بثباتٍ وصمود. فلابد أن يحفظا البيض من السقوط.
وبعد أسبوع أو أكثر، أخذنا - نحن الاثنين – نراقب كيف تحمل الحمامتان الطعام للزغاليل المفقوسة من البيض! ومرة أخرى كانا يتبادلان العمل، مُضحيتين باحتياجاتهما الشخصية من أجل صغارهما الذين باركهما الله بإعطائهم لهما. وراقبنا المناقير الصغيرة وهي تفتحها الصغار وتمدُّها نحو الأُم والأب لتتلقَّى طعامها منهما.
وفي صباح أحد الأيام وأنا أحتسي الشاي وأقرأ في أحد الكتب، وكانت الشمس تنشر أشعَّتها ودفئها عليَّ، إذ كان النهار مُشرقاً لم يكن أحد يتململ فيه؛ وإذا بي أسمع صوت سقسقة طير حولي. ورفعتُ نظري ولم أجد طائراً في محيط رؤيتي. وتكررت السقسقة مرة أخرى، وقلتُ: ”حسناً! إني أسمعك تُسقسق، ولكن أين أنت؟“.
ووقفتُ في مكاني، وكانت الحديقة خالية، وحينئذ توقَّفت السقسقة. وأخذتُ أجول ببصري حولي، ولم أجد شيئاً، ثم استأنفتُ القراءة.
ولكني – بطرف عيني – أحسستُ بحركة. كانت إحدى الزغاليل الصغار تَثِب وتقفز على قدمي، وهي تُسقسق وتنظر إلى أعلى نحو وجهي. وكان الريش الأبيض للطائر الصغير ينتفش على وجهه ورأسه. يبدو أن شيئاً ما حدث للزغلول الصغير في هذا اليوم. وتكلَّمتُ معه:
- ”أهلاً بصديقي الصغير! هل بدأتَ اليوم تحبو وتقفز خارج العُش!“.
وإذا بي أسمع صوت سقسقته. فتحركتُ من مكاني، بينما قفز الزغلول الصغير إلى مكانٍ آمِن في شجرة صغيرة عند السور.
- ”إذن، فأنت كنتَ مختبئاً هناك!“
وبنظرة خاطفة نحوي ومن وراء الأغصان الشائكة، سمعتُ صوت سقسقة! فتركته وحده ودخلتُ إلى بيتي.
وبعد ذلك، خرجتُ ونظرتُ إلى عُشِّ الحمام، ولم يكن سوى زغلولين فقط على فرع الشجرة. ثم لاحظتُ بعد ذلك أنَّ واحداً هو الذي بَقِيَ في العُش، وكان يقف على حافة العش، وهو يُسقسق مُنادياً على شقيقيه اللذين غادرا العش.
أما الحمامتان، الأُم والأب، فقد استمرا يطيران بالتبادُل حول الحديقة. فقد توقَّفا عن تغذية صغارهما في مناقيرهم، كانا فقط يضعان الطعام أمامهم داخل العش. وكان على الزغلول الصغير أن يتعلَّم كيف يسدُّ جوعه، بأن يلتقط بمنقاره الطعام ويُغذِّي نفسه. وهذا الزغلول الذي بَقِيَ في العشِّ وقف وظل يُسقسق طالباً غذاءه.
وراقبتُ المنظر يوماً آخر. فالحمامتان، الأُم والأب، كانا يطيران إلى غصن قريب من العش، وفي فمهما طعام يتدلَّى من منقاريهما. وأخذ الزغلول المتبقِّي في العش يُسقسق وهو يُراقب والديه القادمين ومعهما الطعام، وكأنه يقول: ”سقسق! أين طعامي؟“.
وبعد أيام جلس على حافة العش، وأخذ يصيح طالباً غذاءه، ثم مدَّ جسمه الصغير إلى الأمام، ورفرف بجناحيه الصغيرين، ثم توقَّف عن السقسقة، وأخيراً استقرَّ في العش.
لقد كان يصيح طالباً الطعام، ولكن لا طعام أتى إليه. كان الطعام مع والديه وكانا يُلوِّحان به أمام زغلولهما الصغير. وطارت الأُم بعيداً، واستولى الجوع على الصغير. ووضعت الأُم الطعام على الأرض خارج العش. فقفز الزغلول إلى حافة العش، وبدأ خوفه يتضاءل أمام جوعه، ثم نظر إلى الأرض، ثم فرد جناحيه ووثب تجاه الأُم وهي على الأرض.
لقد علَّمته الغريزة التي وضعها الله فيه أن يقفز ويطير. ولذلك رقص قلبه فَرِحاً، فها هي الأرض تُرحِّب به على صدرها. وكلَّلت الأُم مجهوداتها بالنجاح عندما التقط الصغير الطعام بمنقاره لأول مرة من خارج العش.
وهكذا تعاونت الحمامتان الزوجان على إلقاء دروس كثيرة لصغارهما ليتعلَّموها: فهما الاثنان يتعاونان في الحياة معاً ومن أجل صغارهما، ويتبادلان الأعمال معاً لتوفير الطعام لصغارهما في نفس الوقت، بينما يمكث أحدهما مع الصغار لئلا يخطفهم نسر أو صقر أو قط!
إنهما مؤتمنان على أسرتهما الصغيرة، إلى أن يشبَّ الصغار فيُعلِّمانهم:
+ ”الحياة تحتاج إلى الطعام، فإن أردتم أن تأكلوا فلتُغادروا العش حيث كنَّا – نحن الاثنين – نطعمكم منقاراً لمنقار. أما الآن فأنتم محتاجون أن تعرفوا متى يأتي الوقت لتغادروا العش، لتأكلوا خبزكم بعرق جبينكم!“.
+ «اذهب إلى النَّملة أيها الكسلان. تأمَّل طُرُقها وكُن حكيماً» (أم 6: 6).
+ «إلى متى تنام أيها الكسلان. متى تنهض من نومك؟ قليل نوم بعد قليل نُعاس، وطَيُّ اليدين قليلاً للرُّقود، فيأتي فقرك كساعٍ، وعوزك كغازٍ» (أم 6: 9-11).
+ «قال الكسلان: الأسد في الخارج، فأُقتل في الشوارع» (أم 22: 13).
+ «انظروا إلى طيور السماء. إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن. وأبوكم السماوي يَقُوتُها» (مت 6: 26).
(ولكن لابد من الخروج للبحث عن الطعام).
+ «أنتم تعلمون أن حاجاتي وحاجات الذين معي خدمتها هاتان اليدان» (أع 20: 34).
+ «إذ أنتم تعرفون كيف يجب أن يُتمثَّل بنا، لأننا لا نسلك بلا ترتيب بينكم، ولا أكلنا خبزاً مجاناً من أحد، بل كُنَّا نشتغل بتعبٍ وكدٍّ ليلاً ونهاراً لكي لا نُثقِّل على أحدٍ منكم» (2تس 3: 8،7).
+ « إنْ كان أحدٌ لا يُريد أن يشتغل فلا يأكل أيضاً. لأننا نسمع أن قـومــاً يسلكون بينكم بـلا ترتيب، لا يشتغلون شيئاً، بـل هم فضوليون. فمثل هـؤلاء نوصيهم ونعظهم بـــربنا يسـوع المسـيح أن يشتغلوا بهدوء ويأكلوا خبز أنفسهم» (2تس 3: 10-12).