الفصل الثاني: الوثائق التاريخية
وهي تنقسم إلى أربعة أقسام:
(أ) الوثائق الوثنية:
تلعب الوثائق الوثنية دوراً بارزاً في قضية صلب المسيح لأن كُتَّابها أولاً لا ينتمون لأية طائفة مسيحية، وثانياً لأن هؤلاء الكتّاب كانوا يضمرون العداء للمسيحيّة أو المسيح، وكانوا أقرب إلى الهزء منه إلى المديح، ولا سيما في الحقبة الأولى من تاريخها. ويحق لنا هنا أن نتناول شهادات هؤلاء المؤرخين والكتّاب السياسيين بكثير من الجدية ونحلّلها على ضوء معطيات العصر والعوامل السياسية الفاعلة فيه.
إن الوثائق الوثنية التي بين أيدينا يرجع تاريخ معظمها إلى القرنين الأول والثاني الميلاديين، وهي تشهد لكثير من الوقائع التي جرت في حياة المسيح. ومن أبرز مؤلفي تلك الوثائق القديمة:
(1) كورنيليوس تاسيتوس (55-125 م) وهو مؤلف روماني عرف بالدقة والنزاهة. عاصر تاسيتوس ستة أباطرة ولُقب بمؤرخ روما العظيم. من أشهر كتبه على الإطلاق مصنَّفيه "الحوليات والتواريخ". يضم الأول نحو 18 مجلداً، والثاني نحو 12 مجلداً. ويرى ف. ف بروس F.F. Bruce أن تاسيتوس هذا كان بحكم علاقته بالحكومة الرومانية مطلعاً على تقارير حكام أقاليم الإمبراطورية وسجلات الدولة الرسمية. وقد وردت في مصنَّفيه ثلاث إشارات عن المسيح والمسيحيّة أبرزها ما جاء في حولياته:
"... وبالتالي لكي يتخلص نيرون من التهمة (أي حرق روما) ألصق هذه الجريمة بطبقة مكروهة معروفة باسم المسيحيّين، ونكَّل بها أشد تنكيل. فالمسيح الذي اشتق المسيحيون منه اسمهم، كان قد تعرض لأقصى عقاب في عهد طيباريوس على يد أحد ولاتنا المدعو بيلاطس البنطي. وقد راجت خرافة من أشد الخرافات إيذاء، وإن كانت قد شُكمت لفترة قصيرة، ولكنها عادت فشاعت ليس فقط في اليهودية المصدر الأول لكل شر، بل انتشرت أيضاً في روما التي أصبحت بؤرة لكل الأشياء الخبيثة والمخزية التي شرعت ترد إليها من جميع أقطار العالم"[1] .
يتضح من هذه الوثيقة أن المسيحية قد اشتقت اسمها من المسيح، وأن بيلاطس البنطي هو الذي حكم عليه بالموت. أما الخرافة أو الإشاعة التي ألمح إليها فهي ولا شك القيامة.
(2) ومن مؤرخي الرومان القدامى الذين كتبوا عن موت المسيح ثللوس (توفي 52م) وقد عمد هذا إلى تصنيف تاريخ منطقة البحر الأبيض المتوسط منذ الحرب الطرواديّة حتى زمانه. بيد أن هذا المصنف قد فُقد ولم يبقَ منه سوى شذرات مبعثرة في مؤلفات الآخرين، ومن جملتهم يوليوس الإفريقي الذي كان مطلعاً، كما يبدو على هذا التاريخ. ففي سياق حديثه عن صلب المسيح والظلام الذي خيّم على الأرض عندما استودع المسيح روحه بين يدي الآب السماوي، أشار يوليوس إلى عبارة وردت في تاريخ ثللوس تدور حول هذه الحادثة قال:
* "إن ثللوس في المجلد الثالث من تاريخه، يعلل ظاهرة الظلمة أنه كسوف الشمس، وهذا غير معقول كما يبدو لي"[2] .
وقد رفض يوليوس الإفريقي هذا التعليل (سنة 221 م) بناء على أن الكسوف الكامل لا يمكن أن يحدث في أثناء اكتمال القمر، ولا سيما أن المسيح قد صُلب ومات في فصل الاحتفال بالفصح وفيه يكون القمر بدراً مكتملاً[3] .
ولم يكن ثللوس وحده هو الذي نبَّر على حدوث هذا الظلام، فقد أشار إليه كثير من القدامى كمثل فليفون الفلكي في القرن الثاني فقال: "إن الظلام الذي حدث عند صلب المسيح لم يحدث في الكون مثله من قبل" كما أشار إليه الإمام الحافظ ابن كثير المؤرخ الإسلامي في القرن الرابع عشر في كتابه "البداية والنهاية" ج 1 :182[4]
(3) لوسيان اليوناني: كان هذا أحد مؤرخي اليونان البارزين في مطلع القرن الثاني الميلادي. وقد علق في مقال نقدي ساخر على المسيحيين والمسيح. وإذ كان ينتمي إلى المذهب الأبيقوري فقد عجز عن استيعاب طبيعة الإيمان المسيحي واستعداد المسيحيين للاستشهاد في سبيل عقيدتهم، وحسبهم شعباً مخدوعاً يتعلق بأوهام عالم ما بعد الموت بدلاً من التمتع بمباهج العالم الحاضر وملذاته وأبرز ما قاله:
* "إن المسيحيين، كما تعلم، ما زالوا إلى هذا اليوم يعبدون رجلاً - وهو شخصية متميزة، استنّ لهم طقوسهم الجديدة وصُلب من أجلها… ومنذ اللحظة التي اهتدوا فيها (إلى المسيحية) وأنكروا آلهة اليونان وعبدوا الحكيم المصلوب، استقرّ في عرفهم أنهم إخوة"[5] .
(4) رقيم بيلاطس: وهو رقيم أشار إليه جاستنيان الشهيد عام 150 م في أثناء دفاعه الأول حيث أكد أن صلب المسيح يثبته تقرير بيلاطس، كما يلمح في نفس الدفاع إلى طائفة من العجائب وأعمال الشفاء، ثم يقول: "إنه حقاً قد .صنع هذه ويمكنك التأكد منها من رقيم بيلاطس" وأشار ترتليان أيضاً إلى نفس هذا الرقيم [6] .
(5) ومن جملة الذين ذكروا في مؤلفاتهم ورسائلهم عن المسيح المصلوب، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، سيتونيوس (120 م) الذي كان رئيس أمناء سر الأمبراطور الروماني هادريان (117-138 م) فأتاحت له وظيفته الإطلاع على سجلات الدولة الرسمية، فعلم بالأسباب التي أدت إلى اضطهاد المسيحيين ومن بينها إيمانهم بصلب المسيح وموته وقيامته.
(6) ومن رجالات الدولة الذين عنوا بشأن المسيحيين بليني الأصغر حاكم بيثينيا في آسيا الصغرى. فقد ألمح في كتابه العاشر (112 م) إلى المسيح الذي يؤلّهه المسيحيون وموقفه منهم (المصدر السابق 95).
(7) وكذلك كلسوس الفيلسوف الأبيقوري المولود سنة 140م الذي كان من ألد أعداء المسيحية، هذا أيَّد في كتابه (البحث الحقيقي) قضية صلب المسيح وإن سخر من الغرض منه وقال: "احتمل المسيح آلام الصلب لأجل خير البشرية" (قضية الغفران 109).
(8) مارا بار - سيرابيون، قال هذا في رسالة كتبها لابنه من السجن يعود تاريخها إلى بين القرنين الأول والثالث:
... وأية فائدة جناها اليهود من قتل ملكهم الحكيم؟ لم يمت هذا الملك الحكيم إلى الأبد لأنه عاش من خلال تعاليمه التي علم بها [7] ..
بطبيعة الحال إن مارا هذا ينظر إلى المسيح من خلال منظاره الوثني. فالمسيح في رأيه، هو حكيم من الحكماء كسقراط وأفلاطون كما نمّت عن ذلك بقية رسالته.
يتبين لنا من هذه الوثائق الوثنية أن كتّابها كانوا على ثقة تامة أن المصلوب هو المسيح وليس الشبيه كما يدّعي المسلمون. وهكذا سجل لنا التاريخ حقيقة دامغة على صدق الكتاب.