ليس الهدف من هذه الدراسة إضرام نار الشحناء بين المسيحيين والمسلمين في عالم موبوء بالبغضاء، والتفرقة، والتَّعصُّب، والعنصرية. إنما أردنا أن نعالج قضية هي في صُلب الخلاف بين المسيحية والإسلام على ضوء المعطيات التاريخيَّة، والدينية والمنطقية بأسلوب يتسم بالجديَّة والموضوعيَّة. ودأبنا في هذا كله خدمة الحقيقة من خلال مخاطبة العقل من ناحية، وتوثيق أواصر اليقين في قلوب المؤمنين من ناحية أخرى. فالصليب في المسيحيَّة هو قضية القضايا، وعلى الإيمان بفداء المسيح المصلوب يتوقف مصير الإنسان في أبديَّته المقبلة.
هل صُلب المسيح حقاً؟
بقلم فارس القيرواني
المقدمة
ليس الهدف من هذه الدراسة إضرام نار الشحناء بين المسيحيين والمسلمين في عالم موبوء بالبغضاء، والتفرقة، والتَّعصُّب، والعنصرية. إنما أردنا أن نعالج قضية هي في صُلب الخلاف بين المسيحية والإسلام على ضوء المعطيات التاريخيَّة، والدينية والمنطقية بأسلوب يتسم بالجديَّة والموضوعيَّة. ودأبنا في هذا كله خدمة الحقيقة من خلال مخاطبة العقل من ناحية، وتوثيق أواصر اليقين في قلوب المؤمنين من ناحية أخرى. فالصليب في المسيحيَّة هو قضية القضايا، وعلى الإيمان بفداء المسيح المصلوب يتوقف مصير الإنسان في أبديَّته المقبلة.
هذا ما تنادي به المسيحيَّة. وهذا ما يؤمن به المسيحيون.
أما الإسلام فإنه يتّخذ موقف الرفض المطلق من الصليب، ولا يرى فيه حاجة إلى خلاص الإنسان، اعتماداً على أن التوبة إن اقترنت برحمة الله تضحى كافية لتؤهل التائب، إن كانت تلك هي مشيئة الله، للدخول إلى جنّاته تعالى يتمتّع بما جاء به الوعد في القرآن.
والفارق في هذين الموقفين هو كالفارق بين الشرق والغرب.
إن المسيحي المؤمن يرى في الصليب وموت المسيح الكفاري الضمان الأكيد للحظوة بالحياة الأبدية. ذلك أن الله قد جسّد محبته ورحمته وعدالته على الصليب. فاليقين هنا مصدره وعد الله إذ قال المسيح:"فكل من يؤمن بي فله حياة أبدية" من غير استثناء. أي إن المؤمن المسيحي الأصيل يدرك يقيناً أنه إذا مات فله حياة أبدية. ولا مجال في هذا اليقين إلى عبارات: "إن شاء الله" أو "إن ذلك يتوقف على رحمته تعالى". ولا يعني هذا أن في وسع المرء أن يرتكب المعاصي، ويجنح للشر، ثم يقول: "لقد ضمنت الحياة الأبدية لأن المسيح قد مات من أجلي ودفع ثمن ما تقدم وما تأخر من ذنبي". إن في هذا القول لبهتاناً عظيماً، إذ على كل من ابتغى الحياة الأبدية أن يعيش على مستوى مطالب المسيح من القداسة ليكون إيمانه بفداء المسيح إيماناً عملياً.
أما الخلاص في الإسلام فهو سعي متواصل لعل المؤمن يحظى فيه برضى ربه، فينعم بجنة الفردوس. هذا السعي يتطلب جهداً قلّما يحالف فيه التوفيق صاحبه. إن العمل في الإسلام ضروري للحصول على الثواب. بينما العمل في المسيحيّة هو من ثمار الإيمان وليس للحصول على الثَواب. فالحياة الأبدية في المسيحيّة قد تأمنت بفضل عملية الفداء المطلقة التي تشمل كل من يؤمن بالمسيح رباً وفادياً ومخلّصاً. هذا هو الشرط. وهو شرط لا مناص منه. ومتى تحقق شرط الإيمان الصادق المخلص يتولد الإثمار الطبيعي. فالزهرة من طبيعتها أن تملأ الفضاء بعبيرها العبق، وكذلك من شأن طبيعة المؤمن المسيحي الحقيقي أن ينتج ثمراً صالحاً حقيقيّاً ليس من أجل ثواب أو مكافأة، أي ليس من أجل الحصول على الحياة الأبدية التي باتت مضمونة مع تحقيق شرط الإيمان، إنما هي تعبير طبيعي عن الحياة الجديدة التي أصبح عليها المؤمن المسيحي.
لهذا عمدنا في هذه الدراسة إلى الاستعانة بكل ما توافر لدينا من وثائق ومراجع معترف بها لإثبات حقيقة الصلب، وأنه حدث تاريخي وقع منذ ألفي عام تقريباً، وأن المصلوب كان حقاً هو المسيح وليس آخر، وأن أي ادّعاء يتعارض مع هذا الواقع هو ادّعاء باطل من أساسه يستنكره التاريخ ويتناقض مع الحقيقة.
ورجاؤنا إلى الله أن يتحرر إخواننا المسلمون من التعصُّب في أثناء مطالعة هذا الكتيّب، وأن يضعوا ما ورد فيه على محك الحقيقة فلا تجرفهم العاطفة إلى إساءة الظنّ في مقولاته، كما أننا لا ندعوهم لموافقتنا إنما نأمل أن تولّد هذه الدراسة شيئاً من التوثيق للبحث عن الحقيقة، حتى لو كانت هذه الحقيقة تخالف ما نشأنا عليه من تربية دينيّة. فلو لم يبذل مؤسّس الإسلام كل جهد في البحث عن الله لبقي كل حياته مشركاً كبقية قومه وقبيلته. وهذا درس علينا أن نتلقّنه جميعاً إن كنا حقاً مخلصين في طلب الحق الإلهي.
والله من وراء القصد.