الكاتب: دعوة للجميع
في القرن الحادي والعشرين، لم يعد بالأمر المقبول اجتماعيًا الكرازة بإنجيل يطالب بالتوبة. تُرى، كيف تحوّلت رسالة اليوم لكي تصبح مختلفة بهذا الشكل عن الإنجيل بحسب يسوع؟
ففي وقت باكر يرجع إلى العام 1937، لاحظ الدكتور هـ.أ.أيرونسايد كيف أن عقيدة التوبة الكتابيّة كانت تتعرّض للتخفيف من حدّتها على أيدي أناس أرادوا حذفها من رسالة الإنجيل. كتب في هذا السياق: "عقيدة التوبة تُعد النغمة الموسيقية المفقودة اليوم على صعيد العديد من الأوساط المتمسّكة على العموم بأساسيات الإيمان الكتابي." لقد تحدّث عن كذلك أدرك أيرونسايد حتّى في أيامه، الأخطار المحدقة ببوادر ظهور التيار الداعي إلى الإيمان السهل. وقد كتب في هذا الإطار:
الوعظ السطحيّ الذي لا يتمسّك بالواقع المخيف لخاطئيّتنا ومذنوبيتنا نحن البشر، آمرًا "جميع الناس في كلّ مكان أن يتوبوا"، لا يُسفر إلاّ عن اهتداءات سطحية. لذا عندنا اليوم عشرات الآلاف من الذين يُتقنون ادّعاء الإيمان، وكلّ هذا في غياب وجود أيّ دليل على تجديدهم. وهم في ثرثرتهم وكلامهم المهذار عن الخلاص بالنعمة، لا يُظهرون أي أثر للنعمة في حياتهم. كما أنّهم من خلال إعلانهم بالصوت العالي أنّهم مُبررون بالإيمان فقط، يفوتهم تذكّر "أن الإيمان بدون أعمال ميت"، وأنه من الضروري عدم تجاهل التبرير بالأعمال أمام الناس وكأنه يتناقض مع التبرير بالإيمان أمام الله.
العاطفي من تأسّف وحزن على الشرّ الذي كان قد طبع نمط الحياة السالفة، ميتاميلوماي، متّى 21: 29-32؛ تُعبّر اللفظة الثانية عن انقلاب يطرأ على الموقف الذهني بأكمله، ميتانوإيو، متّى 12: 41؛ لوقا 11:32؛ 15: 7، 10؛ أمّا اللفظة الثالثة فتشير إلى فتشير إلى حصول تغيير في وجهة سير الحياة، حيث يحلّ هدف مكان آخر، ابستريفوماي؛ متّى 13: 15 (والنصوص الموازية لها)؛ لوقا 17: 4؛ 22: 32. فالتوبة لا تقتصر على جانب واحد وحيد من الذهن، لكنها تشمل الإنسان بأكمله: ذهنه، إرادته وعواطفه...ومن جديد، تشكّل سيادة الله المبدأ المسيطر والمهيمن على الحياة الجديدة التي تلي التوبة. فالإنسان الذي يتوب، يتحوّل عن خدمة المال والذات إلى خدمة الله.
التوبة ليست مجرّد نشاط ذهني وحسب، حيث إنّ التوبة الحقيقيّة تشمل كلاّ من الذهن والعواطف والإرادة. وفي هذا السياق، كتب غرهاردُس فوس:
إن فكرة ربنا عن التوبة توازي في عمقها وشموليتها مفهومه للبِرّ. ومن جملة الألفاظ الثلاث المعتمدة ضمن الأناجيل اليونانيّة لوصف هذه العملية، تركّز إحداها على العنصر
إراديًا، تتضمّن التوبة تغييرًا في الاتِّجاه وتبديلاّ في الإرادة فبعيدًا عن كونها تغييرًا في الفكر ليس إلاّ، إنما تنطوي على استعداد – وبأكثر دقة على عزم وطيد – لنبذ العصيان العنيد والخضوع لإرادة المسيح. وعلى هذا الأساس، فإنّ التوبة الصادقة ستؤدِّي، لا محالة، إلى حصول تبديل في السلوك. وهذا التغيير في السلوك، لا يشكل بحدّ ذاته التوبة، لكنّه الثمر الذي ستصنعه التوبة بشكل أكيد. لذا في غياب أي فارق ملحوظ في السلوك، لا يمكننا الوثوق بأنّ التوبة قد حصلت فعلاً (متّى 3: 8؛ يوحنّا 2: 3-6؛3: 17).
إذن، التوبة الحقّة من شأنها إجراء تغيير جذري في خُلق الإنسان بأكمله. وفي هذا الإطار، صرّح د.مارتن لويد جونس بما يلي:
التوبة تعني كونك تدرك أنك خاطئ مذنب وشرير أمام الله، وأنك مستحقّ غضب الله وعقابه، ومصيرك هو الجحيم. وهي تعني أنك قد بدأت تُدرك أنّ هذا الشئ المسمّى خطّية هو في داخلك، وأنك توّاق إلى التخلّص منه، وأنك تُدير له القفا في كل أشكاله ومظاهره. إنك تتنكّر للعالم مهما كلف الأمر، العالم لجهة فكره ومظاهره وكذلك ممارساته أيضًا. كما أنك تُنكر نفسك وتحمل صليبك، وتتبع المسيح. أقرب المقرّبين إليك وأعزّ الأعزاء، بل حتّى العالم بأسره، قد يدعونك مختلاً، أو ينعتونك بالمهووس دينيًا. قد تُكابد من جراء ذلك خسائر مالية، ولكنّ هذا لا يعمل أيّ فرق. هذه هي التوبة.
التوبة ليست فعلاً يحصل مرةّ واحدة فقط. ذلك لأنّها عملية اعتراف تدريجية ومستمرة مدى العمر، تبدأ بعد التوبة الحادثة عند الاهتداء (1 يوحنا 1: 9). إنّ موقف التوبة هذا الناشط والمتواصل، ينشئ حالة المسكنة بالروح والحزن والوداعة التي تحدّث عنها يسوع في تطويباته (متّى 5: 3-6). وفي هذا العلامة لكن مؤمن حقيقيّ.
فالتوبة بالنسبة إليهم من دعاهم المسيح كانت تعني ضرورة إخضاع إرادتهم بالكلية مع ما يستتبع ذلك من تغيير لا مفرّ منه في السلوك – نمط حياة جديد، لا يقتصر على مجرّد حصول تغيير في الرأي. لقد أدركوا أنّه كان يدعوهم إلى الإقرار بخطيّتهم والتحوّل عنها؛ إلى الاهتداء وتغيير المسار؛ إلى التخلّي عن خطيّتهم وأنانيّتهم والاستعاضة عن ذلك باتّباعه.
في يونان 3: 10 نقرأ: "فلمّا رأى الله أعمالهم أنّهم رجعوا عن طريقهم الرديئة ندم الله على الشر الذي تكلّم أن يصنعه بهم فلم يصنعه."
لننتبه إلى هذا العدد من سفر يونان. كيف قيّم الله توبة اهل نينوى؟ من خلال أعمالهم. فالأمر لم يكن يتعلّق بقراءته لأفكارهم أو بسماعه صلواتهم، هذا مع أنّ الله العالم بكلّ شئ كان بإمكانه بكلّ تأكيد أن يرى حقيقة توبتهم بهذه الطريقة. لكنّه تطلّع بالحري إلى الأعمال البارّة.
يوحنّا المعمدان بدوره أيضّا، طالب بأن يرى أعمالاً صالحة كبرهان على التوبة.
فالكتاب المقَّدس يدوّن كيف أنّ يوحنّا المعمدان لدى ررؤيته معشر المتديّنين المرائين مقبلين إليه "قال لهم يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي. فاصنعوا أثمارًا تليق بالتوبة" (متّى 3: 7، 8).
لماذا عاملهم يوحنًا بهذه القسوة؟ ذلك لأنّ هؤلاء المرائين كانوا يسمّمون أمًة بأكملها بخداعهم القتُال هذا. لا شئ في سلوكهم كان يُشير إلى أنّهم تابوا فعلاً. نحن هنا أمام عبرة في منتهى الأهمية والخطورة: إن كانت التوبة صادقة، فبإمكاننا في هذه الحال توقّع منها أن تُعطي نتائج ملحوظة.
وبكلام آخر، من الضروري أن يحصل تغيير مخلص في نمط حياة الفرد. فالشخص الذي تاب توبة صادقة، سيكفّ عن فعل الشرّ، لكي يبدأ يعيش بالبرّ. وبالإضافة إلى إجراء تغيير في الفكر والموقف، ستبدأ التوبة الحقّة بعمل تغيير في السلوك.
«مَاذَا تَظُنُّونَ؟ كَانَ لإِنْسَانٍ ابْنَانِ، فَجَاءَ إِلَى الأَوَّلِ وَقَالَ: يَا ابْنِي، اذْهَب الْيَوْمَ اعْمَلْ فِي كَرْمِي. فَأَجَابَ وَقَالَ: مَا أُرِيدُ. وَلكِنَّهُ نَدِمَ أَخِيرًا وَمَضَى. وَجَاءَ إِلَى الثَّاني وَقَالَ كَذلِكَ. فَأَجَابَ وَقَالَ: هَا أَنَا يَا سَيِّدُ. وَلَمْ يَمْضِ. فَأَيُّ الاثْنَيْنِ عَمِلَ إِرَادَةَ الأَبِ؟» قَالُوا لَهُ: «الأَوَّلُ». قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ الْعَشَّارِينَ وَالزَّوَانِيَ يَسْبِقُونَكُمْ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ» (متًى 21: 28-31).
كم من أناس اليوم يُصغون إلى حق المسيح ويتجاوبون معه على الفور، كما فعل الإبن الذي قال إنه سيُطيع لكنّه عاد وَعَدل عن ذلك. لن يخلّصهم تجاوبهم بهذا الشكل الإيجابي مع يسوع. فثمر حياتهم يُظهر كونهم لم يتوبوا فعلاً.
جون ماكأرثر
من كتاب: "الإنجيل بحسب يسوع"