الكاتب: دعوة للجميع
لقد كانت حياتي في الداي بريك (دار المعاقين عقلياً التي خدم بها ككاهن مقيم أخر عشر سنوات من عمره) مليئة بالفرح الهائل بالرغم من أني لم أعاني أو أتألم وأتعذب وأبكي في حياتي من قبل بمقدار ما حدث لي هناك. لا يوجد مكان آخر أكون فيه معروفاً بالتمام كما أنا هنا في وسط هذه الجماعة الصغيرة. فمن المستحيل هنا أن أستطيع إخفاء عدم صبري وغضبي واكتئابي وإحباطي على أناس في منتهى التلامس مع ضعفهم كهؤلاء. فاحتياجي للحب والصداقة والمؤازرة واضحة تماماً أمام أعين الجميع. لم اختبر أبداً بمثل هذا العمق من قبل أن طبيعة عمل الكهنوت هي هذا الوجود المتحنن مع آخرين. وأننا نجد كهنوت المسيح في الرسالة إلى العبرانيين إنما يوصف بأنه توحد وتضامن الكاهن مع عذاب البشر. وحين أدعى اليوم بلفظ كاهن فإن هذا يضع أمامي تحدياً كبيراً بان أتخلى عن كل ابتعاد وكل فرصة للوجود في برج عاجي راسخ هناك، بل فقط أن آتي وأقرن ضعفي بضعف هؤلاء الذين أحيا معهم. ويا لذلك من بهجة! إن هذا الاقتران يحمل في طياته فرح الانتماء وبهجة أن تكون جزء من كل وأنك لست غريباً.
إن حياتي في الداي بريك، بطريقة ما، قد منحت عينيّ أن تكتشفا الفرح حيث لا يرى الآخرون سوى مجرد الحزن. فالحديث مع أحد أرباب الشوارع المشردين بتورونتو لم يعد يفزعني ثانية. سرعان ما يتحول المال عن أن يكون الموضوع الرئيسي، ويحل محله: "أين مسقط رأسك يا ترى؟ هل لك أصدقاء؟ كيف تسير حياتك؟" وتتلاقى الأعين، وتتلامس الأيدي، ونعم تأتي الابتسامة التي غالباً ما تكون غير متوقعة، يبرز الضحك فجأة، ثم لحظة ابتهاج حقيقية تأتي. نعم لا زال الحزن هناك ولكن شيئاً ما قد تغير بعدم استمراري ككاهن واقفاً في المقدمة أمام الناس بل بجلوسي معهم واشتراكي معهم في لحظة معية واحدة.
وماذا عن معاناة العالم الهائلة؟ كيف يكون هناك فرح وسط الجائعين والمحتضرين والساقطات والمسجونين واللاجئين؟ كيف يجرؤ أحد عن أن يتحدث عن الفرح في وجه عذاب البشرية المحيط بنا والذي يعلو عن أي حديث؟
إلا أن الفرح فعلاً موجود! فأي إنسان يملك الشجاعة على الولوج إلى أعماق عذابنا البشري، سوف يجد اكتشاف من الابتهاج مختبئ هناك كما الحجر الكريم في جدار الكهف المظلم. لقد حصلت على لمحة من هذا الفرح حينما كنت أعيش مع أسرة فقيرة بأحد المدن الصغيرة بضواحي ليما في بيرو. إن الفقر هناك كان أعظم مما رأيت من قبل في حياتي، ولكني حين أفكر في هذه الأشهر الثلاث التي قضيتها هناك مع بابلو وماريا وأطفالهم أجد ذاكرتي تمتلئ بالضحكات والابتسامات والمعانقات، أجدها تمتلئ بالألعاب البسيطة التي كنا نلعبها والأمسيات الطويلة التي كنا نقضيها في مجرد تبادل القصص والأحاديث. لقد كانت هناك بهجة حقيقية، ليست بهجة مبنية على النجاح أو التقدم أو حل مشكلة الفقر، لكنها البهجة التي تبرز في رد فعل من النفس البشرية التي تستمر حية في وسط كل هذه الأمور الغريبة. وحين عادت هاذر، ابنة صديقيّ الذين يعيشون بنيويورك، حين عادت مؤخراً من رحلة الإغاثة التي قامت بها لمدة عشرة أشهر برواندا، كانت قد رأت ما هو أكثر من اليأس. ولكنها كانت قد رأت أيضاً الأمل والشجاعة والحب والثقة والعناية الحقيقية. لقد اضطرب قلبها بشدة، ولكنه لم ينسحق. ولقد استطاعت بعد عودتها أن تستأنف حياتها بالولايات المتحدة الأمريكية بالتزام أكثر للعمل نحو السلام والعدل. إن أفراح الحياة كانت أقوى من أحزان الموت التي رأتها هناك.
الأب: هنري نووين