الكاتب: دعوة للجميع
كل منا يشكو، إلى حد ما، من آلام الوحدة، ويتخبط في ضيق نفسي وعطش روحي. هذه الآلام هي في العمق وليدة فشل في الحب. المحزن حقاً في هذه الأوضاع كلها هو انكفاؤنا إلى ذواتنا، وانشغالنا بأنفسنا. هذا الانشغال بـ"الأنا" هو أكبر عقبة في طريق حياة الحب.
سألت ذات يوم صديقاً لي، عالماً نفسياً: كيف تعلم اًلإنسان أن يحب؟ ففاجأني بإجابة عن سؤالي بسؤال آخر، قال: "هل حدث لك يوماً أن آلمتك إحدى أسنانك؟ وأين كان محور تفكيرك آنذاك؟ عندما نتألم يتمحور تفكيرنا حول ذواتنا". وتابع صديقي قائلاً: "إن عالمنا مليء بالآلام، وآلامنا غدت مبرحة عميقة الجذور. نأوي إلى الفراش مع الوجع ومعه نستيقظ. إن ثلثي الأسرّة في مستشفيات الولايات المتحدة الأميركية يشغلها مرضى أسباب مرضهم نفسية في أساسها. وواحد من كل عشرة أشخاص يخضع لعلاج نفسي مكثف. ولقد اشتدت آلام الناس الداخلية، فارتفعت نسبة الموت انتحاراً إلى حد كبير بين سن الثامنة عشرة والواحدة والعشرين، وأصبحت تشكل رابع أهم الأسباب للوفاة بين سن الواحدة والعشرين والرابعة والعشرين. إنه عالم مليء بالألم وقد هجره الحب. العديد من الناس منشغلون بآلامهم، منغلقون على أنفسهم، وقد أصبحوا لذلك غير قادرين على الحب". 28 كانون الثاني
إن الذين يصل بهم التعب إلى الطبيب النفسي غالباً ما يذهلهم اهتمامه باستعادة ما يمكنهم تذكره من وقائع السنوات الأولى من حياتهم. ذلك بأن علم النفس يكاد يجمع على أن أهم أسس شخصية كل منا تتكون في السنوات السبع الأولى. تلك حقيقة قد يصعب علينا قبولها، ولكنه من الثابت أن تكويننا النفسي، في السنوات السبع الأولى، يرافقنا مدى الحياة. فإذا كنا، ونحن في سن السابعة، ممن يميلون إلى الهدوء ويفضلون الانكفاء، فالأرجح أننا لا نزال هكذا، في جوهرنا، اليوم. وإذا كنا ممن طغى عليهم آنذاك حب المرح والانتفاخ، فذلك يعني أننا، على الأرجح، لا نزال نثقل كاهل الآخرين بصخبنا. قد يشق علينا قبول مثل تلك الحقائق، ولكن الواقع أن الجراح النفسية التي تصيبنا خلال السنوات السبع الأولى، تترك آثارها الدائمة في شخصيتنا. إنه، تقريباً، ما من مشكلة نفسية عميقة تنبت بعد هذه المرحلة، ولكن ظروف الحياة قد تلهب آثار الجراح مجدداً. إن الفرضية السائدة هي أننا أسياد ذواتنا وأرباب أنفسنا، ولكن الحقيقة أن تكويننا يبقى، إلى حد بعيد، رهناً بتأثيرات الآخرين فينا. إنه لمخيف مدى تحكم الآخرين بمصيرنا. إن ما أنت وأنا عليه الآن هو نتيجة لحب من أحبونا ورفض من رفضوا أن يحبونا. 29 كانون الثاني
إنه لخطر، في الحقيقة، أن نحكم على الناس من خلال أقنعتهم. ولكن من الصعب جداً أن نخترق أقنعة تلف قلباً خائفاً أو جريحاً، قرر أن يحمي نفسه من الإصابة بجراح جديدة. لذلك قد نجد أنفسنا ننتقد الآخرين، متهكمين، خائفين، نحاول نزع الأقنعة عن وجوههم. ولكننا ننسى أن الأقنعة ستبقى ما بقيت الحاجة إليها. قبول الآخر وحده، وحبه، وإشاعة الطمأنينة عنده، يمكن أن يقنع الإنسان القلق، الذي يشعر بالذنب ويظن أنه أقل شأناً من سواه، بأن يتخلى عن وسائل دفاعه. قد أكون أنا مختبئاً وراء مثل هذه الأقنعة وتلك السياجات، مما يحول دون لقائي الآخر والتحدث إليه… فالقناع الذي يلتقي قناعاً هو أشبه بحائط يواجه حائطاً آخر. ليس من الصعب أن نكتشف الأقنعة. إنني أحس بعدم صدق أخي، وادعائه. ونحن نكره قناع "المقاتل المدعي" وننعته بالدجال. كما أننا لا نحب أبداً قناع "أبي الهول"، بل يغيظنا صمته، ونحاول تمزيق قناع "الرضى عن الذات" عند الشباب، كما أننا نأبى تقبل "قناع الغطرسة" عند الكبار. يفوتنا أن في الجذور الخفية لهذه الأقنعة صرخات ألم، وتوسل للتفهم والحب الذي يعطي الحياة. إن أقبح المزايا التي نكتشفها عند الآخرين ليست سوى نتيجة لتضافر قوى الدفاع عن الذات، وهذا الموقف الأناني يزعجنا. فيتوجب علينا آنذاك أن نتذكر سؤال الطبيب النفسي: "هل حدث لك يوماً أن آلمتك إحدى أسنانك؟" يجب أن نتعلم كيف نخترق جدار الادعاء الزائف عند الناس لنتمكن من تخفيف آلام الوحدة والفراغ عندهم، لأن الوحدة والفراغ يختبئان وراء تلك الجدران الدفاعية الزائفة. ولكن كل هجوم مباشر على خطوط الدفاع هذه يزيد من تصلبها. 31 كانون الثاني
الأب/ جان باول اليسوعي من كتاب رحلة في فصول الحياة