الكاتب: دعوة للجميع
الصفحة 5 من 5
الفصل الأول
الفلاسفة والوحدانية الجامعة المانعة
استنتجنا فيما سلف أن وحدانية الله هي وحدانية جامعة مانعة، وهذه الحقيقة ليست جديدة، فإن معظم الفلاسفة " حتى الذين يقولون إن وحدانيته مجردة أو مطلقة " كانوا قد أدركوها كما ندركها نحن، فأسندوا إلى وحدانية الله مميزات خاصة، فجعلوها وحدانية جامعة مانعة. والاقتباسات التالية خير شاهد على ذلك :
1 - فلاسفة اليونان : قال أفلاطون : الله جميل حكيم خيِّر، جامع لكل المحامد . ولم يترك لنا أفلوطين مجالاً لإثبات دلالة هذه العبارة، على أن وحدانية الله هي وحدانية جامعة مانعة، فقد قال : إله أفلاطون ليس وحدة مطلقة، لأنه مؤلف من الانسجام والجمال والحقيقة، وإن كان الكل واحداً . وقال أرسطو : الله هو الكل ، وقال أيضاً : الله عقل وعاقل ومعقول .
ويقول رجال الفلسفة في شرح هذه العبارة، إنه إذا جردت الذات تجريداً تاماً، كانت عقلاً وماهية مجردة. وهذه الماهية المجردة، إذا نظرنا إليها من حيث هي كذلك، فهي عقل. ومن حيث هي مجردة لشيء فهي معقولة. وذات الله مجردة فهي عقل، ومجردة لذاته فهي معقولة لذاته. وباعتبار أن ذاته ماهية مجردة لذاته فهو عاقل لذاته. لكن ألا يدّل هذا الشرح على وجود علاقات لله بينه وبين ذاته؟ وإذا كان الأمر كذلك، ألا تكون وحدانيته وحدانية جامعة مانعة، دون جدال أو معارضة!؟
وإطلاق أرسطو على الله هذين الوصفين يدل على اعتقاده أن وحدانيته جامعة مانعة. وقد أشار أفلوطين أيضاً إلى هذه الحقيقة فقال : إن إله أرسطو يستلزم ضرورة الثنائية المؤلّفة من العقل والمعقول، وإن كانا واحداً أيضاً .
لكن مما يثير الدهشة أن أفلوطين هذا، الذي انتقد أفلاطون وأرسطو، والذي كان يدافع بكل ما أوتي من قوة عن تنزّه الله عن الاتصاف بأي صفة قال : الله مبدأ الوجود . وكيف يكون الله مبدأ الوجود دون أن يكون هو موجوداً؟ وكيف يكون موجوداً دون أن يكون ذاتاً ذا تعيّن؟ وكيف يكون ذاتاً ذا تعين دون أن تكون بينه وبين ذاته علاقات خاصة؟ وكيف تكون بينه وبين ذاته علاقات خاصة ولا تكون وحدانيته وحدانية جامعة مانعة؟
2 - فلاسفة اليهود : قال فيلون : الله يتصل بالناس بواسطة كلمته، فيساعدهم ويثيبهم ويعاقبهم .
وهل يتناسب هذا الوصف مع اعتبار وحدانيته وحدانية مجردة أو مطلقة؟
الجواب : طبعاً لا، لأن هاتين الوحدانيتين، لا علاقة لإحداهما بينها وبين نفسها، فلا تكون لأيٍّ منهما علاقة بينها وبين غيرها. وقال أفلوطين : إله فيلون ليس وحدة مطلقة، لأنه متصل ببني الإنسان، يساعدهم ويكافئهم . أما سيمون بن يوشي فقد قال بصراحة : إن كلمة الله " أو إلوهيم " تدل على أنه تعالى جامع .
3 - فلاسفة المسيحيين : قال نقولا دي كوسا : الله الموجود الأعظم اللامتناهي، حاوٍ لكل وجود، فهو الأشياء جميعاً في حال الوحدة والانطواء . وقال مالبرانش : نرى في الله المعاني الجزئية والكلية والمبادئ الضرورية . وقال بوهمي : لابد أن يكون الله منطوياً على كثرة هي الينبوع الخفي للحياة الكلية، إذ كيف يمكن تفسير الكثرة " الموجودة في العالم " بالوحدة المطلقة، وليس في الوحدة المطلقة شيء تريده، ما دامت وحدة " مطلقة " . وقال وورد : لا يمكن جعل المطلَق نقطة الابتداء، ولذلك فالأفضل فرض وجود إله جامع .
ومع أن برادلي كان يعتقد أن الله منزه عن كل معنى من معاني الشخصية، وينكر حتى إسناد الخير إليه، إلا أنه قال : المطلق " أي الله " روح جامع لكل الإدراكات... فهو وحدة الكثرة، تلك الوحدة التي تنمحي فيها كل ظواهر التعدد . وقال شلينج : أومن بإله له شخصية، والشخصية لا تنمو من تلقاء ذاتها، بل بمصارعة قوى معارضة. ولذلك يجب التسليم بوجود تعارض في الله، وهذا التعارض ينتهي إلى الإنسجام . وقد ذهب ابن العربي في تفكيره إلى ما ذهب إليه شلينج تقريباً، فقد قال إن التعارض والتناقض حاصلان في الذات الإلهية، من حيث الأسماء والصفات، التي هي نسب وإضافات بين الذات الواحدة ومظاهرها الكونية الكثيرة... ولما وقعت المعارضة في الذات الإلهية من أجل نسبها إلى الكثرة الوجودية، خلق العالم " فصوص الحكم ج 2 ص 145 " .
نعم إن الشخصية لا تنمو إلا بمصارعة قوى معارضة، لكن لو أدرك شلينج أن وحدانية الله جامعة مانعة، لكان قد عرف أن لله شخصية منسجمة مع ذاتها أزلاً كل الانسجام " دون أن يكون هناك داعٍ لحدوث أي تعارض فيه " ، ولما مال كذلك إلى الاعتقاد بأن الله والعالم واحد.
وقال فكتور كوزان : لما كان الله عقلاً كان وجداناً، والوجدان يتضمن التنوع . وقال ألان دي ليل : إذا تحدثنا عن صفات الله وجب أن نعلم أن المحمولات المندرجة تحت المقولات الأولى، وهي الجوهر والكيف والكم، مثل موجود وحكيم وكبير " والأفضل وعظيم " لا تُطلق إلا على ذات الله .
وهذه آراء متشعبة متباينة، شأن كل الآراء التي تصدر من عقول الناس عند البحث في الموضوعات التي تفوق إدراكهم. لكن أصحاب الآراء المذكورة ليسوا من العامة الذين لا يعوَّل على أقوالهم، بل هم أساتذة الفلسفة والعلوم والآداب في أشهر الجامعات، ولذلك فأقوالهم جديرة بالتأمل، لأنهم ولا شك لم ينطقوا بها جزافاً، بل نطقوا بها بعد بحث وتفكير في الطبيعة وما فوق الطبيعة. فلنفحص إذاً آراءهم بتأنٍّ وتدقيق، ثم نسأل أنفسنا : هل هناك يا ترى بين بعضها والبعض الآخر رابطة ما، تدل على إجماعهم على حقيقة من الحقائق المنطقية الثابتة؟ الجواب : نعم.
وما هي هذه الحقيقة؟ الجواب : هي أن وحدانية الله ليست وحدانية مجردة أو مطلقة، بل أنها وحدانية كثرة، أو وحدانية جامعة كما ذكرنا.
وما الأسباب التي قادتهم إلى الإيمان بهذه الحقيقة؟
الجواب : " أ " لا تكون الذات الإلهية كاملة إلا إذا كانت جامعة لكل الخصائص اللازمة لوجودها، واستغنائها بذاتها عن كل شيء في الوجود. " ب " لا يمكن أن يكون العالم قد صدر من إله مجرد أو مطلق، لأن مثل هذا الإله لا يصدر عنه شيء بالإرادة، " لأن وجود الإرادة يتعارض مع ما للوحدانية المجردة أو المطلقة من خصائص " . وإن صدر عنه شيء كان ذلك بالضرورة. وفي هذه الحالة يتعرض للتفكك، والله لا يتفكك لأنه لا تركيب فيه. " ج " يدل التنوّع أو التعدّد الموجود في العالم على أن الله ليس إلهاً مجرداً أو مطلقاً، بل أنه إله جامع أو شامل لكل ما يمكن أن تتصوره أو لا تتصوره من إدراكات ومعان.
أما سانتيلا فقد أعلن بصراحة تامة أن وحدانية الله ليست وحدانية مطلقة، فقد قال : كيف يتصوّر صدور الكثرة باختلاف أنواعها من الأحدية البسيطة المتعالية عن كل كثرة! إن الأمر لا يخلو أن يكون أحد حالين : إما أن يُقال إن الكثرة كانت مكنونة في ذات الأول المحض، كما قال بعض الصوفيين إنها كالشجرة في النواة، وإما أن يُقال إن الكثرة لم يكن لها أثر ولا رسم في ذات الله، وكيف يتصور حينئذ أن تكون علة الكثرة! . فبناءً على رأي سانتلا يجب التسليم بوجود كثرة في الله، أو بتعبير أدق بوجود إله جامع أو شامل.
4 - فلاسفة المسلمين : إذا استثنينا محمد بن زكريا الرازي، الذي كان يستحسن مذهب الثنوية " وهو الاعتقاد بوجود إلهين، أحدهما للخير والآخر للشر، والذي كان منتشراً في بلاد الفرس، وغيرها من البلاد الوثنية القديمة " - وابن الهلال الذي كان يقول بوجود ثلاثة آلهة، الأول بسيط كل البساطة ولا يتجاوب إلا مع ذاته. فهو ملك حر منزه عن كل شيء ولا يتقيّد بعمل ما، والثاني والثالث هما اللذان خلقا العالم ويدبران شئونه - وغيرهما من الفلاسفة الذين كانوا يحتضنون الآراء الوثنية، فإنه يُستنتج من آراء باقي الفلاسفة الذين كانوا يؤمنون بالله وحده، أنهم كانوا يعتقدون أن وحدانيته جامعة، أو جامعة مانعة. إنما كانوا يدعونها الوحدانية المطلقة كما يتضح مما يلي :
قال ابن سينا : الله علم وعالم ومعلوم، وعقل وعاقل ومعقول، وعشق وعاشق ومعشوق " وأليس هذا الوصف وحده، يدل على أن وحدانية الله هي وحدانية جامعة مانعة؟ " . وقال الفارابي : لحظت الأحدية نفسها فكانت قدرة، فلحظت القدرة فلزم العلم الثاني المشتمل على الكثرة. وهناك أفق عالم الربوبية يليه عالم الأمر، يجري به القلم على اللوح فتتكثر الوحدة . ونحن نتساءل : كيف تلحظ الذات ذاتها وتتجلى لها، ولا تكون لها علاقة بينها وبين نفسها! وكيف تكون لها علاقة بينها وبين نفسها، ولا تكون وحدانيتها وحدانية جامعة! والقلم في نظر الفارابي، هو ملك روحاني " الفصوص ص 16 " وفي نظر ابن سينا هو العقول التي تدير الأفلاك " الشفا ص 55 " وفي نظر الشيخ الإمام إبراهيم البيجوري، هو جسم عظيم نوراني خلقه الله، وأمره بكتابة ما كان وما يكون إلى يوم القيامة " تحفة المريد على جوهرة التوحيد ص 179 " .
وقال ابن الفارض : الحمد لله الذي تجلى بذاته لذاته، فأظهر حقائق أسمائه وصفاته، فجعلها أعياناً ثابتة وحقائق عينية . وقال الكاشاني : التجلي الأول هو تجلي الذات لذاتها، وهو الحضرة الأحدية التي لا نعت فيها ولا رسم. والتجلي الثاني هو الذي تظهر فيه أعيان الممكنات الثابتة . ونحن نتساءل : ألا يتوافق إسناد الوحدانية الجامعة إلى الله أزلاً مع ثباته أكثر من إسناد الكثرة إليه، أو إسناد تجلٍ ثانٍ " أو تعيّن ثان " إليه، في دور من الأدوار!
وقال الجيلاني : لما أصبح جوهر الأحدية في حاجة إلى التعُين، صارت الأحدية أسماءً مقدسة لا شبيه لها . وقال غيره : التعيّن الأول لا كثرة فيه لأنه حقيقة الوحدة الحقيقية المنزهة عن الكثرة. والتعيّن الثاني هو الذي تظهر فيه جميع الصفات والعلاقات، ولذلك فهو جملة وحدانية. وفي هذا التعيّن يوجد أصل جميع الأسماء الإلهية التي يشملها الإسم الجامع، الذي هو اسم الله سبحانه وتعالى. لذلك يُسمَّى هذا التعين باسم الله، ولا إله إلا الله، وجميع العابدين يرجعون إلى هذه المرتبة، فيجدون فيها مقصدهم الذي تسكن إليه نفوسهم، وتطمئن له قلوبهم .
وقال الشيخ البيجوري : الوحدانية الشاملة هي وحدانية الذات، ووحدانية الصفات، ووحدانية الأفعال . وقال غيره : حيث أن صفاته تعالى حقيقية، لم يكن بسيطاً من كل وجه . وقال صاحب التحقيق : أرى الكثرة في الواحد، وإن اختلفت حقائقها وكثرت فإنها عين واحدة. فهذه كثرة معقولة في واحد العين . وقال الإمام الغزالي : من ذهب إلى أن الله لا يعقل نفسه، إنما خاف من لزوم الكثرة . فعقل الله لنفسه يدل على تميزه بكثرة، أو بتعبير آخر على أن وحدانيته هي وحدانية جامعة. وقال أيضاً : إن كان عقله ذاته، فيرجع الكل إلى ذاته، فلا كثرة إذاً. وإن كانت هذه كثرة فهي موجودة في الأول أي أصلية فيه ومن مستلزمات وجوده. وقالالشيخ محيي الدين : أمرنا بالاستفادة بالاسم الجامع " أي اسم الله تعالى " . وقال أيضاً : الكل يتحد بالنسبة إلى واجب الوجود، فهو الكل في وحدته. وإذا اعتبر الحق ذاتاً وصفات، كان كلاً في وحدة . وقال أيضاً : لا كثرة في هوية ذات الحق... وكل كثرة واختلاط فهو بعد ذاته وظاهريته . وقال أيضاً : الأسماء الإلهية هي أحدية كثرة . وقال أيضاً : الحقيقة الوجودية واحدة في جوهرها، وذاتها متكثرة بصفاتها وأسمائها . وقال أيضاً : إن الله هو الأول والآخِر، والظاهر والباطن، وهو عين ما ظهر وعين ما بطن. فالأمر حيرة في حيرة. واحد في كثرة وكثرة مردّها إلى واحد . وقال غيره بهذا المعنى : لكن من غلبت عليه الوحدة من كل وجه كان على خطر، فالقلوب به هائمة، والعقول فيه حائرة، وبذلك ظهرت عظمته سبحانه وتعالى .
وأكبر الظن أن ابن العربي كان يقصد بهوية ذات الحق أو باطنه، الله من حيث هو، أو بتعبير آخر، الله من حيث ماهيته أو جوهره. ويقصد بظاهريته، الله من حيث مظهره أو تعينه الذي يتجلى به. وجوهر ذات الحق هو ما يدعى في المسيحية اللاهوت وظاهريته هي ما تدعى فيها الله . وباطن الله وظاهره " أو جوهره وتعينه " واحد، كما يتبين في الفصل التالي. و القول الظاهر والباطن ليس من تأليف ابن العربي، بل اقتبسه من القرآن هو الأول والآخر والظاهر والباطن " الحديد 3 " .
ويبدو لي أن السبب الذي دعا معظم الفلاسفة المسلمين إلى الجزم بأن وحدانية الله هي وحدانية كثرة، أو بتعبير آخر وحدانية جامعة، يرجع إلى أن الإسلام يسند إلى الله صفات وأسماء كثيرة، هي : أسماء الله الحسنى . ومن بين هذه الأسماء الجامع . وكلمة الجامع، إذا نظرنا إليها في ذاتها، وجدنا أنها لا تدل فقط على أن الله جامع للناس، بل أيضاً على أنه شامل لكل ما هو لازم لكماله واستغنائه بذاته عن كل شيء في الوجود.
وأخيراً قال الأستاذ سلامة الشافعي : ولا تظن أن معنى كونه تعالى واحداً، هو كمعنى قولك إن زيداً شخص واحد لا إثنان، فإن هذه الوحدة يوصف بها كل ما هو موجود من الذوات، والمعاني المتمايزة يعرفها كل أحد لكل أحد ولا ينازع فيها عاقل، والإيماء بها في الخالق عز وجل، لا يخلص من شرك ولا ينجو من كفر. وإنما معنى الوحدانية في الله، هو أنه واحد في وجوب الوجود وفي سائر الكمالات اللائقة به . أي أن وحدانيته تعالى هي الوحدانية الجوهرية، وليس الوحدانية الشكلية، أو كما نقول نحن : هي الوحدانية في اللاهوت وليس في التعين. ولعل الأستاذ الشافعي قد تجنب البحث في تعيّن الله أو وحدانيته الشكلية، لأنه رأى أنها تفوق العقل والإدراك، وحقاً إنها لكذلك!
يتبين من هذا الفصل لنا أن الله الذي يؤمن به المؤمنون على اختلاف مذاهبهم هو الله وليس سواه. ولكن الخلاف في شأنه بينهم يرجع لمقدار تأملهم في ذاته وأعماله. فبعضهم يهمل القيام بهذا التأمل الجليل، أو يتنحى عن القيام به لاشتغاله بأمور الحياة الدنيا، أو لاعتقاده أن هذا الموضوع لا يجوز البحث فيه. فيكتفي بالقول إن الله واحد، دون أن يجهد نفسه في معرفة خصائص الوحدانية أو مميزاتها. ولكن رغبة منه في إعلاء شأن هذه الوحدانية " حسب اعتقاده " يدعوها وحدانية مطلقة أو مجردة . بينما البعض الآخر يرى من الواجب أن يعرف كل ما يمكن معرفته عن الله، لأنه يعتقد أنه كلما زادت معرفته عنه، رسخ إيمانه به وازدادت علاقته معه، فيتأمل بتدقيق في جميع أعماله وتصرفاته، ويبحث فيما تدل عليه من صفات وخصائص في ذاته، فيرى أن وحدانيته لا يمكن أن تكون وحدانية مجردة أو مطلقة، بل وحدانية شاملة أو جامعة.
الفصل الثاني
توافق الوحدانية الجامعة المانعة مع وحدانية الله المحضة
اتضح لنا مما سلف، بالكثير من الأدلة العقلية والنقلية، أن وحدانية الله هي وحدانية جامعة مانعة أو شاملة مانعة. ومع ذلك فإن بعض المؤمنين بالله في كل دين من الأديان، يرفضون التسليم بهذه الحقيقة، بدعوى أن الجامعية " أو الشمول " تتعارض مع الوحدانية المحضة، أو الوحدانية التي لا تركيب فيها، التي يتصف الله بها.
وللرد على ذلك نقول : إنها كانت تتعارض معها لو كان أساس الجامعية أو الشمول في الله هو أساس الوحدانية فيه. أما إذا كان أساس الجامعية فيه يختلف عن أساس الوحدانية، فلا مجال للتعارض أو التناقض بينهما.
ولإيضاح ذلك نقول : إذا وُصف الإنسان مثلاً بأنه واحد وثلاثة، فإن هذا الوصف يبدو لأول وهلة متعارضاً مع الحقيقة، لأنه لا يمكن أن يكون شخص بعينه واحداً وثلاثة. لكن إذا تبيّن لنا أنه يقصد بهذا الوصف أن الإنسان واحد من جهة المظهر وثلاثة من جهة الجوهر، فإن الشك في صحة هذا الوصف يزول، لأننا نعلم أن الإنسان واحد في مظهره، وفي الوقت نفسه هو جوهرياً مكّوَن من ثلاثة عناصر، هي الجسد والنفس والروح.
وعلى هذا القياس مع مراعاة الفارق الذي لابد منه بين الوحدانية الإلهية والوحدانية البشرية " فوحدانية الإنسان مركبة، أما وحدانية الله فغير مركبة. هذا علاوة على أن الله هو الخالق والإنسان هو المخلوق " . نقول :
بما أن الله جوهر، لأن القائم بذاته جوهر، " كما مر بنا في الباب الأول " وبما أن هذا الجوهر وإن كان لا متناهياً له تعيّن خاص، إذاً يكون الله واحداً من جهة، وجامعاً أو شاملاً من جهة أخرى، دون أن يكون في ذلك تعارض أو تناقض في ذاته. فمن أي جهة يكون تعالى واحداً؟ ومن أي جهة يكون جامعاً؟
الجواب : لا شك أنه يكون واحداً من جهة الجوهر " أو الهوية والباطنية، كما يقول ابن العربي " لأنه إن لم يكن واحداً من هذه الجهة، كان مركباً وقابلاً للتجزئة، وهو ليس مركباً أو قابلاً للتجزئة. ويكون جامعاً من جهة التعيّن " أو الظاهرية، كما يقول ابن العربي " لأن اتّصاف الله بصفات واختصاصه بعلاقات بينه وبين ذاته منذ الأزل، يدل بوضوح على أنه جامع من هذه الجهة. ويتفق معنا على ذلك ابن العربي، فقد قال : لا كثرة في هوية ذات الحق، وكل كثرة واختلاط " أو علاقات " ، فهو بعد ذاته وظاهريته . وجوهر الله الواحد الجامع في تعينه لكل صفاته وعلاقاته " أو بتعبير آخر لكل ما هو لازم لكماله واستغنائه بذاته عن كل شيء في الوجود " ليس طبعاً سوى عين ذاته، لأنه تعالى لا تركيب فيه على الإطلاق.
وبقولنا سالف الذكر لا نفرّق مطلقاً بين جوهر الله وتعيّنه، بل نقصد فقط أنه مع لانهائيته ليس جوهراً غير متميز " Vagueأو غير متعين Indefinite " بل إنه جوهر متميز متعين " لأن التميز أو التعين هو من مستلزمات كل موجود حقيقي، كما ذكرنا فيما سلف " فجوهر الله ما هو إلا اللاهوت وهذا الجوهر نفسه بالنظر إلى تعينه ما هو إلا الله والله ليس شيئاً غير اللاهوت بل هو اللاهوت معيّناً، واللاهوت ليس شيئاً غير الله، بل هو الله جوهراً، لأنه تعالى لا تركيب فيه. وقد ذهب فريق من العلماء إلى أن كلمة اللاهوت فارسية، وذهب فريق آخر إلى أنها عربية. فقال الفريق الأول إنها مكونة من الله و أوت . وكلمة أوت معناها العلم . وبناء على ذلك يكون اللاهوت هو علم الله أو علم معرفة الله . وقال الفريق الثاني إن كلمة اللاهوت مصدر من كلمة الله على وزن ملكوت ورحموت ورهبوت. أما نحن فقد استعملنا كلمة اللاهوت هنا بمعنى جوهر الله، أو الله في جوهره، لأنه هو المعنى المفهوم من نص الكلمة، ولأن الكتاب المقدس قد سبق واستعملها بهذا المعنى عينه " كولوسي 2 :9 " .
فالله من حيث تعيّنه في ذاته واتصافه بصفات وممارسته لأعمال وتميزه بعلاقات بينه وبين ذاته أزلاً، وبينه وبيننا في الزمان، هو الله أو اللاهوت معيناً. وأما من حيث كونه لانهائياً، لا يمكن وصفه أو إدراكه، أو معرفة شيء عنه، فهو اللاهوت أو الله جوهراً - وقد أدرك ديكارت هذه الحقيقة، فقال : الألوهية هي الواحد الذي لا يُقال عنه شيء، أو إنها الله بصرف النظر عن علاقاته " الفلسفة الأوربية في العصر الوسيط ص 222 " - ولعل الترجمة الصحيحة، هي اللاهوت وليس الألوهية لأن الألوهية يراد بها غالباً المميزات الخاصة بالله، بينما اللاهوت يراد به جوهر الله أو كيان الله، وهذا هو ما يقصده ديكارت. وفي اللغة اليونانية " اللغة الأصلية للعهد الجديد " توجد أيضاً كلمة خاصة للألوهية وأخرى للاهوت، فالأولى هي ثيؤتيس والثانية هي ثؤتيس . والفرق بين هاتين الكلمتين ليس بالغريب علينا نحن الناطقين بالضاد، فإننا نقول عن الكافر الذي يريد تأليه نفسه : إنه يسعى إلى الألوهية، ولا نقول إنه يسعى إلى اللاهوت، إذ أن غرضه هو الحصول على مميزات الله، لا على جوهره أو كيانه.
وإذا استعرنا لغة محيي الدين بن العربي، كان اللاهوت هو الباطن والله والظاهر. وظاهر الله وباطنه واحد، لأنه عين ما ظهر وعين ما بطن. وإذا استعرنا لغة سبينوزا أو ديكارت في الفكر والامتداد، كان اللاهوت هو الله مستتراً، والله هو اللاهوت ظاهراً، والله واللاهوت واحد، لأنه عين ما استتر وعين ما ظهر، ولذلك كثيراً ما تستعمل كلمة اللاهوت بمعنى الله ، وكلمة الله بمعنى اللاهوت .
مما تقدم يتضح لنا ما يأتي :
1 - بما أنه لا يُراد بوحدانية الله الجامعة أنه واحد في تعيّنه وجامع أيضاً في تعينه، بل يُراد بها أنه واحد في جوهره وجامع في تعينه، إذاً ليس هناك أي تناقض في القول إن وحدانيته هي وحدانية جامعة.
ويتفق معنا على ذلك كثير من علماء الدين، فمثلاً قال صاحب المواقف : لايجوز اجتماع الوحدة مع الكثرة في شيء واحد من جهة واحدة " المواقف ص 342 "،ومع ذلك يجوز اجتماعهما معاً في شيء واحد من جهتين. فإذا أضفنا هذه الشهادة إلى الشهادات السابقة عن وجوب قيام كل وحدانية حقيقية بمميزات خاصة " كما ذكرنا في الباب الثاني " لا يبقى مجال للاعتراض على القول بأن وحدانية الله هي وحدانية جامعة مانعة.
2 - بما أنه لا يُراد بوحدانية الله الجامعة أنه جامع في جوهره وواحد في تعيّنه، بل بالعكس يراد بها أنه واحد في جوهره وجامع مع تعينه، إذاً لا سبيل للظن بأنها تدل عن وجود أي تركيب في ذاته.
3 - وبما أنه لا يُراد بجامعية تعينه، ذاته وغيرها من الذوات، بل يراد بها ذاته وحدها، إذاً لا سبيل للظن بأن هذه الوحدانية تدل على وجود أي شريك له. وبذلك فإن وحدانية الله الجامعة لا تتعارض مع عدم وجود تركيب فيه، أو مع تفرده بالأزلية، بل تتوافق مع هاتين الحقيقتين كل التوافق.
الفصل الثالث
ماهية الجامعية في الوحدانية الإلهية
يعتقد بعض الفلاسفة الذين أدركوا أن وحدانية الله هي وحدانية جامعة أو شاملة، أن هذه الجامعية أو الشمول هي ذاته وصفاته. لكن هذا الاعتقاد لا يتفق مع الخصائص اللائقة بالله، لأننا إذا فرضنا أن جامعية الله هي ذاته وصفاته، وصفاته كانت بالفعل أزلاً، أو أن صفاته كانت تكلمه وتسمعه وتبصره وتحبه وتريده أزلاً، أو أنها كان يكلم بعضها بعضاً ويسمع بعضها بعضاً ويبصر بعضها بعضاً أزلاً، وكل ذلك باطل - لأن الله لا يتعامل مع الصفات، ولا الصفات تتعامل مع الله أو مع بعضها، لأن التعامل لا يكون إلا بين التعينات العاقلة، والصفات معان وليست تعينات. ولذلك فجامعية الله لا يمكن أن تكون هي ذاته وصفاته. وإذا كان الأمر كذلك، فماذا تكون جامعيته إذاً؟
الجواب : بما أن الصفات، كالسمع والبصر، والكلام والعلم، والإرادة والمحبة، لا يمكن أن تُمارس إلا بين كائنين عاقلين على الأقل، أو بين كائن عاقل وذاته إن كان مركباً. وبما أن الله مع تفرّده بالأزلية وعدم وجود تركيب فيه، كان يمارس هذه الصفات أزلاً بينه وبين ذاته، فمن المؤكد أن تكون ذاته عينها مع وحدانية جوهرها، هي بنفسها جامعة " كما ذكرنا في الباب الثاني " أو بتعبير آخر، تكون ذاته ليس تعيناً واحداً، بل تعينات. وهذه التعينات هي ما عبَّرنا عنها في الباب الثاني بالمميزات ، التي تتميز بها وحدانية الله. ولذلك كانت جميع صفات الله بالفعل، قبل وجود أي كائن سواه، أو بالحري منذ الأزل.
وإذا كانت ذات الله تعينات، فمن البديهي أن يكون كل تعيّن من هذه التعينات، ليس جزءاً من ذات الله. بل أن يكون هو ذات الله، لأنه غير مركب من عناصر أو أجزاء، وأن يكون ذات الله نفسها بكل خصائصها وصفاتها لأن تعين الله هو عين جوهره، ولذلك يكون كل تعين من هذه التعينات هو الله الأزلي الأبدي، العالم المريد، القدير البصير السميع الكليم، الكامل كل الكمال، ومستغنياً بذاته كل الاستغناء، إذ يكون عالماً ومعلوماً ومريداً ومراداً وناظراً ومنظوراً وسميعاً وكليماً ومحباً ومحبوباً، وهكذا، إلى درجة الكمال الذي ليس بعده كمال، دون أن يكون هناك تركيب في ذاته أو شريك معه.
وقد أشارت الأشاعرة إلى أن لله حديثاً أزلياً فقالت : لله حديث نفسي قديم " أو أزلي " قائم بذاته تعالى، وهو صفة قديمة لذات الله مساوية لها في القدم. ولا علم لنا به إلا عن طريق الألفاظ. وهو واحد لا تعدد فيه، متميز مغاير لذاته " مجلة كلية الآداب الصادرة في مايو سنة 1943 " . هذا فضلاً عن إسنادها كل الصفات المذكورة أعلاه إليه تعالى أزلاً، كغيرها من الفرق والجماعات.
ونرجو أن يضع القارئ في ذهنه، أننا لا نقول إن كلاً من هذه التعينات يكون إلهاً، بل نقول إن كلاً منها يكون هو الله، أو اللاهوت معيناً - لا شك أن هذه الحقيقة أسمى من أن تستطيع عقولنا تصورها، ولكنها تتوافق معها كل التوافق. لأنه بما أن الله أو اللاهوت لا تركيب فيه على الإطلاق، لذلك لا يكون أي تعيّن من تعيناته جزءاً أو عنصراً فيه، بل يكون هو عين ذاته.
وطبعاً ليس معنى ذلك، أن الله الواحد، قائم بآلهة مشابهة له، كلا، لأنه ليس له شريك أو شبيه على الإطلاق، وليس معناه أنه تعالى ذات في ذوات، أو ذوات في ذات. كلا، لأنه تعالى ذات واحدة لا تركيب فيها على الإطلاق. بل معناه أن ذاته الواحدة هي بعينها تعينات.
نعم إن العقل لا يستطيع أن يتصور هذه الحقيقة، ولا يسعه إلا أن يقول كما قال بعض الفلاسفة : الأمر حيرة في حيرة : واحد في كثرة، وكثرة مردّها إلى واحد . ولكن لا مفرّ له من التسليم بصدقها لأننا لم نختلِقْها من عندنا، بل استنتجناها من وجوب وجود صفات الله بالفعل أزلاً. ونظراً لأننا سنعود إلى التحدث عن صدقها في الفصل التالي، نكتفي الآن بأن نلخص ما مضى :
تفرَّد الله دون سائر الكائنات بأنه مع وحدانيته وعدم وجود أي تركيب فيه، ليس تعيّناً واحداً بل تعينات. وكونه تعينات وليس تعيناً واحداً أمر يتوافق مع كماله واستغنائه بذاته وعدم تعرّضه للتطور أو التغير، لأنه يدل على أنه مع تفرّده بالأزلية كانت جميع صفاته بالفعل أزلاً، أي قبل وجود أي كائن سواه.
الفصل الرابع
الأقانيم
اصطلح معظم فلاسفة المسيحيين في الأجيال الأولى، على تسمية هذه التعينات بالأقانيم، والمفرد أقنوم . و الأقنوم أو القنوم ، كلمة سريانية يطلقها السريان على كل من يتميّز عن سواه، على شرط ألا يكون مما شُخص وله ظل، ولذلك فإنه يُراد بالأقنوم التعين . وقد وردت في اللغة اللاتينية كلمة تشبه هذه الكلمة في النطق تقريباً، وهي ?Aequanimitasومعناها Befor The Class أي في الصدارة، أو قبل كل هيئة أو نظام . وقد تعني أيضاً الانسجام في الفكر والشعور والصفات الطيبة . أما القول إن كلمة أقنوم معناها أصل كما ورد في بعض كتب الفلسفة، فليس بصحيح، إذ فضلاً عما تقدم من دليل لغوي، فإننا لا نؤمن أن الأقانيم هم أصول للعالم، بل نؤمن أنهم أصل العالم، لأنهم تعيّن الله أو الله معيَّناً. والله دون سواه هو أصل العالم ومبدعه. والقول إن كلمة أقنوم معناها أصل منقول " كما أعتقد " من قاموس مختار الصحاح ص 553 فقد جاء فيه : الأقانيم الأصول، وواحدها الأقنوم . ومع كلٍ، فإن صاحب المختار نفسه اعترف أنه لم يتحقق من مصدر هذه الكلمة، فقد قال في الصحيفة المذكورة وأحسبها روميَّة والواقع أنها ليست كذلك، كما يتضح لكل من له إلمام باللغة اليونانية " التي يسميها صاحب المختار الرومية ، كما لا يزال يسميها بعض الناس إلى الوقت الحاضر " لأن الكلمة اليونانية المقابلة أو التي تكاد تكون مقابلة، لكلمة أقنوم هي إيبوستاسيس وقد نُقلت إلى اللغة الإنجليزية Hypostasis واستُعملت فيها بهذا المعنى عينه.
وليس لكلمة أقنوم مرادف في اللغة العربية أو غيرها من اللغات يؤدي معناها تماماً، لأن كلمة شخص العربية وما يرادفها في اللغات الأخرى تدل على الذات المنفصلة عن غيرها، والأمر ليس كذلك من جهة كلمة أقنوم . وقد أشار إلى هذه الحقيقة إيليا مطران نصّيبين في القرن الحادي عشر في إحدى رسائله : ليس في اللغة العربية لفظ يعبر به عن الموجود الذي كيانه ليس عاماً " أي الذي ليس له شريك في كيانه " أو ذا عرض " أي الذي ليس له مظهر مادي " ولذلك عبّرنا عنه بالسريانية بكلمة أقنوم " مقالات دينية قديمة ص 127 " .
فكلمة الأقانيم تختلف عن كلمة الأشخاص من ناحيتين رئيسيتين : " 1 " إن الأشخاص هم الذوات المنفصل أحدهم عن الآخر، أما الأقانيم فهم ذات واحدة، هي ذات الله. " 2 " إن الأشخاص وإن كانوا يشتركون في الطبيعة الواحدة إلا أنه ليس لأحدهم ذات خصائص أو صفات أو مميزات الآخر. أما الأقانيم فمع تميّز أحدهم عن الآخر في الأقنومية، هم واحد في الجوهر بكل صفاته وخصائصه ومميزاته، لأنهم ذات الله الواحد.
فالأقانيم في المسيحية هم تعينات اللاهوت، أو تعيّن اللاهوت الخاص، أو هم اللاهوت معيّناً، فإن جوهر الله هو عين تعيّنه، وهم تعينه أو إياه معيناً، لأن الأقانيم ليسوا تعينات في الله، بل هو ذات تعينه أو بالحري هم عين ذاته " لأنه تعالى لا تركيب فيه " ، لذلك لا يُقال إن الأقانيم في الله، أو إن الله يشتمل على الأقانيم، بل يقال إن الأقانيم هم الله، والله هو الأقانيم.
ويستعمل بعض الكتّاب صيغة التأنيث مع الأقانيم على اعتبار أنه لا جنس لهم. لكن نظراً لأننا نقول الله هو مع أنه لا جنس له، استصوبْتُ أن أستعمل في هذا الكتاب صيغة المذكر السالم مع الأقانيم كما استعملها الكتاب المقدس من قبل " يوحنا 1 :1 " . ولذلك أرجو أن يذكر القارئ " عندما يقرأ عبارة مثل الواردة أعلاه " أن الأقانيم ليسوا ذوات منفصلة، بل هم ذات واحدة، هي ذات الله.
الأقانيم إذاً هم اللاهوت معلناً في ذاته وصفاته، ولذلك فإن اللاهوت في تعينه أو أقانيمه لا يكون هو الله المبهَم الغامض، كما يتصوّره بعض الناس، بل الله المعيّن الواضح، الذي نستطيع إدراكه والرجوع إليه، فنجد فيه مقصدنا، الذي تسكن إليه نفوسنا وتطمئن إليه قلوبنا.
أما عدد الأقانيم فطبعاً هو أول عدد كامل جامع، لا يمكن لأقل منه أن تتوافر فيه خصائص الوحدانية الجامعة المانعة. وهذا العدد، كما نعلم، هو ثلاثة ويتفق معنا الشيخ محيي بن العربي على ذلك إلى حد كبير، فقد قال : أول الأعداد الفردية، هو الثلاثة لا الواحد، لأن الواحد ليس بعدد بل هو أصل الأعداد " فصوص الحكم ص 130 " . ويؤيده في ذلك الكندي، أحد فلاسفة المسلمين المشهورين أيضاً، فقد قال : الواحد ليس بعدد بل هو ركن العدد " كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى ص 127 ، 128 " ، أو بعض العدد كما قال في موضع آخر.
وهناك اعتقاد عام عندنا نحن البشر، بأن العدد " 3 " هو أول عدد كامل، ففي أمثالنا نقول : الحبل المثلوث لا ينقطع ، و كل شيء بالثالث يكمل . و المرة الثالثة ثابتة ، وأيام العزاء عندنا هي ثلاثة . وفي قانون العقوبات يُعتبَر المجرم عائداً يستحق عقوبة الجناية بدلاً من عقوبة الجنحة إذا ارتكب مخالفة ثلاث مرات " المادة 49 من قانون العقوبات " . وفي الرياضيات، أول شكل هو الذي له ثلاثة أضلاع، وأول حجم هو الذي له ثلاثة أبعاد. وفي الطبيعة، كل نبات راقٍ مكوّن من ثلاثة أجزاء رئيسية، وكل حيوان راقٍ مكوّن من ثلاثة أجزاء رئيسية، وكل إنسان كامل مكوّن من ثلاثة أجزاء رئيسية، وأيضاً من ثلاثة عناصر رئيسية. والذرة نفسها مكونة من ثلاثة أجزاء.
وفي الأديان أيضاً يُعتبر العدد " 3 " هو أول عدد كامل، ففي الإسلام يذكر المصلي اسم الله ثلاث مرات في كل ركعة، ويقوم بالمضمضة ثلاث مرات، والاستنشاق ثلاث مرات، وغسل الوجه ثلاث مرات، وغسل اليدين حتى المرفق ثلاث مرات، ومسح الرأس والأذنين ثلاث مرات، وغسل الرجلين ثلاث مرات. والقسَم لا يكون نافذاً إلا إذا كان بالله ثلاثاً، والطلاق لا يكون قانونياً " أو بائناً بينونة كبرى " إلا إذا كان الإشهار به ثلاثاً. وتقضي السنّة بصوم ثلاثة أيام في شهر رجب، وثلاثة أخرى في شهر شعبان. وجاء في الأحاديث : لا يحل لأحدكم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال . وفي اليهودية والمسيحية يُعتبر العدد " 3 " أول عدد كامل " اقرأ مثلاً : 2صموئيل 24 :12 ، دانيال 1 :5 ، خروج 23 :14 ، دانيال 6 :10 ، وتكوين 15 :9 وإشعياء 15 :5 واستير 5 :1، لوقا 13 :7، متى 12 :40 وأعمال الرسل 10 :16 " .
وطبعاً ليس الغرض من الاقتباسات المذكورة هو الاستدلال بها على أن أقانيم اللاهوت لابد أن يكونوا ثلاثة. كلا، لأن الله أسمى من أن يُقاس بالنسبة إلى أي شيء من الأشياء، بل الغرض من هذه الاقتباسات هو الاستدلال بها على أنه لو أعلن لنا الوحي أن الأقانيم ثلاثة، لما جاز لعقولنا أن تعترض على الإطلاق، لأن هذه الحقيقة تكون متفقة مع الواقع المعروف لدينا. وسنبحث موضوع عدد الأقانيم بالتفصيل في كتاب التثليث والتوحيد .
أخيراً، إن أمام القول بأن وحدانية الله هي وحدانية جامعة مانعة، لا يجد العقل مجالاً للاعتراض. وإن اعترض بشيء، فلا يمكن أن يقول سوى إن هذا الموضوع يسمو فوق إدراكه. ونحن من جانبنا نوافق على حكمه هذا كل الموافقة، لأن الله عجيب في ذاته، ولا يمكن الإحاطة به إطلاقاً. ومع كل، فإنه وإن كان يسمو فوق إدراك العقل، إلا أنه ليس ضده.
وهناك فرق كبير بين الأمور التي تسمو فوق العقل وتلك التي لا تتفق معه، فالأولى هي التي تتفق معه في أساسها، لكن لسموها لا يستطيع الإحاطة بكنهها. أما الثانية، فإنها لا تتفق معه إطلاقاً، لا في أساسها أو في كنهها. فمثلاً إذا قلنا إن الله يحب الأشرار لا يكون ذلك ضد العقل، بل يكون أسمى من إدراكه. لأن الأشرار وإن كانوا " حسب عقولنا " لا يستحقون محبة من الله، إلا أنه تعالى لكماله التام لا يمكن أن يكرههم، لأنهم خليقته، والخالق يحب خليقته، ولذلك فمن البديهي أنه يحبهم ويهيئ لهم سبيل الرجوع إليه والتوافق معه. أما إذا قلنا إن الله يحب الخطيئة فلا يكون ذلك أسمى من إدراك العقل، بل يكون ضده، لأن الله لم يخلق الخطيئة، ولأن الخطيئة تتعارض مع كماله كل التعارض.
وهنا نرى أننا يجب أن نؤمن :
إما أن وحدانية الله وحدانية مجردة، أو مطلقة، أو وحدانية جامعة مانعة.
فإن قلنا إنها مجرّدة، نفينا عنه الذات والصفات. مع أن له ذاتاً وله صفات.
وإن قلنا إنها مطلقة، افترضنا اتصافه بصفات لا علة لها أو عمل أزلاً " لأن الوحدانية المطلقة لا تتميز بمميزات، تجعل صفات صاحبها بالفعل بينه وبين ذاته " . وأسندنا أيضاً إليه التغيّر والتطور بدخوله في علاقة مع الكائنات التي خلقها، لأن الوحدانية المطلقة ليس لها علاقة بينها وبين ذاتها.
ولذلك فمن المؤكد أن تكون وحدانية الله جامعة مانعة، أو بتعبير آخر متميزة بأقانيم أو بتعينات " أو سمِّها ما شئت، إذ لا قيمة للفظ بجانب سلامة المعنى " لأن هذه الأقانيم، أو التعينات، أو... أو... هي خصائص الله الذاتية. ولذلك كان الله مع لا نهائيته وتفرده بالأزلية، وعدم وجود أي تركيب فيه، ليس الإله المجرد من الصفات، أو الذي يتصف بصفات لم يكن لها عمل أزلاً، بل الإله المتصف بكل صفات الكمال اللائقة به، ليس بالقوة بل بالفعل، وذلك منذ الأزل إلى الأبد، بغض النظر عن وجود المخلوقات أو عدم وجودها، الأمر الذي يتوافق كل التوافق مع كماله التام، واستغنائه عن كل شيء في الوجود، وعدم تعرّضه للتطّور أو التغيّر.
ولذلك فكون وحدانية الله جامعة مانعة، ليس حقيقة معقولة فحسب، بل وجديرة أيضاً بكل تقدير وقبول، لأنها تعلن لنا أن الله كامل كل الكمال، الأمر الذي يتوافق مع ذاته كل التوافق، ويبعث في نفوسنا روح الإعجاب والاعتزاز به، وروح التعبد والسجود إليه. كما تعلن لنا أنه يحبنا منذ الأزل محبة لا حدَّ لها، وأنه يهتم في الزمان بكل أمورنا وظروفنا، الأمر الذي يرفع بنفوسنا إليه لتقترن به وتتآلف معه، وفي هذا كل هنائها وسلامها، بل وكل نعيمها ومجدها أيضاً.
أضف تعليق