الفصل الثاني:
تصريحات الإسلام عن الكفارة
جئنا في البحث السابق بخلاصة العقيدة المسيحية في كفارة المسيح الفدائية. ونقرر الآن أن هذه الحقائق بعينها قد أيّدها الإسلام بتصريحات متكررة. ولنستعرض الآن ما جاء في الإسلام بشأن تلك الحقائق حسب ترتيبها:
1 - عصيان الإنسان الأول وسقوطه
جاء في سورة البقرة 2: 35 ، 36 : وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَأَزَلّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُّوٌ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ .
وإن ما جاءت به هذه الآية، وما فسرها به المفسرون، يصرح بثلاثة أمور:
1 - تسجيل العصيان على آدم وحواء وأبنائهما بوقوعهم في زلة المخالفة لأمر الله تعالى.
2 - إن آدم وحواء كانا نائبين عن الجنس البشري بأجمعه، وهذا واضح من تفسير المفسرين لقوله: وقلنا اهبطوا. وهذا معناه أن سقوطهما اعتُبر في نظر الله سقوطاً للبشرية جمعاء. يؤيد هذا الحديث الذي رواه الترمذي وهو: جحد آدم فجحدت ذريته، ونسي آدم فأكل من الشجرة فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته. فهذا الحديث صريح في أن كل ما أتاه آدم من الخطأ والعصيان اعتُبر في نظر الله أنه صادر من ذريته، وفي هذا إقرار واضح بأن آدم كان نائباً عن الجنس البشري بأسره. والقرآن يوضح أن الله أخرجهما في صيغة المثنى وحل ّالعقاب بالبشر جميعاً اهبطوا بعضكم لبعض عدو في صيغة الجمع.
3 - فساد الطبيعة البشرية عقب سقوط آدم وحواء، وهذا واضح من قوله: بعضكم لبعض عدو ، ومن تفسير المفسرين له بأنه نبوءة بما سيقع من الظلم والعدوان من البشر على بعضهم البعض كأثرٍ لسقوط آدم وحواء في زلة العصيان. فهو نبأ بما باتت عليه الطبيعة البشرية من فساد نتيجة لعصيان آدم وحواء.
ومما يثبت هذا الرأي سورة يوسف 12: 53 إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ وقال الرازي في تفسيرها: إن النفس لأمارة بالسوء أي ميالة إلى القبائح راغبة في المعصية، والطبيعة تواقة إلى الذات. ولما كان الغالب انجذاب النفس إلى العالم الجسداني، وكان ميلها إلى الصعود نادراً، حكم عليها بكونها أمارة بالسوء .
ثم إنّ الإسلام يقرر أن الجميع خضعوا لعوامل الفساد، وخنعوا لسلطان الخطية وعبودية الإثم، وهذا واضح من قوله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجِّي الّذينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً (سورة مريم 19: 71 ، 72) وقوله: وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ (سورة النور 24: 21)
ويؤيد هذا أيضاً ما سجله الإسلام على جميع الأنبياء بلا استثناء، من الوقوع في الخطأ ومخالفة أوامر الله. فآدم ونوح وإبراهيم وموسى وداود وسليمان، وكل الأنبياء بلا فارق، قد زاغوا وأخطأوا. ولقد أتينا في الباب الرابع ببعض الآيات التي تثبت وقوع الأنبياء في الخطأ والمعصية. وجاء في صحيح مسلم والبخاري: ما منكم من أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى. قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته. وعن أبي هريرة أنه قال: سمعت رسول الله يقول: إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم سبعين مرة .
فالإسلام يقرر بوضوح فيه أن البشر جميعاً قد زاغوا وفسدوا وخضعوا لسلطان الفساد، ووقعوا في عثرة العصيان. وهكذا نرى أن الإسلام قد صادق على ما تعلّم به المسيحية من أن الإنسان الأول سقط، وأنه في سقوطه كان نائباً عن ذريته كلها. فكان سقوطه سقوطاً للبشرية بأسرها، وأن الطبيعة البشرية قد أصابها الفساد نتيجة ذلك السقوط. قال في سورة التين 95: 4 ، 5 لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ وهذه هي الحقائق التي ينهض عليها الركن الأول من أركان العقيدة المسيحية في كفارة المسيح وضرورتها.
2 - الله عادل ورحيم
تصريحات الإسلام عن عدل الله ورحمته كثيرة وافرة، ونستطيع أن نقسم الآيات التي وردت بالقرآن عن هذا إلى ثلاثة أقسام: (1) يتضمن الآيات التي تشير إلى مجازاة الأشرار وفاء لعدله الإلهي. (2) يتضمن الآيات التي تتحدث عن رحمته تعالى. (3) يتضمن الآيات التي نصَّت على العدل والرحمة معاً مثبتة أن الله مرتبط بكليهما في أفعاله.
أ - الآيات التي تشير إلى مجازاة الأشرار وعقاب الله للخطاة الأثمة وفاءً لعدله الإلهي:
وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (سورة البقرة 2: 48)
إِنَّ الّذينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ,,, إِنَّ الّذينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَاَ أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (سورة آل عمران 3: 4 - 11)
وجاء في نفس السورة: فَأَمَّا الّذينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ,,, وَاللّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِين (سورة آل عمران 3: 56 ، 57)
إِنَّ الّذينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (سورة آل عمران 3: 91)
إِنَّ الّذينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (سورة آل عمران 3: 116)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الّذينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (سورة المؤمنون 23: 101 - 104)
وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ وَالّذينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (سورة العنكبوت 29: 22 - 23) .
ب - الآيات التي ذُكرت فيها رحمته تعالى، وأنه جل شأنه مرتبط بها:
قُلْ يَا عِبَادِيَ الّذينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (سورة الزمر 39: 53)
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ للّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الّذينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (سورة الأنعام 6: 12)
وَإِذَا جَاءَكَ الّذينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (سورة الأنعام 6: 54)
ولنلاحظ في الآيتين الأخيرتين التصريح بأن الله قد كتب على نفسه الرحمة وهذا يؤيد النظرية التي ذكرناها سابقاً، وهي أن الله مرتبط بصفاته الأدبية، فهو وإن كان قد تعالى عن كل قانون إلا أنه مرتبط بقانون كماله الذي كتبه على نفسه لا يتغير عنه ولا يتحول، فليس عنده تغيير ولا ظل دوران.
وجاء في سورة النور 24: 14وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ .
ولنلاحظ في هذه الآية أيضاً تدخل الرحمة في خلاص الناس، وأنه لولا رحمته تعالى لقضى على البشر بالعقاب الأليم، ولمسَّهم عذاب عظيم.
ج - الآيات التي ورد فيها ذكر الرحمة والعدل معاً، وارتباط الله بكليهما:
ا عْلَمُوا أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (سورة المائدة 5: 98) .
إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (سورة الأعراف 7: 167)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (سورة الرعد 13: 6)
غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (سورة غافر 40: 3)
وهكذا نجد أن الإسلام يثبت صفتي العدل والرحمة لله تعالى، ويقرر أنه جل شأنه مرتبط بكليهما في معاملة البشر، وهذه مصادقة منه على الركن الثاني من الأركان التي يرتكز عليها تعليم الكفارة في المسيحية.
3 - الفدية
ذكرنا آنفاً أن المسيحية تعلم أن الله لكي يجمع بين عدله ورحمته في تصرفه مع الإنسان عقب سقوطه دبر طريقة فدائه، بتجسد ابنه الحبيب وموته على الصليب نيابة عنا، وبهذا أخذ العدل حقه، وتكملت الرحمة فنال البشر العفو والغفران، وهذه هي نظرية الفدية. ولقد صادق الإسلام عليها في قصة امتحان الله لإبراهيم في ابنه : فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلاَمٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (سورة الصافات 37: 102-111)
في هذه الآية وفي أقوال المفسرين لها، إعلان عن أهم الحقائق الخاصة بالفدية كما تعلّم به العقيدة المسيحية، ففيها إعلان عن مبدأ الفدية ذاته، وكيف تنوب الفدية عن المفديّ بها، وكيف يُعتبر ما تم كأنه تمَّ للمفدي نفسه بالفعل. وهذا واضح من قول البيضاوي في تفسيره: بما يذبح بدله فيتم به الفعل. وفيها إعلان عن طريقة الفداء بالذبح في قوله: وفديناه بذبح عظيم. ومعلوم أن المسيحية تعلّم أن الطريقة التي رتبها الله منذ سقوط الجنس البشري لفدائه هي ذبيحة المسيح، وأن جميع الذبائح التي وُضعت رسومها في اليهودية كانت رمزاً وإشارة لذلك الذبح العظيم.
4 - المسيح هو الفادي الوحيد
لا يخفى أن المسيحية تعلّم أن تجربة إبراهيم، وما جرى فيها، كانت رمزاً إلى الفداء الذي كان عتيداً أن يتم في المسيح، وأنّ في إيراد الإسلام لتلك الحادثة، مع نسبة العظمة إلى الفدية دليل جديد من أدلة مصادقة الإسلام على العقيدة المسيحية في تعليم الفداء بالذبيح العظيم يسوع المسيح الذي فدانا بدمه الكريم.
وما نسبه الإسلام للمسيح من حق الشفاعة يؤيد هذا الرأي ويثبته. لقد مر بنا عند الكلام عن لاهوت المسيح أن الإسلام أثبت الشفاعة للمسيح، وذلك فيما ذكره المفسرون عند تفسيرهم قوله: وجيهاً في الدنيا والآخرة. فقد أجمع الرازي والجلالان والبيضاوي والزمخشري على أن المقصود بالوجاهة هنا الشفاعة، وقد بينّا هناك كيف أن نسبة الشفاعة للمسيح تبرهن لاهوته الممجد. وهنا نقول إنّها تقدم برهاناً على صدق عقيدة الكفارة التي علّمت بها المسيحية.
وشفاعة المسيح تتفق مع عدل الله ورحمته وتجمع بينهما. وقد مرّ بنا الكلام عن ارتباط الله بصفاته، وكيف أنه كتب على نفسه الرحمة والعدل، بما يجعله قائماً بتقديسهما في جميع أفعاله، وإذاً فما كان في الإمكان أن يعطي الله تعالى المسيح حق الشفاعة، ويخصه بها دون سواه، مع أنها من حقوقه وحده كما سبق بيان ذلك لو لم يكن المسيح موفياً بذبيحته مطلبي العدل والرحمة، ولو لم يكن هناك سبيل إلى إتمام ذلك التوفيق بينهما إلا بتقديمه ذاته كفارة يستوفي فيها العدل مطاليبه وتتم بها رحمة الله لجميع أفراد البشرية, وعلى هذا فاعتراف الإسلام للمسيح بحق الشفاعة برهان على صدق عقيدة الكفارة كما تعلّمها المسيحية.
يضاف إلى هذا دليل ثالث جاء في سورة مريم 19: 21 عن المسيح وهو: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا فهذا بعينه هو ما تقول به المسيحية من أن المسيح بكفارته التي قدمها عنا أكمل بها رحمة الله للناس، إذ رفع عنهم حكم الدينونة ونجاهم من الهلاك الأبدي، ووهبهم نعمة الحياة.
وإذاً فالمسيح كان للناس فادياً، وكان هو الذبيح العظيم، والشفيع الكريم، والرحمة التي أسبغها الله على العالمين.
5 - الكفّارة
تعلم المسيحية أن المسيح قد مات وقُبر، ثم قام من بين الأموات، وصعد إلى السموات. وفيما يلي ما جاء في الإسلام مؤيداً لهذه العقيدة المسيحية:
إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الّذينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الّذينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الّذينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (سورة آل عمران 3: 55)
وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ (سورة المائدة 5: 117)
وَإِنَّ الّذينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ الّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رَفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ (سورة النساء 4: 157 ، 158)
ففي هذه الآيات نرى الإسلام يصرّح بأن المسيح قد توفي ثم رُفع إلى السموات حياً. وهذا هو بعينه ما تعلّم به المسيحية في هذا الشأن. ولقد حاول بعض المفسرين أن يقلبوا الحقيقة إلى مجاز بتحويلهم معنى الموت هنا إلى النوم. ولكن هذا رأي مردود، لأن الفعل توفي ومشتقاته ورد خمساً وعشرين مرة في القرآن، كان في كل مرة منها يدل على الموت وقبض الروح، إلا في موضعين اثنين منها دلت القرينة فيهما على استعمال هذا الفعل للنوم مجازاً، وهما قوله: وَهُوَ الّذي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ (سورة الأنعام 6: 60) وقوله: اللّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا (سورة الزمر 39: 42) .ففي هاتين الآيتين نرى المجاز واضحاً في استعمال الفعل يتوفى للنوم، إذ في الأولى يعني المعنى بقوله: يتوفاكم بالليل ، ويعنيه في الثانية بقوله: لم تمُت في منامها. وأما ما ورد عن المسيح فليس فيه ما يشير مطلقاً إلى استعمال المجاز فيهما. وقد أيّد القرآن هذه الحقيقة في مواضع أخرى، فقال في سورة مريم 19: 33 على لسان المسيح: وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ويَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً .ففي هذه الآية نرى ثلاث درجات أقرّ القرآن بأن المسيح سيجوزها كلها، وهي الميلاد والموت والبعث منه. ولقد أقرّ القرآن بحدوث الدرجة الأولى والثالثة، فذكر ميلاد المسيح العجيب وأطنب فيه، كما ذكر أن الله رفعه إلى السماء. فلا مفر إذاً من الاعتراف بحدوث الدرجة الثانية التي تتوسط الدرجتين الأولى والثالثة لفظاً ومعنى. ولنلاحظ أن هذه الدرجات جاءت في سورة مريم 19: 15عند الكلام عن يحيى بن زكريا فقال: وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً وثابت أن يوحنا المعمدان (أو يحيى) قد مات. وإذاً فاستعمال ذات التعبير، الذي تكلم عن ولادة يحيى وموته وقيامته، عند الكلام عن المسيح إقرار صريح بموته.
وجاء في سورة مريم 19: 31أيضاً قوله: وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً ففي هذه الآية نجد إقراراً آخر بموت المسيح، إذ لو كان المسيح قد ارتفع إلى السماء دون أن يموت، لوجبت عليه الزكاة تنفيذاً للوصية الإلهية. وكيف يزكي في السماء إن كان قد رُفع اليها قبل أن يجوز الموت؟ والمؤمنون هناك لا يحتاجون إلى الزكاة. فإما أن يكون المسيح قد رُفع إلى السماء قبل موته، وهو الآن حي فيها، ولا يستطيع الزكاة، فيمسي وقد خالف الوصية. وإما أنه حي على الأرض يزكي فينفذ وصية الله. وفي هذه الحالة لنا أن نسأل: أين يقيم الآن؟ ومن هم الذي يتناولون منه الزكاة؟
إنّ المسيحيّة والإسلام يتفقان في أنه رُفع إلى السماء، فلا مفر عن النظر في آية بحثنا من الحكم بموته حتى تنتفي عنه الزكاة، وحتى يستقيم معنى الآية.
ولقد صادق الكثير من أئمة المسلمين وأقطاب مفسريه وعلمائه على عقيدة موت المسيح، كما رُوي عن ابن عباس وعن محمد بن إسحق، وإنما اختلفوا في مدة موته. فقال وهب: تُوفي المسيح ثلاث ساعات ثم رُفع، وقال ابن إسحق: تُوفي سبع ساعات ثم أحياه الله ورفعه إليه. وقال الربيع بن أنس: إنّ الله تعالى توفاه حين رفعه إلى السماء.
أما النساء 4: 157، 158التي يبدو فيها معنى الإنكار لصلب المسيح وموته وهي: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الّذينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ الّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رَفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ فإننا لا نرى فيها ما يراه الآخرون من إنكار لحقيقة موت المسيح وصلبه، فهي إنما تُكذِّب اليهود في قولهم: إنّا قتلنا المسيح لأنهم لم يقتلوه ولم يصلبوه، فما كانوا يملكون ذلك أو يقدرون عليه، فلم يكن لهم السلطان والحكم أيام المسيح، وإنما كان الفاعل هو الوالي الروماني إذ كانت السلطة منزوعة من أيدي اليهود وقتئذ، وكان الرومان هم أصحاب الشأن في البلاد اليهودية. فلما نفذ جنود الرومان الحكم، شُبِّه لليهود أنهم قتلوا المسيح، لأنهم كانوا المشتكين عليه وطالبي صلبه، فلما أُجيبوا إلى ما طلبوا شُبّه لهم أنهم هم الفاعلون. ويقرّب هذا إلى الأذهان ما نراه في محيطنا الآن، إذ يذهب أحد الوجهاء إلى وزير ما ويطلب عملاً لقريبه، فإذا أجابه الوزير إلى ما طلب ادّعى هذا الوجيه بين قومه وذويه أنه (عيّن فلاناً ووظّف فلاناً). وكلنا يعلم أن هذا الوجيه لم يعيّن أحداً لأنه لا يملك حق التعيين، والوجيه قد طلب التعيين فقط، فلما تم خُيّل إليه أو شُبّه له أنه هو الفاعل. فالوجيه في هذا المثل كاليهود أيام المسيح، والوزير كالوالي الروماني. والمسيح كقريب الوجيه. فاليهود ما قتلوا المسيح وما صلبوه ولكن شُبِّه لهم.
وهناك تأويل آخر: إنّ اليهود حين صُلب المسيح ومات ظنوا أنهم بموته قد محوا ذكره، وقضوا على تعاليمه وجعلوه محتقراً بين الأمم. ولكنهم كانوا في ظنهم مخطئين، لأن الصليب صار واسطة لإذاعة اسمه وتعظيم شأنه، وحجر الزاوية في بناء الدين المسيحي، فشُبّه لليهود أنهم قتلوه، وما قتلوه وما صلبوه بل رفعه الله إليه، وجعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا به.
الخلاصة
نستخلص مما سبق أن الإسلام لا يحارب المسيحية في حقيقة الكفارة، كما أنه لا يحاربها في تعاليمها الأخرى التي سبق القول فيها وتقدمت الأدلة عليها. وإذاً فمن الخطأ البيّن أن يُعتبر الإسلام عدواً للمسيحية، أو أن المسيحية ترى فيه عدواً لها. فما كان الإسلام إلا مصدقاً لما نؤمن به من حقائق وعقائد، كما نعت القرآن نفسه بقوله: مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ (سورة المائدة 5: 48) ,
التعليقات
RSS تغذية للتعليقات على هذه المادة