الفصل الثالث : صلب المسيح وموته في الإسلام
كنا قد عالجنا في الفصل الأول موضوعي الشبيه والكفَّارة في الإسلام. ولكي تستوفي هذه الدراسة حقها من البحث لا بد أن نعرض لبعض الآيات القرآنية التي عمد المسلمون إلى تشويه معانيها تهرباً من الاعتراف بصلب المسيح وموته وقيامته.
لا ينفي القرآن أن بعض الأنبياء قد يكونون عرضة للقتل أحياناً. وقد أشار إلى ذلك في مواضع مختلفة من السُّور نذكر منها الآيات التالية:
* "أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ" (سورة البقرة 2: 87).
* "وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ" (سورة آل عمران 3: 181).
* "الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" (سورة آل عمران 3: 183).
* "فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ" (سورة النساء 4: 155).
وبناء عليه فإن القتل لا يمتنع عن الأنبياء إن كانت تلك هي مشيئة الله. ومن حيث أن الإنجيل المقدس يصرح أن المسيح قد جاء باختياره الشخصي ليفتدي البشرية، وإطاعة لرغبة الآب السماوي فلماذا لا تنطبق هذه القاعدة عينها عليه؟
ولكن القرآن يضيف إشارات أخرى تلمح إلى موت المسيح، وحتى إلى صلبه. أما هذه الآيات فهي:
* "إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ" (سورة آل عمران 3: 55).
* "وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ" (سورة المائدة 5: 117).
وقال عيسى في معرض كلامه عن نفسه:
* "وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ويَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً" (سورة مريم 19: 33).
وهي نفس العبارة التي رددها عن يحيى (يوحنا المعمدان):
* "وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً" (سورة مريم 19: 15).
وهناك آيتان أخريان تسعفان على إيضاح ما غمض من الآيات السابقة وهما:
* "مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ..." (سورة المائدة 5: 75).
* "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ..." (سورة آل عمران 3: 144).
لقد تناول مفسرو القرآن هذه الآيات وأوَّلوها تأويلاً إقحاميّاً يبعث على التّساؤل لما في هذا التّأويل من تشويه للحقيقة، ومخالفة واضحة لاعتبارات اللغة العربية كما فهمها القدامى. وأود هنا أن أعرض لهذه الآيات وأعالج لفظة "الوفاة" كما وردت فيها.
(أ) رأي مفسري المسلمين
انقسم علماء المسلمين في تفسير لفظة "متوفيك" إلى فريقين. واستطاع الرازي أن يجمع مختلف الآراء في سياق تأويله لآية : "إني متوفيك...". والواقع أن الرازي امتنع أن يقدم رأياً شخصياً في الموضوع، ونزع إلى استعراض تعليلات الآخرين من غير أن يلتزم بموقف ما. وفي رأيي أن الموقف الذي اتخذه الرازي، على ما فيه من تهرُّب، كان أسلم له في مجتمع لا يجيز لأحد كبار علمائه أن يخرج على إجماع المسلمين في قضية خطيرة مثل هذه. من هنا عمد، كما يبدو إلى الجمع تاركاً للقارئ المسلم حرية اختيار الرأي الذي ينسجم مع خلفيته الدينية.
أما الآراء أو الوجوه التي عرضها الرازي في تأويل لفظة متوفيك فهي:
(1) متمم عمرك: أي أتوفاك فلا أترك أعداءك اليهود يقتلونك.
(2) مميتك: وهو قول مروي عن ابن العباس ترجمان القرآن ومحمد بن اسحق، وقالوا: والمقصود أن لا يصل أعداؤه اليهود إلى قتله. ثم إنه بعد ذلك أكرمه بأن رفعه إلى السماء، ثم اختلفوا على ثلاثة أوجه (أحدها) قال وهب: توفي ثلاث ساعات ثم رفع. و(ثانيها) قال محمد بن اسحق تُوفي سبع ساعات ثم أحياه الله ورفعه. و(ثالثها) قال الربيع بن أنس إنه تعالى توفاه حين رفعه إلى السماء، قال الله: "اللهُ يَتَوفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا والّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا".
(3) الواو تفيد الترتيب: من حيث أن عيسى هو حي فمعنى ذلك أنه رفعه أولاً، ثم سينزل ويقتل الدجال وبعد ذلك يتوفاه الله.
(4) التأويل المجازي: وهو ما نادى به أبو بكر الواسطي (إني متوفيك) عن شهواتك وحظوظ نفسك. ثم قال (ورافعك إليّ) لأنه لم يصر فانياً عما سوى الله لا يكون له الوصول إلى مقام معرفة الله. وأيضاً فعيسى لما رُفع إلى السماء صار حاله كحال الملائكة في زوال الشهوة، والغضب والأخلاق الذميمة.
من الجلي أن هذا التأويل الصوفي مخالف لمبدأ عصمة الأنبياء وسمو أخلاقهم. نرى هنا أيضاً تأثير الأبيونية التي ادّعت أن المسيح في صعوده قد صار رئيس الملائكة.
(5) الرفع الكامل: أي رفع عيسى ابن مريم بتمامه بروحه وجسده وليس بروحه فقط كما قد يظن البعض. و يدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى: "وَمُا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ" (سورة النساء 4: 113).
(6) أجعلك كالمتوفَّى: فرفع عيسى إلى السماء، وزوال كل أثر مادي له في الأرض، وانقطاع أخباره كان كمن توفّى. "وإطلاق اسم شيء على ما يشابهه في أكثر خواصه وصفاته جائز حسن".
(7) القبض: ومعناه الإيفاء أو الاستيفاء، كاستيفاء المرء ما له من مال "وعلى كلا الاحتمالين كان إخراجه من الأرض وإصعاده إلى السماء توفياً له".
(8) استيفاء العمل: أي أن الله قد "بشره بقبول طاعته وأعماله وعرفه ما يصل إليه من المتاعب والمشاق، في تمشية دينه وإظهار شريعته من الأعداء وهو لا يضيع أجره ولا يهدم ثوابه".
(9) ويضيف الرازي: فهذه جملة الوجوه المذكورة على قول من يجري الآية على ظاهرها.
ويعلق الرازي على الذين يقولون أنه "لا بد في الآية من تقديم وتأخير من غير أن يحتاج فيها إلى تقديم أو تأخير، وقالوا إن قوله (ورافعك إليّ) يقتضي أنه رفعه حياً، والواو لا تقتضي الترتيب، فلم يبق إلا أن يقول فيها تقديم وتأخير. والمعنى إني رافعك ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالي إياك إلى الدنيا، ومثله من التقديم والتأخير كثير في القرآن" بقوله:
* واعلم أن الوجوه الكثيرة التي قدمناها تغني عن التزام مخالفة الظاهر، والله أعلم[1] .
أما الآيتان الواردتان في سورة مريم في السلام على يحيى وعلى عيسى في مولدهما وموتهما ومبعثهما، فقد مر بهما المفسرون مرور الكرام، ولا سيما لفظة "أموت" وإن كان الشائع بينهم أنها تشير إلى موت عيسى بعد رجوعه في آخر الزمان للقضاء على الأعور الدجال.
ولم يخرج موقف الطبري، وابن كثير، والزمخشري، والبيضاوي، والجلالين عما قاله الرازي، بل كانوا جميعاً عالة بعضهم على بعض، يعتمد الآخرون ما ادعاه الأولون إلا فيما ندر من آراء وتأويلات جديدة[2] .
ماذا نستخلص من عرض الرازي لآراء المفسرين لكلمة متوفيك؟
أولاً: من الواضح أن الرازي كان جمَّاعاً للآراء ولم يكن متفاعلاً معها. ويخالج القارئ إحساس عميق بأن هذا العالم لم يكن مقتنعاً بتأويلات المفسرين، كما كان يتعذر عليه أن يأتي بتأويل جديد مخالف للإجماع العام.
ثانياً: إن آراء المفسرين وتأويلاتهم المتعارضة تثير الارتباك والحيرة في نفوس الساعين وراء الحقيقة، إذ يعسر عليهم أن يستقروا على رأي أو عقيدة. فهؤلاء المفسرون والرواة يحتلون مكانة مرموقة في تاريخ الإسلام ويأخذ عنهم الباحثون والدارسون. لهذا، يجد المسلم الموضوعي نفسه في حيرة أمام هذه التأويلات المتناقضة التي تزيده ارتباكاً وتشل مداركه. وقد يتساءل: ما هو التأويل الصحيح؟ لماذا اختلف المسلمون في تفسير هذه اللفظة؟ أيُّ شرح يمكننا أن نعتمده في فهم هذه الآية؟ إن من مظاهر هذا الضياع ما نراه من ترديد لعبارة "والله أعلم" التي ختم بها الرازي عرضه لآراء المفسرين. وهي إن دلت على شيء إنما تدل على عدم الشعور باليقين.
ثالثاً: إن سبب الإشكال الرئيسي في تأويل لفظة "متوفيك" في الآيات المتعلقة بموت المسيح يُعزى في أساسه إلى موقف العلماء المسلمين المكابر وتهرُّبهم من تفسير هذه اللفظة بما تحمله من معنى حقيقي وهو الموت. إذ أن إجماع أكثرية المسلمين على هذا المعنى يقتضي منهم أن يتفحصوا بجدية، وعلى ضوء جديد، قضية الصليب وهو أمر يرفضه المسلمون كل الرفض.
(ب) التأويل الطبيعي
لكي نتخلّص من كل الإشكالات التي لا داعي لها، والتي خلقها العلماء المسلمون لدى تأويلهم لفظة متوفِّيك، من غير أننلجأ لأساليب السفسطة التي لا طائل منها. علينا أن ندرس معاني هذه اللفظة كما جاءت في القرآن.
لقد وردت لفظة "متوفيك" ومشتقاتها خمساً وعشرين مرة في القرآن وكلها بمعنى الموت وقبض الروح، باستثناء موضعين فقط حيث دلت القرينة فيهما أن الوفاة هنا تحمل مجازاً معنى النوم. وهذان الموضعان هما أولاً: "وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ" (سورة الأنعام 6: 60). وثانياً: "اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا" (سورة الزمر 39: 42). (راجع الآيات التالية: البقرة 2: 234 و240، آل عمران 3: 55، النساء 4: 50، المائدة 5: 117، الأنعام 6: 61، الأعراف 7: 37 و125، الأنفال 8: 50، يونس 10: 46 و104، يوسف 12: 101، الرعد 13: 40، النحل 16: 28 و32 و70، الحج 22: 5، السجدة 32: 11، غافر 40: 67 و77، محمد 47: 27). ولكن عندما نتأمل في الآيتين المتعلّقتين بموت المسيح لا نجد أية قرينة يمكن أن تنمَّ عن أي معنى مجازي في لفظة متوفيك. هي لفظة صريحة تحمل في ذاتها معنى الموت، بغض النظر إن كان هذا الموت صلباً أو موتاً طبيعياً. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يمكننا أن نستقرئ من دراستنا لآية: "فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ" (سورة المائدة 5: 117) أن الرقابة على أتباع المسيح قد أصبحت في عهدة الله. وهذا إن دلَّ على شيء إنمايدل على أن المسيح قد مات ولم يعد له من سلطان على أتباعه طبقاً للنص القرآني. فمن وجهة نظر إسلامية إن كان المسيح لم يمت حقاً بل رُفع فإنه بحكم بقائه حياً ورفعه روحاً وجسداً، يظل قادراً على الرقابة والشهادة عليهم أو لهم. ولكن طبقاً للآية المذكورة أعلاه فإن المسيح قال: "وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ" (سورة المائدة 5: 117) يشير بطريقة غير مباشرة إلى موته، وكأنما يقول: "أما الآن بعد أن أمتَّني أو توفّيتني لم يعد لي عليهم رقابة، وكل شيء منوط بك لأنك أنت وحدك الحي القيوم". ويمكن تطبيق القاعدة عينها على قوله: "وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً" (سورة مريم 19: 31)، فمن حيث أن المسيح ما برح حياً بلحمه ودمه في السماء إذ رُفع كما هو، فهل ما زال يزكّي هناك، كفرض عليه، لأنه مأمور أن يفعل ذلك ما دام حياً؟[3]
وقد جاء الحديث الصحيح يشهد في أكثر من مكان واحد لهذه الحقيقة، فنقرأ في صحيح البخاري ج 1، رقم 3263 ما نصه:
"حدّثنا محمد بن سيرين... عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: تحشرون حفاة، عراة، غرلاً، ثم قرأ: "كما بدأنا أول خلق نُعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين". فأول ما يكسى إبراهيم، ثم يؤخذ برجال من أصحابي ذات اليمين وذات الشمال. فأقول: أصحابي. فيقال: إنهم ما زالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم. فأقول كما قال العبد الصالح عيسى ابن مريم: "وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ"[4] .
لقد اقتبس محمد نفس العبارة القرآنية التي ترددت على لسان المسيح في سورة المائدة 5: 117، ونحن نعلم أن محمداً قد مات ولم يدَّع أحد من المسلمين أنه قد رُفع. لهذا فحين استخدم محمد الآية القرآنية أعلاه فإنه أشار بلفظة "توفيتني" إلى موته وليس إلى رفعه، ولا يجوز في هذه الحال أيضاً أن نتلاعب في تفسير هذه المصطلحات على حساب الحقيقة ولا سيما حين ينتفي وجود القرينة. فهذه اللفظة إذاً بمعناها الطبيعي أي الموت تنطبق على عيسى كما تنطبق على محمد. أما الفارق بين الاثنين في حدود حادثة الموت أن المسيح قام من بين الأموات في اليوم الثالث، وسيأتي ثانية لا ليموت - لأنه قد مات وقام - بل ليدين الأحياء والأموات حسب ما جاء في الإنجيل المقدس المعصوم، بينما محمد قد مات ولن يقوم إلا في يوم الدين.
بالإضافة إلى النصوص القرآنية التي وردت فيها لفظة الوفاة بمعناها العام المتداول بين العرب القدامى، فإننا نرى أن الأحاديث النبوية المتفق عليها تستخدم نفس هذا الاصطلاح بمعنى الموت. فقد جاء عن أنس أنه قال:
"قال رسول الله... لا يتمنّين أحدكم الموت لضرٍّ أصابه، فإن كان لا بدّ فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفَّني إذا كانت الوفاة خيراً لي"[5] .
وكذلك ورد في حديث آخر:
"عن ابن عباس... أن علي بن أبي طالب... خرج من عند رسول الله... في وجعه الأخير الذي توفي فيه..."[6] .
ونعثر في القرآن على ثلاث آيات يخاطب فيها الله محمداً بقوله لنتوفينَّك بمعنى لنميتنَّك. وقد وردت هذه اللفظة في سورة يونس 10: 46، وسورة الرعد 13: 40، وسورة غافر 40: 77. وبمقارنة هذه اللفظة مع متوفيك وتوفيتني في النصين المتعلقين بموت المسيح لا نجد بينهما أي فارق لغوي أو معنوي. ولدى مراجعة بعض كتب التفاسير الإسلامية المرموقة في معنى لنتوفينَّك لم أجد مفسراً واحداً يتوقف عندها ليدقق في مضمونها، لأن هؤلاء المفسرين قد اعتمدوا المعنى الطبيعي لهذه اللفظة وهو الموت. لهذا لم يجهدوا أنفسهم في تفسيرها كما جهدوا في تفسير النصين المختلف عليهما بشأن موت المسيح، لأن تفسير الآيات المختصة بموت محمد لا تشكل لهم حرجاً، بينما الإقرار بموت المسيح يخلق لهم مشكلات لا حصر لها، أهمها تعليل كيفية موته. وفي هذه الحالة لن يتوافر لهم أي مصدر يرجعون إليه سوى الإنجيل والوثائق التاريخية يستفتونها، وهي جميعها تؤيد بشواهدها المختلفة موت المسيح صلباً. فإن أخذوا بهذه الشواهد فإنهم ينقضون في لحظات كل ما اعتمدوه من منطق في الدفاع عن الإسلام ومهاجمة المسيحية. وهذا أمر لا يجرؤ مسلم على الإقدام عليه.
إن مثل هذه المواقف في تفسير الآيات القرآنية تُفقد الباحث الثقة في شروحات العلماء لما فيها من تناقض وسفسطة كلامية وبلبلة فكرية.
إذا فالمعنى المألوف لاصطلاح الوفاة في أغلبية النصوص القرآنية والأحاديث، إلا ما اقتضت به القرينة، هو الموت. ولا جدوى من السفسطة الكلامية التي من شأنها أن تولد بلبلة في عقول الناس وتنأى بهم عن الحقيقة. والواقع لو كان المقصود من لفظة "متوفيك" هو إنهاء مدة إقامة المسيح على الأرض برفعه لما كان هناك حاجة إلى القول "إني متوفيك" إذ يمكن أن ترد العبارة، بكل بساطة "إني رافعك إليّ" من غير متوفيك.
ولكن قد يتساءل البعض ويقول:كيف يمكن أن توفق بين ما ذكرته آنفاً وبين الآية الواردة في سورة النساء 4: 157:
* "وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَاً".
لكي نجيب عن هذا السؤال لا بد أن نلقي بعض الأضواء على طائفة من الحقائق التي من شأنها أن تبدد بعض ما يكتنف هذه الآية من غموض ما برح مفسرو المسلمين يتخبطون في متاهاته. وأهم هذه الحقائق هي:
إن الآية تقول: "َمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ..." وكل ذلك لا ينفي إطلاقاً موته ولو موتاً طبيعياً. قد تنفي موته قتلاً أو صلباً إن أخذناها على ظاهر النص. ولكنها لا تستبعد الموت الطبيعي. وأرى أن هذا الاعتبار يتفق تمام الاتفاق مع ما ألمحنا إليه سابقاً بما يختص بلفظة متوفيك، ولا سيما إذا تحررنا من سفسطات المفسرين الذين رأوا في وقوع الموت على عيسى تهديداً لكل ما أشاعوه من تفسيرات تهرباً من تاريخية موت المسيح. فموت المسيح معناه تفنيد الادعاء بموت مستقبلي عند رجوعه في آخر الزمان وبالتالي تثبت الآيات القرآنية صحة دعوى المسيحيين عن موت المسيح ، وهذا أمر يأباه المسلمون. ثم إن كان المسيح قد مات حقاً فلا يجوز حكماً أن يموت ثانية، لأن موت المسيح كان من أجل فداء الإنسان، وقد دفع الثمن غالياً مرة وإلى الأبد. وفي هذه الحالة لم يكن موت المسيح كموت أي إنسان عادي لارتباطه الوثيق بخلاص الجنس البشري وفقاً للخطة الإلهية المباركة.
ورد في رسائل إخوان الصفاء - وهي حركة دينية سياسية علمية ظهرت في العصر العباسي - ما نصه:
ولما أراد الله تعالى أن يتوفاه (المسيح) ويرفعه إليه، اجتمع معه حواريوه في بيت المقدس، في غرفة واحدة مع أصحابه وقال: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم. وأنا أوصيكم بوصية قبل مفارقة لاهوتي. وآخذ عليكم عهداً وميثاقاً. فمن قبل وصيتي وأوفى بعهدي كان معي غداً ومن لم يقبل وصيتي فلست منه في شيء ولا هو مني في شيء.
... وخرج من الغد وظهر للناس، وجعل يدعوهم ويذكرهم ويعظهم، حتى أُخذ وحمل إلى ملك بني إسرائيل، فأمر بصلبه. فصُلب ناسوته، وسُمِّرت يداه على خشبتي الصليب، وبقي مصلوباً من صحوة النهار إلى العصر. وطلب الماء فسقي الخل، وطُعن بالحربة، ثم دُفن مكان الخشبة. ووُكِّل بالقبر أربعون نفراً. وهذا كله بحضرة أصحابه وحوارييه[7] .
هذا الشاهد وإن ورد في وثيقة متأخرة قليلاً عن عصر محمد فإنه ينطوي على حقيقة هامة، وهي أن بعضاً من المفكرين المسلمين في ذلك العهد قد فهموا النصوص القرآنية فهماً مخالفاً للتأويلات الإسلامية التقليدية، واستطاعوا بتجرد موضوعي أن يتحرروا من طغيان المفسرين المشوّه.
ونجد في عبارة "وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَاً" المبتورة تأكيداً غير مباشر على موت المسيح قتلاً أو صلباً، لأنها تتبع حكماً ما سبق من قوله: "وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ". فما هو مصدر هذا اليقين؟ لقد أثبتنا بالأدلة المفحمة أن المسيح قد مات مصلوباً، ولكن عملية الصلب هذه كانت المرحلة الأولى في درب الفداء. أما المرحلة الثانية فقد تكللت بالقيامة، أي إن مصدر اليقين هو القيامة التي أحبطت مؤامرات أعداء المسيح، فكان المسيح في قيامته وكأنه لم يُصلب أو يُقتل لأنه خرج من المعركة حياً ظافراً.
أما النفي هنا فليس نفياً للقتل أو الصلب، إنما هو نفي تحقيق هدف أعداء المسيح من صلبه. لقد ظنوا أنهم قد تخلصوا منه إلى الأبد، وإذا بالمسيحية تزدهر وتنمو حتى في الحقبةالتي عاش فيها أبطال المؤامرة. إن سهمهم قد ارتد عليهم فأصاب منهم مقتلاً.
أما عبارة "شُبّهَ لَهُم" فلها، في نظري دلالات خطيرة تقتضي أن نتوقف عندها ونتأملها بموضوعية إذا أردنا حقاً أن ندرك مراميها في إطار عصرها الفكري والديني. ويدعونا المنطق السليم أن نعالج هذه القضية على مستويين هما: المستوى القرآني والمستوى التفسيري.
عندما وردت هذه الآية كان الغرض منها،كما يبدو، الكشف عن مؤامرة اليهود وإظهار عجزهم أمام الإرادة الإلهية التي شاءت غير ما شاءوا. ودليلنا على ذلك نص قرآني آخر في سورة آل عمران 3: 54 جاء فيه "وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ" في سياق الحديث عن اليهود ومواقفهم من المسيح. وقد وقعت هذه الآية مباشرة قبل قوله: "إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ..." (سورة آل عمران 3: 55) فجاءت "إذ" هنا أداة صلة بين آيتين تنطويان على صراع غير متكافئ بين إرادة الله وإرادة أعداء المسيح، أي أعداء الله. يقول الأستاذ حداد في كتابه القيّم "القرآن والمسيحية":
فصراحة النص وقرائنه تجعله شهادة رسمية لسلطة مسيحية بأن اليهود مكروا بالمسيح فقتلوه وصلبوه فكان مكر الله بهم خيراً من مكرهم، إذ بعث عيسى حياً بعد قتله وصلبه (ص 45).
لقد مكر اليهود وخططوا لإهلاك المسيح، ونجحت خطتهم إلى حين. ولكن مكر الله كان خيراً من مكرهم إذ قام المسيح حياً في اليوم الثالث، ثم بعد أربعين يوماً ارتفع إلى السماء. إذاً لم يكن مكر الله باليهود برفعه وإنقاذه من أيديهم، لأن مثل هذا التأويل يتناقض مع الحقائق التاريخية المختلفة والحجج المنطقية والبينات القرآنية التي استقينا منها أدلتنا، إنما كان ببعثه حياً. هكذا مكر الله بهم وأحبط خطتهم بعد أن ظنوا - وهذا هو المعنى الحقيقي لشُبِّه لهم - أنهم بقتل المسيح وصلبه قد تخلصوا منه نهائياً. لم تكن قيامة المسيح انتصاراً على خطة اليهود فقط بل كانت انتصاراً على الموت أيضاً.
ويشير أبو موسى الحريري في كتابه "قس ونبي" إلى عقائد بعض الفرق الأبيونية الهرطوقية التي ادعت:
أن المسيح يتحول برضاه من صورة إلى صورة، فقد ألقى في صلبه شبهه على سمعان، وصُلب سمعان بدلاً عنه، فيما هو ارتفع إلىالسماء حياً إلى الذي أرسله، ماكراً بجميع الذين مكروا للقبض عليه. لأنه كان غير منظور للجميع (ص 129).
وهكذا يتبين لنا أن قيامة المسيح من بين الأموات في اليوم الثالث حسب ما أشار هو به عن نفسه ووفقاً لما جاء في النبوّات كانت الإحباط الحقيقي لمؤامرات اليهود وخططهم.
غير أن عبارة "شُبِّه لهم" بمعنى ظنّوا أو خيِّل إليهم، تحولت عند المفسرين المسلمين إلى "شُبِّه له" وركزوا أشد التركيز على شخصية الشبيه. وهنا الفارق الكبير بين النص القرآني وتأويلات المفسرين. ولم يجد المفسرون المسلمون مصدراً يستلهمون منه تأويلاتهم التي تتفق مع عقيدتهم بشأن المسيح وصلبه إلا ما وصل إليهم من مفاهيم هراطقة الدوكيتيين والأبيونيين والغنوسيين كما رواها لهم أصحابها ممن أسلموا أو مما سمعوه من مفكريهم مباشرة، لأنه لم يكن لديهم أي شاهد تاريخي أو أثري أو ديني سواهم يعتمدون عليه في تأويل هذه الآيات. ولسنا ندَّعي هذا اعتباطاً فلدينا من المصادر الإسلامية ما يغنينا عن أي استقراء.
ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك ما رواه وهب بن منبه (646-733 م) الذي اشتهر بمعرفته أخبار أهل الكتاب وعدُّ من التابعين. ولكن يبدو أن معارفه لم تتعدَّ أخبار مؤلفات الفرق الهرطوقية المسيحية، والكتب الأبوكريفية والتلمود، وأن معارفه في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد كانت معرفة سطحية. فقد اعتمد في رواياته على أخبار هذه الفرق التي هي مزيج من النص الكتابي وتأويلات مفسريهم الغنوسيين والدوكيتيين والأبيونيين. هذا الراوية أخذ عنه مؤرخو العرب كثيراً "من أحاديث الأنبياء والعباد وأحاديث بني إسرائيل". ومن جملة ما نقل عنه الثعلبي قصة الظلمة التي أحاقت بالأرض عند صلب المسيح قال وهب:
فأخذوه واستوثقوا منه، وربطوه بالحبل، وجعلوا يقودونه ويقولون: أنت كنت تحيي الموتى، وتبرئ الأكمه والأبرص أفلا تفك نفسك من هذا الحبل؟ ويبصقون عليه، ويلقون الشوك عليه. ثم إنهم نصبوا له خشبة ليصلبوه عليها، فلما أتوا به إلى الخشبة أظلمت الأرض وأرسل الله الملائكة فحالوا بينهم وبين عيسى وألقي شبه عيسى على الذي دلهم عليه واسمه يهوذا فصلبوه مكانه وهم يظنون أنه عيسى، وتوفَّى الله عيسى ثلاث ساعات ثم رفعه إلى السماء، فذلك قوله تعالى: "إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا..." . فلما صُلب الذي هو شبه عيسى جاءت مريم أم عيسى وامرأة كان عيسى دعا لها وأبرأها من الجنون تبكيان عند المصلوب، فأتاهما عيسى وقال: على من تبكيان؟ فقالتا: عليك. فقال: إن الله تعالى رفعني فلم يصبني إلا خير وإن هذا الشخص شُبّه لهم8 .
وفي صفحة 360 نجد مقتطفات بتصرف من خطاب المسيح إلى حواريّيه في الليلة التي أسلم فيها.
وكان وهب هذا يقول: "لقد رأيت إثنين وتسعين كتاباً كلها من السماء: إثنان وسبعون منها في الكنائس وفي أيدي الناس، وعشرون لا يعلمها إلا القليل"9 . لا شك أن الإثنين وسبعين كتاباً التي أشار إليها وهب هي أسفار العهدين القديم والجديد الستة والستون كما نعرفها اليوم. بالإضافة إلى كتب الأبوكريفا التي اعتمدتها بعض الطوائف. أما العشرون كتاباً الآخرون فهي بلا ريب كتب غنوسية اقتصر شيوعها بين الفرق الغنوسية والأبيونية وأصحاب البدع. أما كونها كلها من السماء فهذا أمر فيه نظر لأن وهب كما يبدو، كان لا يميّز بين ما هو موحى به من الحق الإلهي والمؤلفات الهرطوقية.
وأورد الطبري في تفسيره على لسان وهب قصَّة مماثلة مع اختلاف يسير في النص إذ ادّعى أن عيسى بقي هناك سبع ساعات قبل مجيء أمه ورفيقتها.
ويقول ابن الأثير في تاريخه الكامل: ورفع الله المسيح إليه بعد أن توفاه ثلاث ساعات، وقيل سبع ساعات، ثم أحياه ورفعه ثم قال له: انزل إلى مريم، فإنه لم يبك عليك أحد بكاءها ولم يحزن أحد حزنها. نزل عليها بعد سبعة أيام، فاشتعل الجبل حين هبط نوراً، وهي عند المصلوب تبكي ومعها امرأة كان أبرأها من الجنون. فقال: ما شأنكما تبكيان؟ قالتا: عليك! قال: إن الله رفعني إليه ولم يصبني إلا خير، وإن هذا شبه لهم، وأمرها فجمعت له الحواريين فبعثهم في الأرض رسلاً عن الله وأمرهم أن يبلغوا عنه ما أمره الله به. ثم رفعه الله إليه وكساه الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب. وطار مع الملائكة فهو معهم فصار إنسياً ملكياً، سماوياً، أرضياً10 .
فعلى الرغم مما في هذه القصة من تخليط وتشويه، فإنها تكشف بصورة قاطعة عن مدى تأثر الرواة المسلمين بالمذهب الأبيوني، ولا سيما بما يتعلق بحالة المسيح بعد موته وطبيعته التي صار عليها بعد صعوده. والغريب في الأمر هو تقبل الرواة المسلمين وجود طبيعتين للمسيح. إنسية - ملكية أو سماوية - أرضية، ومع ذلك يستنكرون قول المسيحيين بلاهوت المسيح وناسوته.
ولكن مما يدعو حقاً إلى الدهشة أننا لا نعثر على أي حديث نبوي صحيح يؤكد فيه على موضوع الشبيه إيضاحاً لما جاء في النص القرآني، علماً أن مشكلة الصليب هي من أبرز نقاط الخلاف بين المسيحية والإسلام. فكل ما تواتر إلينا من أخبار هي من مزاعم المفسرين والرواة الذين أولعوا بالغريب والمثير التي لو أمكن تحري مصادرها كلها لوجدنا أصولها في أساطير الأولين، والمؤلفات التي كانت شائعة في العصر. ولعل خير ما جاء في هذا الصدد كتاب "مصادر الإسلام" لمؤلفه "سنكلير تسدل" الذي استطاع أن يتتبع معظم قصص المفسرين والرواة المتعلقة بالأخبار الكتابية إلى مظانّها الأولية. فلماذا أغفل الحديث النبوي تفسير هذه الآيات المبهمة؟ مع العلم أن كتب السير والأحاديث قد أوردت لنا مجموعة كبيرة من التفاسير والشروحات لآيات أكثر وضوحاً ألقاها محمد على أصحابه.