الكاتب: دعوة للجميع
قال باسكال العظيم ما معناه
ان «للإنسان ثلاث مراتب: مرتبة الجسد ومرتبة العقل ومرتبة المحبة»
وانا اواجه كل هذه المراتب باستقلالها وبتواصلها قبل موتي
حتى تغلب الواحدة الأخرى ويقبضني الله بما يرضيه.
اما مرتبة الجسد ففيها هذا البدن مع جماله وضعفاته،
مع ما يخبئ من تعقيدات وبما يعظم فيه ويهبط، بما يفرح ويؤلم
الى ان يوارى الثرى على رجاء القيامة ان كنا مؤمنين.
انه ركيزة، مجرد ركيزة لعقل يتوهج او يغيب.
ويريد باسكال بكلمة جسد ما يملك في هذه الدنيا من منازلها،
من ترهاتها ومسرات على مستواها وما في هاتين اليدين من فناء وحب
فناء يبدو للأكثرين وجودا وما هو بوجود ولكن فيه سلوى وانبساط
والبسط هو هذه الأشياء التي نتمدد فيها وتلهينا وتحجب عنا ما هو أعظم منها
لأن الأعظم أصعب منالا اذ يتطلب جهدا كبيرا يبعد عنا شبح الموت.
يذكرني هذا بما قاله بولس: «آخر عدو يبطل هو الموت».
لا بد اذًا ان نتسلى.
الكارثة اذا بقينا عند هذه التسليات ان نشاهد أنفسنا في فراغ مخيف يشبه اللاشيء
حتى ندرك مرتبة العقل التي هي الإحاطة بالكون.
الكون بالنسبة الينا معارف.
هي حسرة الا تعرف كل شيء
ولكن لا بد ان تجهل الكثير مما يفيدك في حياتك ولا سيما امور صحتك.
وجد في الماضي من عرف كل شيء أمثال الغزالي وليوناردو دافينشي
لكن الموسوعية زالت في عصرنا.
لذلك كان المتعلّم متعلما نسبيا والجهل عميم في بلدان كثيرة وشبه قارات.
هذه هو واقعنا ان العقل قوة للحياة العملية
ولا يرشدك كثيرا الى الفكر الذي يعطيك الفرح.
كيف لا يتحرك وجودك كله ان عرفت ان كاهنا مارونيا كان حافظا لمئة ألف بيت.
كيف لا تشتهي ان تكون فيك كل الأحاسيس التي كانت تحيي هذا الرجل
إذاً كنت قادرا فقط على حفظ عشرة ابيات من الشعر.
لا يعيش اذا في ذهنك الشعراء الذين كتبوا عندنا منذ امرئ القيس.
أليس ذهني مبتورا انا كاتب هذه الأسطر
الذي غابت عنه كل العلوم الرياضية وكل العلوم الطبيعية
وكان جاهلا بالكلية كل الثقافة الالكترونية وانتمي تاليا الى حضارة منقرضة.
محتوى ذهني اذًا قليل.
العقل اذًا مجرد قدرة وليس فحوى.
وليس عندك متسع من الوقت لتعرف كل شيء.
الإنسان مجموعة فراغات.
كان معنا في أحد أديرتنا راهب روماني يتقن لغات عدة عصرية
الى جانب اللغات القديمة منها السنسكريتية ويعرف كل العلوم العصرية
ويستشهد بالشعر باللغات الأصلية كما يستشهد بالعهد الجديد باليونانية.
وكنت أجلس عند قدميه ساعات في النهار الواحد لأتعلم ما أريد معرفته.
لم أعرف احدا في ذكائه في كل العالم الأرثوذكسي. وهذا هو العقل.
ه ه ه
عرفت القرون الوسطى اشكالية العلاقة بين الدين والعقل او بين النقل والعقل
وذلك في الاسلام والكثلكة (توما الاكويني) واليهودية.
ومن قرأ نصوص هذه الديانات الثلاث يلاحظ
ان الاشكالية واحدة وهي التوفيق بين الوحي والعقل.
كان ارسطو المعلم الأول غير المنازع في التيار الديني في هذه المذاهب.
الكنيسة الشرقية البيزنطية لم تعرف هذه الاشكالية ربما لعدم سيادة ارسطو عليها
ومن جهة أخرى علم باسيليوس الكبير ان الطبيعة تعرفها بالعقل وان الإيمان يأتينا بالوحي
وكأن باسيليوس يؤكد مصدرين للمعرفة وتاليا لا يرى مشكلة العلاقة بين العقل والوحي.
الى هذا ترى الكنيسة الأرثوذكسية ان العقل وقع ككل مكونات الإنسان
في المعطوبية التي نتجت مما نسميه الخطيئة الجدية
(أي خطيئة الجدّن الأولين آدم وحواء) فلم يلغَ العقل لكنه اهتز.
الى هذا ايضا تقيم هذه الكنيسة علاقة بين العقل والقلب
فنقول ان العقل ينزل الى القلب ثم يصعد متطهرا. العقل اذًا اداة لمعرفة هذا العالم.
ليس من خفض في الشرق المسيحي لمنزلة العقل
ولكن سكر فيه ومحوه يعني عاطفية لا يراقبها شيء.
والله معروف بالايمان الناتج من لقاء العقل والقلب متلاقين بالنعمة الإلهية.
ه ه ه
بدأ باسكال حياته الفكرية منذ طفولته ومر بعد هذا بالتكنولوجيا وكان كاتبا مسيحيا كبيرا
ولا سيما في كتابه "الأفكار" قبل ان يتوفى في التاسعة والثلاثين من العمر.
و"الأفكار" مركز على معرفته للمسيح.
فكان لا مفر له ان يجعل المحبة أعلى مرتبة في الكيان البشري.
قال أحد آبائنا ان يوحنا الإنجيلي عندما قال في رسالته الأولى الجامعة "الله محبة"
لم يرد بها صفة من صفات الله ولكن الله في ذاته.
لعله من المفيد ان اروي لكم حديثا جمعني والمغفور له المفتي نديم الجسر في مجلس عزاء.
بادرني بالقول انتم موحدون، فشكرته؛
ثم أردف ولكنكم فلاسفة.
ولما أحسست بأنه يلمح الى ايماننا بالثالوث الأقدس اجبته: لا، لسنا فلاسفة.
نحن عشاق الله ثم فسرت ان في الثالوث وحدانية
تجمع بين الآب والابن والروح القدس وهذه الوحدانية هي المحبة.
نحن لا نفرق بين المحبة التي هي الله وتلك النازلة علينا اي انها ساكنة فينا.
اظن ان هذا ما قصده باسكال لما قال ان المرتبة العليا في الوجود هي المحبة.
وهذه تذهب بك الى الموت في سبيل الآخر
ولا تأتي من مرتبة الجسد ولا من مرتبة العقل انت فيها تبقى ذاتك
لكنك تصبح مسكوبا حتى اماتة الأنا المنغلقة، تصير واحدا مع الآخر بلا حلولية.
هذه المحبة هي لنا منه منذ الأزل وتبقى الى الأبد، اذ يأخذنا الله اليه او فيه سرمدا.
نصبحها وتصبحنا ولا تبقى الا وحدها في الملكوت.
غير انها لا تحل فينا الا بعد تطهر كبير ونسك شديد
وعند ذاك، تتصور فينا وفي اهل السماء وجميعهم وحدة كاملة.
انها لا تقوم مقام العقل لكنها ترفعه اليها.
لا تفنيه في ما له من ذاتية لكنها تسموه وتنقيه
بحيث يخسر كل اعوجاج له وكل اهتزاز ويصير بدوره أداة لرؤية الله.
فقط في هذه الرؤية يسيطر العقل على اشياء الدنيا كما تسيطر هي عليه.
واذا صار الناس واحدا بالمحبة في اليوم الأخير
يصير الله الكل في الكل اذ ينكشف الله فيهم محبة في طبيعته وعمله.
بمعنى انه لا يبقى فيهم سواه فيعرفون انه مخلصهم لا أثر فيهم الا تنازله الكامل اليه
ويجعلهم كالمسيح جالسين عن يمينه على العرش.
المحبة لا تصير اكليلا لنا الا بعد ان كانت هي فحوانا
المحبة كإكليل وفحوى
المطران جورج خضر / النهار 04 / 09 / 2011