الكاتب: دعوة للجميع
ما أقسى بلاد الغربة ولكن ما أجمل الركض في مدنها وازقتها وشوارعها وراء رحلة البحث عن الجمال والموسيقى والمتاحف والمعاني الإنسانية. الغربيون قليلو الكلام لأسيما كبار السنّ، وان نطقوا بكلمة سيفوح منها عطر الحكمة والخبرة وعصارة تجارب السنين المليئة بالمعان والعبر الإنسانية، انهم يختلفون جذريًا عن بعض عجائزنا الذين لا يملون من الكلام والتطفل على خصوصيات الآخرين ومحاربتهم ولجم افواههم، يتكلمون بكلمات هي انعكاس لذهنيات مريضة ونفوس عفنة.
ذات يوم وبينما كنتُ ذاهبًا لتلقي دروس الموسيقى (الكمان) ابتليت بلقاء عجوز ثرثار لم يمل من تبرير خلافاته واخفاقاته التي لا تحصى مع زوجته ومعظم عائلته والكثير من الناس....!! قلتُ له: هل الجميع على خطئ وأنت على صواب؟! كرر مبرراته في محاولة للتحجج بحجج واهية....فأجبته: حججك لن تعد تنطلي عليّ وعلى اهل بيتك والناس الذين كشفوا امرك. قال كيف؟! قلتُ: عندما يحب الله شخصًا سيغدق عليه نِعم ومواهب عديدة، بل سيحبب شعبه فيه.... فمهما حاولت التضليل والشويه وتزوير الواقع والتمسكن، فأن ألناس عن قصصك الصفراء ليسوا غافلين. إن الذي زرعته في نفوس الناس وعائلتك وزوجتك من مشاكل وصراعات وازمات وتفرقة سوف تحصده في الحياة الآخرى.
نزلت من القطار واصر على مرافقتي، لكنّني رفضت وتركت الموتى يدفنون موتاهم كما قال السيّد المسيح له المجد، لأنني اقدس الزمن، والزمن لا ينتظر أحدًا. وأنا اسير في الأزقة وجدت زوج وزوجة قد احنى الزمن ظهرهما وقد تعكز احدهما على الآخر، يسيران وكأنهما في شهر العسل..... همستُ في سرّي: لماذا الكثير من ازواجنا سرعان ما يتحول شهر العسل لديهم إلى شهر بل سنوات بصل ....؟ فيكملون حياتهم في الركض وراء رحلة المشاكل والدموع والخلافات والخيانات والصراعات.... ولماذا بعض العجائز عندما يتقدمون في السنّ يعيشون مراهقة شيطانية جديدة تفتك بحياتهم،على شاكلة العجوز الذي عجز عن إصلاح ما يمكن إصلاحه، واليوم لا شغل له ولا شاغل سوى تحريض بعض المرتزقة ( افواه الشر ) على عائلته وناسه والذين اعلوا كلمة الحق بوجهه بعد أن لمسوا لمس اليد عمق فساده وفشله وتخبطه وإزدواجيته في أن يكون أبًا ومثالاً صالحًا!!
اكملت دروسي الموسيقية، وبعد يوم قضيته في التسكع وراء قدرة الإنسان على الخلق الفني والمعماري والموسيقي.... حينها ذهبت كي استريح مع مجموعة من اصدقائي القلائل ومعنا آلتي الموسيقية (الكمان) في حديقة قريبة من بحيرة مدينة Circular Quay، فوجئت بمجموعة من الشبان(فرقة موسيقية) قد تجمعوا يعزفون الحان تشايكوفسكي الخالدة التي كانت تغمر المكان وتزيده جمالاً، يعزفون مجانًا للجميع. قادتني قدماي إلى البحيرة، حيث الهدوء والتأمُّل والعمق والشفافية والنقاء، مُستمتعًا بايقاع وموسيقى المياه...فانتفى احساسي بالغربة عن بلدي وتعمق احساسي بالغربة عن هذا العالم. تطلعت إلى اليمين فوجدت مجموعة من كبار السنّ منهمكة في المطالعة ....ثم آملت نظري إلى اليسار فوجئت بفرقة موسيقية تعزف مجانًا الحان النمساوي شوبرت! فالموسيقى في سيدني كالشمس في بلادنا مجانًا للناس في البحر والازقة والطرقات....!
عدتُ إلى مدينتي المليئة بالاضواء، ولكن عشرات العيون والاذهان منطفئة على شاكلة العجوز الذي ابتليت به وابتلت به عائلته والكثير من الناس! ناهيك عن ضجيج الناس والسيارات! أحزنني ذلك واثار مرارتي، لاسيما عندما وجدت مجموعة من الناس (يعزفون الصراخ والثرثرة وقتل الوقت )! وضجيجهم لم يخترق اسوار الطرقات وحسب، بل اذان المارة على الدروب المحاذية. فوجدتُ نفسي في حالة قرف من كل شيء وفي حاجة إلى الهرب تمامًا من عالم الصراخ وقتل الوقت.... استقليت الباص وتذكرت ذلك الطفل الصغير الذي كان يلعب امام البحيرة بطائرته الورقية التي كانت تُحلق عاليًا مُستسلمة لنزوات الريح، فحلمت، بل تمنيت أن اطير على متنها هربًا من من واقع الكثير من الناس الذي باتت حياتهم اشبه بنكته، بل اصبحوا كطائرة ورقية عبثت بها نزواتهم الشخصية ونزوات الحياة الجديدة في بلاد الإغتراب. الطفل يفلت من اصابعه طائرته والريح تقذفها بعيدًا إلى حيث لا يدري، وبعض الناس يقذف بنفسه لرياح الضياع وهو يدري، وهنا تكمن الطامة الكبرى!! كحال ذلك العجوز الذي لا يعرف كيف يقود نفسه وبيته والآخرين فكان اشبه ببيدق شطرنج بيد الجهلة المحيطين به..... فقذف بنفسه إلى بحر الضياع، والحال انه اشبه بذلك الأعمى الذي يقوده الأخرس والأصم!! وما اقسى حياة تكون على هذه الشاكلة!
اؤمن بحكمتين، تقول الأولى منهما: قل لي ما هي اختياراتك ساقول لك من أنت. والثانية تقول: قل لي من هم العاملين معك سأقول لك من أنت.
المبدع لا يجلب ألا المبدعين معه، والجاهل لا يجلب حوله ألا الجهلاء، نعم الفاشل لا يقرب إليه الا الفاشلين ..... ليسيروا معًا في قطار الفشل إلى محطات التخبط، تتقاذفهم بلذة رياح الضياع.
اتعلمون أن الجهل هو أخطر مُشكلة وأجهها ويواجهها الإنسان على مدار التاريخ ولعل المشكلة بل المعضلة الكبرى تكمن بأن يكون المرء جاهلاً بأنه جاهل، فيدعي المعرفة والحكمة دون أن يمتلكهما.إنَّ من أشد أنواع الجهل خطورة هو جهل الإنسان بنفسه؛ لأنه يسبب له الكثير من الأرباك والضياع الذاتي، والضياع داء يفتك بالإنسان فتتشوه علاقته مع الله ومع أخيه الإنسان.
لدي ثمة قناعة مترسخة في الأعماق، مفادها: إنَّ من عرف نفسه عرف ربّه وعرف كيف يتعامل ويتعاون مع الناس ويكون شاهد حبّ وحمامة سلام ويد بناء، فالإنسان الذي يعرف نفسه سيتمكن من تقديم ذاته بشكل صحيح، لا بالكلام بل بالافعال والمنجزات التي تصب في خير كل إنسان، لأن الحياة زمن للإبداع والإنجاز والعطاء وتحقيق الذات ومساعدة الآخرين على تحقيق ذاتهم. ختامًا: وانا أُدبج هذا المقال تذكرت طلب أحد الأصدقاء حينما طلب مني ذات يوم ان أُصلي من أجل صاحب عمله العجوز الذي كلما تقدم بالسنّ، كلما اتسمت حياته بالتخبط والضياع والعبثية والإبتعاد عن الله(الفساد)، لأسيما وأن النهاية باتت واضحة لمسيرة عمله الفاشلة وتاريخه العفن الذي يعرفه القاصي والداني منذ أن كان شابًا حتّى يومنا هذا حيث بلغ من العمر عتيًا....!
الزمن لا يُغير الأشخاص بل يكشفهم ويغربلهم، والتاريخ يتفحص الأعمال، لأنه لا يُخلد ألا المبدعين، أما الذي تأتي على يده العثرات والشكوك والصراعات والضياع سوف يستقر هو وحاشيته المرتزقة مع القمامة في مزابل التاريخ. لنصلِّ من أجله، لأن الصلاة مفتاح الفرج. هذا رجائي وعلى هذا الرجاء لنصلِّ.
الأب يوسف جزراوي