إنه لمما يدعو للعجب أن يتقدم مسلم يتلو القرآن بسؤال كهذا، لأن القرآن نفسه نقل إلينا رواية اليهود عن صلب يسوع المسيح, إذ يقول: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ـ سورة النساء 4: 157 .
فالصلب وقع على الأقنوم الثاني لله، بناء على عهد الفداء بين الآب والابن, لأجل خلاص البشر, وهو من الأمور الخارجة عن إدراكنا وبما أن تعليم الفداء وارد في الكتاب المقدس وجب علينا قبوله, بدون الظن إننا قادرون أن نصل إلى ما يحيط به من أسرار الله, نعم، إننا نؤمن بإله واحد، أي كائن واحد له جميع الصفات الإلهية ولكن في اللاهوت ثلاثة أقانيم, هم جوهر واحد، ومتساوون في القدرة والمجد, ومن المحتملات التابعة شخصية كل من الأقانيم الثلاثة إمكان عقد عهد، بين أقنوم وآخر من الأقانيم، وإرسال أقنوم لغاية ما واتضاع أقنوم واحد تحت سلطان أقنوم ويمكن الواحد أن يحب الآخر، ويخاطبه ويرسله فيمكن الآب مثلاً أن يرسل الابن, عملاً ليعمله غير أن تحليل هذا الموضوع فوق إدراكنا, ولكن بما أن الكتاب المقدس علمه، وجب أن يكون قسماً من الإيمان المسيحي,
ويذكر الرسول بولس، أن عهد الفداء بين الآب والابن, كان مكتوماً منذ الأزمنة الأزلية في العقل الإلهي ـ رومية 16: 25 . وقال الرسول المغبوط في هذا الصدد: وَأُنِيرَ الْجَمِيعَ فِي مَا هُوَ شَرِكَةُ السِّرِّ الْمَكْتُومِ مُنْذُ الدُّهُورِ فِي اللّهِ خَالِقِ الْجَمِيعِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ ـ أفسس 3: 9، كولوسي 1: 26 .
والمسيح نفسه ذكر أن المواعيد بالفداء كانت قبل تجسده وأنه أتى إلى العالم لإجراء ما فوض له, وكل هذا يصدق على ما جرى بين الآب والابن, وأن تعبير الكتاب المقدس عن ذلك، هو أن الآب عين للابن عمل الفداء وأرسله إلى العالم, لكي يعمله وهذا العمل العظيم لزم المسيح:
ـ 1 ـ أن يتخذ طبيعتنا ويولد من امرأة ويوجد في الهيئة كإنسان، بحيث يكون عظماً من عظمنا ولحماً من لحمنا, أو كما قال قال الكتاب: مِنْ ثَمَّ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُشْبِهَ إِخْوَتَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لِكَيْ يَكُونَ رَحِيماً، وَرَئِيسَ كَهَنَةٍ أَمِيناً فِي مَا للّه حَتَّى يُكَفِّرَ خَطَايَا الشَّعْبِ. لِأَنَّهُ فِي مَا هُوَ قَدْ تَأَلَّمَ مُجَرَّباً يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ الْمُجَرَّبِينَ ـ عبرانيين 2: 17-18 . لِأَنْ لَيْسَ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ غَيْرُ قَادِرٍ أَنْ يَرْثِيَ لِضَعَفَاتِنَا، بَلْ مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلَا خَطِيَّةٍ. فَلْنَتَقَدَّمْ بِثِقَةٍ إِلَى عَرْشِ النِّعْمَةِ لِكَيْ نَنَالَ رَحْمَةً وَنَجِدَ نِعْمَةً عَوْناً فِي حِينِهِ ـ عبرانيين 4: 15-16 .
ـ 2 ـ أن يولد تحت الناموس ـ غلاطية 4: 3 ـ وأن يتعهد باختياره أن يكمل كل بر بطاعته للناموس طاعة كاملة، في جميع صوره، التي فرضت على الإنسان ـ متى 5: 17-18 .
ـ 3 ـ أن يقدم كفارة كافية لأجل خطايا العالم، مقدماً نفسه ذبيحة عن خطايا العالم ـ إشعياء 53: 1-12، 2 كورنثوس 5: 21، غلاطية 3: 13، أفسس 5: 20 ـ ولكي يتم ذلك التزم أن يعيش على الأرض، وأن يحتمل ما احتمله من الحزن والألم، والعار بالموب على الصليب,
أما من جهة الآب، فقد وعد بأن يهيئ له جسداً، أي يعد له مسكناً كجسد آدم، لكنه منزه عن الفساد ولا عيب فيه ـ عبرانيين 10: 5 ـ وأن يعطيه الروح القدس مسانداً، وأن يملأ كل طبيعته البشرية من النعمة والقوة، وأن يكون دائماً عن يمينه لكي يعضده في ساعات جهاده ضد قوات الظلمة، وأن يسحق الشيطان تحت قدميه، وأن يدفع إليه كل سلطان السماء وعلى الأرض ـ متى 28: 18، فيلبي 2: 6-18، يوحنا 5: 22 ـ وأن يفوض إليه إرسال الروح القدس، لأجل تجديد المؤمنين وتويرهم وإرشادهم وتعزيتهم وتقديسهم ـ يوحنا 15: 26، 16: 13، 17: 2، 7: 29، أعمال 2: 33 ـ وأن يتمجد الآب نفسه به، ويظهر بواسطته وفيه وفي كنيسته الصفات الإلهية الكاملة أمام أعين جيمع الناس والخلائق العاقلة فيرى من تعب نفسه ويشبع ـ أفسس 1: 12، إشعياء 53: 11 .
الفداء مشورة إلهية:
يثبت الكتاب المقدس أن عمل الخلاص بالفداء، جرى بمقتضى قصد سابق أو مشورة في ذهن الخالق, وهو يدعوه نظراً إلى إعلانه التام في وقت مجيء المسيح تَدْبِيرِ مِلْءِ الْأَزْمِنَةِ ـ وتدبير الله ـ لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ ـ أفسس 1: 10 ـ والسر المكتوم في الله خالق الجميع بيسوع المسيح الذي غاية الإنجيل العظيمة إعلانه, والذي قصد به إعلان حكمة الله المتنوعة بواسطة الكنيسة للرؤساء والسلاطين ـ أفسس 3: 9-11 .
ومقتضيات الخلاص الإلهي بالفداء ثلاثة:
1 - اختيار أو تعيين الغاية التي قصد إتمامها,
2 - إعداد الوسائط الموافقة لذلك الإتمام
3 - استعمال الوسائط الموافقة أو إجراؤها فعلاً لنوال الغاية المقصودة ولا ريب في أن هذه المقتضيات تمت عند إنفاذ الله لعمل الفداء بموجب مشورته السابقة ومما يؤيد ثقتنا في قضاء الله الأزلي في الخلاص وإجرائه فعلاً بحكم النظام, ما نراه في دائرة المخلوقات الطبيعية من احكام النظام لأن كل من له إلمام بالعلوم الطبيعية، يرى علامات الترتيب والإتقان في كل دائرة الطبيعة, فإن أجرام السماوات مثلاً, تظهر لعين الجاهل خليط نجوم لا نظام لها لكنها تظهر لعين الفلكي ذات منهاج سام وترتيب عجيب أي أن لكل الكواكب المنيرة الشاسعة أماكن معينة ومحاور ثابتة على أحسن إتقان, لا بعارض أحدها الآخر، بل يُساق بموجب الأنظمة، التي وضعت بحكمة الباري فالخالق له المجد، رب نظام وقضاء سابق في كل اعمال خليقته, فإذا كان الله يأتي ذلك في أعماله في الطبيعة فبالأولى جداً أن يأتيه في ما هو أسمى منها، أي في العلم الروحي الخاص بنصيب البشر بحيث لا يترك فيه شيئاً للاتفاق لذلك أوضح الكتاب المقدس نظام الله في أعمال النعمة، ولم يقتصر على القول بأنه عز وجل يرى الغاية من البداءة, بل زاد على ذلك بعمل كل شيء حسب رأي مشيئته كما هو مكتوب في أفسس 1: 11,
ولا يُخفى أنه إذا كان فداء الإنسان هو بحسب قضاء سابق يحيط بتدبير معين ورسم خاص، وجب أن يهمنا إدراك ذلك إدراكاً صحيحاً بواسطة مطالعة الكتاب المقدس والوقوف على كل تعاليمه في هذا الشأن، والبحث في اختيار البشر في الأمور الروحية، والتوصل إلى شهادة ذلك الاختبار بحقيقة عمل الفداء, كما هو جار في خلاص المؤمنين في كل الأزمنة,
وما من شك في أن الحاجة إلى الخلاص حاجة عامة لدى جميع الناس قال العالم كويني سمسون لا شيء اسهل من إثبات تهمة الخطية على الجنس البشري, وقال الرسول بولس: الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللّهِ ـ رومية 3: 23 . وقبله قال داود النبي الكل قد زاغو معاً فسدوا ليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد ـ مزمور 14: 3 ـ وقال إشعياء النبي: كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ ـ إشعياء 53: 6 .
فإن كان للخلاص هذا الأثر وهذه الخطورة في حياة الإنسان وأبديته، فمن اللازم أن نسأل عن طبيعته ومعناه ومدلولة المحدد والضبط وفي كلمة، من الواجب أن نسأل ما هو الخلاص؟ مما ينبغي أن نخلص؟ ومن الواضح تماماً، أن المسيحية هي دين الخلاص، أولاً وأخيراً ومؤسسها وبانيها، لقبه الأول والأشهر يسوع المسيح مخلص العالم وأن الخلاص كما هو واضح من رسالة الإنجيل، هو خلاص الإنسان من الخطية فقد قال ملاك الله عن مريم العذراء فَسَتَلِدُ ابْناً وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ، لِأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ ـ متى 1: 21 . ووصف يوحنا المعمدان يسوع بالقول: هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم , ويسوع قال عن نفسه: لِأَنَّ ابْنَ الْإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ ـ لوقا 19: 10 . وجاء في الكلمة الرسولية بفم بولس صَادِقَةٌ هِيَ الْكَلِمَةُ وَمُسْتَحِقَّةٌ كُلَّ قُبُولٍ: أَنَّ الْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ الْخُطَاةَ الَّذِينَ أَّوَلُهُمْ أَنَا ـ 1 تيموثاوس 1: 15 .
ويعلم الكتاب المقدس أن خلاص الإنسان يقوم أساساً على الفداء,إذن الخلاص ليس مجرد فلسفة، بل هو حقيقة لا محيض عنها لرفع الخطية وكل نظرية لا تقوم على تصحيح هذا الوضع, تعتبر تظرية باطلة وغير سليمة