الفصل الثالث:
الكتاب المقدس لم يُنسخ
النسخ لغة الإزالة والنقل، فيُقال: نسخت الشمس الظل أي أزالته. ونسخ الكتاب أي نقله عن كتاب آخر حرفاً بحرف. واصطلاحاً رفع الحكم بعد ثبوته. وقد قال المسلمون بجوازه، وأنكره اليهود، ولهذا فإننا نرى عامة المسلمين يقولون: انه على افتراض أن الكتاب المقدس لم يعتره تحريف، وأنه لا يزال صحيحاً حافظاً لقداسة وحيه، فإنه نُسخ بالقرآن.
وهذا ولا شك قول لا يسنده دليل ولا يقوم على إثباته برهان.
فالكلام في الأسفار الإلهية نوعان: إخباري وإنشائي. والإنشائي نوعان أيضاً: عقلي ووضعي. فالنسخ لا يصح وقوعه في الإخباري لأنه يستلزم تكذيب رواية مطابقة للواقع, ولا يمكن وقوعه في الإنشائي العقلي، لأنه يستدعي نقض المبادئ الطبيعية التي لا تقبل التغيير كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأما الإنشائي الوضعي فالنسخ جائز فيه لإمكان تغيير الفرض بتغيُّر أحوال الزمان والمكان والأشخاص، كالأمر بإقامة الشعائر الدينية في أماكن معيّنة، والنهي عن بعض الأطعمة في أزمنة معلومة. ومن هذا القبيل كان نسخ العهد القديم بالعهد الجديد، فإن هذا النسخ لم ينف أمراً واقعاً، ولا نقض مبدأ طبيعياً، كما قال المسيح: ما جئت لأنقض بل لأكمل .
والعمدة في النسخ عند المسلمين هو النقل الصحيح والتاريخ الصادق لا الرأي والاجتهاد. ولهذا فلسنا ندري على أي سند يستندون في دعواهم بنسخ الكتاب المقدس بالقرآن، مع أن القرآن والأحاديث خالية من الإشارة إلى هذا. صحيح أن القرآن قد ذكر نسخاً، ولكنه نسخ آياته بعضها البعض، لا نسخه هو للكتاب المقدس. فهم مثلاً يقولون إن آية إِنَّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (سورة المائدة 5: 69) .منسوخة بآية : وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (سورة آل عمران 3: 85) .ولو صحَّ أن المائدة 69 منسوخة بآل عمران 85 كما يقولون، فإننا ننزّه الله تعالى عما يترتب على نسخها، لأنه وهو الذي وسع علمه كل شيء المنزّه عن الخطأ المستلزم التصحيح بالتغيير والتبديل قد وعد من آمن به وباليوم الآخر وعمل صالحاً أن يجزيهم الجزاء الحسن، وأنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والله غير مخلف وعده ولو كره المبطلون, فالقول بنسخ هذه الآية لا يأنس إليه العقل، ولا يثبته المنطق لأنه لو ثبت نسخها فقد أخلف الله وعده بالأجر لِمن آمن به وعمل صالحاً، والله عزّ وجلّ منزّه عن الوقوع في مثل هذا العمل المشين.
كما يقولون إن آية : لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ (سورة البقرة 2: 256) منسوخة بقوله: قَاتِلُوا الّذينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ (سورة التوبة 9: 29) وآية : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ (سورة البقرة 2: 219) .منسوخة بقوله: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ (سورة المائدة 5: 90) وهكذا.
والنسخ عندهم أنواع ثلاثة:
(1) نوع ينسخ تلاوة وحكماً كقول عائشة: كان فيما نزل عشر رضعات معلومات فنُسخن بخمس رضعات معلومات ,
(2) نوع ينسخ تلاوة لا حكماً كآية: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله، والله عزيز حكيم ,
(3) نوع ينسخ حكماً لا تلاوة كآية: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتّقين فقد قيل إنها منسوخة بآية: يوصيكم الله في أولادكم وكآية: فأينما تولوا فثمّ وجه الله فقد قيل إنها منسوخة بآية: فولّ وجهك شطر المسجد الحرام .
ومن هذا يظهر أن النسخ في الإسلام خاص بآيات القرآن نفسه، ولا علاقة للنسخ بالكتاب المقدس. يثبت ذلك من:
(1) عدم ورود شيء عن ذلك في القرآن.
(2) عدم إشارة الأحاديث إليه.
(3) تصريح القرآن بوجوب اعتماد الكتاب المقدس.
(4) تعريف العلماء للنسخ.
أولاً: لم ترد في القرآن آيات عن نسخه للكتاب المقدس، وكل ما ورد فيه من آيات النسخ إنما قُصد به القرآن. ومن ذلك قوله: يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ (سورة الرعد 13: 39) .وقوله: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا (سورة البقرة 2: 106) وقد صرّح المفسّرون أن المقصود بهذا النسخ هو القرآن. قال الرازي ما ملخصه: نزلت هذه الآية رداً على طعن اليهود في الإسلام بقولهم: ألا ترون محمداً يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه؟ وفسّر البيضاوي هذه الآية أيضاً كتفسير الرازي، مما يدل على أن النسخ الذي ذكره القرآن لا علاقة له بالتوراة والإنجيل.
ومن آيات النسخ قوله: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (سورة النحل 16: 101). وفسّرها الرازي بقوله: قال ابن عباس: كانت إذا نزلت آية فيها شدة ثم نزلت آية أكثر ليناً منها، قال كفار قريش: والله ما محمد إلا يسخر بأصحابه! اليوم يأمر وغداً ينهى، وإنه لا يقول هذه الأشياء إلا من عند نفسه. فأنزل الله هذه الآية. ويفسرها الجلالان بقولهما: قال الكفار لمحمد: إنما أنت مفتر كذاب تقول من عندك بل أكثرهم لا يعلمون حقيقة القرآن وفائدة النسخ .
فالنسخ في القرآن لا علاقة له بالتوراة والإنجيل، وقد صرح بذلك أكبر علماء الإسلام، كالإمام جلال الدين السيوطي الذي قال: إن النسخ مما خصّ الله به هذه الأمة يعني الأمة الإسلامية.
ثانياً: لم يرد في الأحاديث شيء عن نسخ التوراة والإنجيل لا بالقرآن ولا بغيره, وقد قال الإمام جلال الدين السيوطي في تفسيره: لا يعتمد في النسخ قول عوام المفسرين، بل ولا اجتهاد المجتهدين من غير نقل صحيح... لأن النسخ يتضمن رفع حكم وإثبات حكم... والمعتمد فيه النقل والتاريخ دون الرأي والاجتهاد .
وبما أن القرآن والأحاديث الصحيحة، وأقوال الصحابة لم يأتِ فيها نصّ صريح ولا ضمني عن نسخ الكتاب المقدس بالقرآن، فقد أصبح القول بذلك دعوى باطلة وافتراء على كتاب الله تعالى.
ثالثا: صرّح القرآن في كثير من آياته بوجوب اعتماد الكتاب المقدس وقال: إنه إنما جاء مصدقاً لما فيه ومهيمناً عليه. (راجع الباب الثاني، الفصل الثاني كتاب غير محرّف). وفي كل هذا شهادة بعدم نسخه.
رابعاً: قال علماء المسلمين إن 225 آية قد نُسخت من القرآن. وقد عرّف علماء الإسلام النسخ بما يبطل الزعم بأن القرآن ناسخ للتوراة والإنجيل، فقد قالوا بما يشبه الإجماع إن النسخ لا يقع إلا على مواضع معيّنة. فقد ذكر الإمام جلال الدين السيوطي في كتاب الإتقان: إن النسخ لا يقع إلا في الأمر والنهي ولو بلفظ الخبر. أمّا الخبر الذي ليس بمعنى الطلب فلا يدخله النسخ، ومنه الوعد والوعيد. وإذا عرفت هذا عرفت فساد صنع من أدخل في النسخ كثيراً من آيات الأخبار والوعد والوعيد .
الخلاصة
نستخلص مما سبق أن القرآن يشهد أنه لم ينسخ الكتاب المقدس. وأن الكتاب لا يزال حافظاً لقداسة وحيه، وأن الآيات الناسخة والمنسوخة في القرآن لا علاقة لها به، وأن القرآن جاء مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه حاثاً على قبوله وتصديقه والإيمان بتعاليم الله فيه، مما يبطل دعوى النسخ.
التعليقات
RSS تغذية للتعليقات على هذه المادة