الكاتب: دعوة للجميع
"سكِّن نفسك في إطار العزلة تلتقِ الرب في نفسك"
(تريزا الآفيلية)
إن المسيح يدعونا من الوحدة إلى العزلة. والخوف من ترك المرء وحده يصعق الناس. فرُب فتاة جديدة في الحي تقول لأمها باكية: "لا أحد يلعب معي أبداً". ورُب شاب في السنة الجامعية الأولى يحن إلى أيام المدرسة الثانوية حين كان قطب الجاذبية: "أنا الآن نكرة". ومديرة أعمال تجلس مكتئبة في مكتبها, قوية لكن وحيدة. وعجوز تستلقي في دار عجزة بانتظار أن تمضي إلى "البيت".
وخوفنا من أن نترك وحدنا يدفعنا إلى حيث الضوضاء والجموع. فنحافظ على سيل دائم من الكلمات حتى لو كانت تافهة. ونشتري راديوهات تُربط في معاصمنا, أو تُركز فوق آذاننا, حتى إذا لم يكن بقربنا أحد لا يُحكم علينا بالصمت على الأقل. وقد أحسن تي. أس. إليوت تحليل الحضارة الغربية إذ كتب: "أين سيوجد العالم, أين ستتردد أصداء الكلمة؟ ليس هنا, حيث لا صمت كاف!".
لكن الوحدة أو الثرثرة ليستا الخيارين الوحيدين أمامنا, ففي وسعنا أن نتعهد عزلة وصمتاً داخليين يحرراننا من الوحدة والخوف. ذلك أن الوحدة فراغ داخلي, أما العزلة فشبع داخلي.
والعزلة حالة ذهنية وقلبية أكثر من أن تكون مكانية. فثمة عزلة قلبية يمكن الحفاظ عليها كل حين. وليس لحضور الجموع أو لغيابها كثير من العلاقة بهذه اليقظة الداخلية. فمن الممكن أن يكون المرء ناسكاً في الصحراء ولا يختبر العزلة أبداً. أما إذا كانت لنا عزلة داخلية, فلا نخشى البقاء وحدنا, لأننا نعلم أننا لسنا وحيدين. ولا نخشى أيضاً أن نوجد مع الآخرين, لأنهم لا يسيطرون علينا. ففي خضم الضجيج والتشويش, نستقر في صمت داخلي عميق. وسواء أبمفردنا كنا أم بين الناس, نحمل معنا دائماً مقدساً قلبياً قابلاً للحمل والنقل.
هذا, وإن للعزلة الداخلية تجلياتها الخارجية. إذ تتوافر حرية كون المرء وحده, لا ليكون بمنأى من الناس, بل يسمع الهمس الإلهي بطريقة أفضل. فإن المسيح عاش في "عزلة قلبية" داخلية. وقد اختبر أيضاً العزلة الخارجية تكراراً. فقد استهل خدمته بقضائه أربعين يوماً وحيداً في البرية (متى 4: 1 -11). وقبل اختياره للاثنى عشر, قضى الليل كله وحيداً في التلال البرية (لوقا 6: 12). ولما بلغه نعي يوحنا المعمدان "انصرف من هناك في سفينة إلى موضع خلاء منفرداً" (متى 14: 13). وبعد الإشباع المعجزي للخمسة الآلاف, "صعد إلى الجبل منفرداً..." (متى 14: 23). في أعقاب ليل طويل حافل بالعمل "في الصبح باكراً جداً قام وخرج ومضى إلى موضع خلاء... (مرقس 1: 35). ولما رجع الاثنا عشر من إرسالية شفاء وتبشير, وجههم يسوع قائلا: "تعالوا أنتم منفردين إلى موضع خلاء" (مرقس 6: 31). وعلى أثر شفاء أبرص, "كان يعتزل في البراري منفرداً ويصلي" (لوقا 5: 16). وبصحبة ثلاثة من تلاميذه, طلب صمت جبلٍ منفردٍ ليكون مسرحاً للتجلي (متى 17: 1-9). وعند استعداده لعمله الأسمى والأقدس, التمس عزلة بستان جثماني (متى 26: 36-46). ولئن كان في وسعي أن استمر, فربما هذا كاف لتبيين كون المسيح قد طلب الأماكن المعزولة كممارسة منتظمة لديه. وكذلك ينبغي أن تكون الحال بالنسبة إلينا أيضاً.
في كتاب بقلم ديترتش بونهوفر Dietrich Bonhoeffer عنوانه "الحياة معاً life together", عنون الكاتب أحد فصوله "اليوم معاً" والفصل التالي "اليوم وحدي". وكلا هذين جوهري في سبيل النجاح الروحي. وقد كتب بونهوفر: "ليحذر من لا يقدر أن يبقى وحده من المخالطة.. وليحذر من ليس في المخالطة من البقاء وحده...فكلا الأمرين بحد ذاته ينطوي على أشراك وأخطار. فمن أراد الشركة دون العزلة, غاص في عقم الكلام والمشاعر, ومن طب العزلة دون الشركة, هلك في هوة الغرور والافتتان بالذات واليأس".
لذلك يجب أن نلتمس هدوء العزلة المجدد للنشاط إذا شئنا أنو نوجد مع الآخرين وجوداً غني المعنى. وعلينا أن نطلب الشراكة من الآخرين والمسؤولية تجاههم إذا شئنا أن نكون وحدنا بأمان. فيجب علينا أن نتعهد العزلة والشركة كلتيهما إذا كان لنا أن نعيش طائعين.