ونقتصر في هذه الأبحاث على المواضيع التي تهم الحوار بين المسيحية والإسلام . قد يسلم أهل القران بان للإنجيل والكتاب كله ، في عرف القران، منزلة القران نفسه . لكنهم لأسباب معروفة ينكرون ان القران يشهد للكتاب والإنجيل في وضعهما ، في عهد محمد؛ وانما هو يشهد للتوراة والإنجيل كما نزلا على موسى وعيسى . والقران ، على حد قولهم ، يشهد بتحريف الكتاب والإنجيل
للإنجيل والكتاب كله ، في القران ، منزلة القران نفسه .
ففي آخر سورة من سوره ، وفي آخر آية تقريبا من آياته ، يجعل القران التوراة والإنجيل والقران في منزلة واحدة : ( ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بان لهم الجنة ، يقاتلون في سبيل الله ، فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقران ) التوبة 111.
ودرس ( الإنجيل في القران) يطلب كتابا كبيرا لنوفيه بعض حقه.
ونقتصر في هذه الأبحاث على المواضيع التي تهم الحوار بين المسيحية والإسلام .
قد يسلم أهل القران بان للإنجيل والكتاب كله ، في عرف القران، منزلة القران نفسه . لكنهم لأسباب معروفة ينكرون ان القران يشهد للكتاب والإنجيل في وضعهما ، في عهد محمد؛ وانما هو يشهد للتوراة والإنجيل كما نزلا على موسى وعيسى .
والقران ، على حد قولهم ، يشهد بتحريف الكتاب والإنجيل . لذلك مع تطور الوحي نسخ القران التوراة والإنجيل . والقران يذكر الإنجيل بالمفرد المعلم ، والمسيحيون لديهم أربعة أناجيل ، فلا يصح ان تكون كلها الإنجيل الذي نزل على عيسى ابن مريم.
إنها اتهامات خطيرة . ويزيد في خطورتها أنها تستند في نظر أصحابها إلى القران نفسه.
وهذا ما يحول بينهم وبين الاستشهاد بالإنجيل الرباعي كلما قام حوار بين المسلمين والمسيحيين .
فهل في القران أساس لتلك الاتهامات ؟؟.
قلنا ونقول : للإنجيل والكتاب كله ، في نظر القران ، منزلة القران نفسه ؛ وهذه عقيدة راسخة متواترة في السور كلها
1) للتوراة والإنجيل والقران ، أسماء واحدة
فالثلاثة هي الكتاب المنزل : ( بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، وانزل معهم الكتاب بالحق) البقرة 213.
والقران نفسه وحي من هذا الكتاب الإمام ، بدون تبديل : (واتل ما أوحى إليك من كتاب ربك : لا مبدل لكلماته ) الكهف 27.
لذلك فالقران: ( تفصيل الكتاب ) يونس 37 ، وتصديق له يهيمن على حراسته : (وأنزلنا إليك الكتاب ، مصدقا لما بين يديه (قبله) من الكتاب ، ومهيمنا عليه) المائدة 51 .
فعلى المسلمين ان يؤمنوا بالكتاب والقران ايمانا واحدا : ( يا ايها الذين آمنوا ، آمنوا بالله ورسوله ، والكتاب الذي انزل على رسوله ، والكتاب الذي انزل من قبل ) النساء 136 . فالكتاب المنزل في الثلاثة واحد ، وله فيها جميعا قيمة واحدة .
والثلاثة جميعا هي الذكر الحكيم :
( هذا ذكر من معي وذكر من قبلي ) الأنبياء 23.
والذكر هو أصلا عند أهله : ( فاسألوا أهل الذكر ، لن كنتم لا تعلمون البينات والزبر) النحل 43-44.
فما القران سوى بيان للتنزيل في الكتاب : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما انزل اليهم ) النحل 44 . فالذكر واحد في الثلاثة.
والثلاثة هي الفرقان :
( نزل عليك الكتاب بالحق ، وانزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وانزل الفرقان ) ال عمران 4 : فالتوراة والإنجيل والقران هي كلها الفرقان .
وما القران نفسه سوى ( بينات من الهدى والفرقان) البقرة 185.
لذلك : ( تبارك الذي انزل الفرقان على عبده ) الفرقان 1 .
كما ( آتينا موسى وهارون الفرقان ) الأنبياء 48 . فالكتب الثلاثة هي الفرقان .
والثلاثة هي القران ، قبل أن يصير اسما خاصا بالكتاب العربي.
فمنذ مطلع الدعوة ، ولما ينزل من القران العربي سوى آيات معدودات ، يؤمر محمد : ( قم الليل إلا قليلا ….. ورتل القران ترتيلا ( المزمل فمن الواضح انه قران الكتاب .
هذا ا يتضح من قوله : (وأمرت ان أكون من المسلمين ، وان أتلو القران) النمل 90-91.
أي قران الكتاب الذي يتلوه مع المسلمين من قبله الذي أمر بان ينضم إليهم ويكون ( من المسلمين ) . وفي مطلع السور يرادف بين ( تلك آيات الكتاب ) الشعراء 1 والقصص 1 يونس 1 لقمان 2 ، وبين تلك آيات القران) النمل 1 . فالقران اسم الكتاب كله مثل القران العربي : ( تلك آيات القران كتاب مبين) نمل 1 هذا الترادف يجعل للثلاثة قيمة واحدة .
2) فالكتاب المنزل واحد في التوراة والإنجيل والقران
( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ ) . البقرة 213.
فكل الأنبياء يبثون بالكتاب الواحد ، ولو تنوعت لغته . لذلك فالقران وحي من الكتاب نفسه ، دون تبديل : ( وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا . الكهف 27.
فالتوراة والإنجيل والقران هي كلها الكتاب الواحد المنزل : فلها جميعا منزلة واحدة .
3) تنزيل الكتاب في التوراة والإنجيل والقران ، عقيدة واحدة.
(الم . اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ من قبل وهدى للناس وانزل الفرقان . ال عمران 1-3 .
فالتنزيل واحد في التوراة والإنجيل والقران ، من الحي القيوم نفسه .
والقران ( تنزيل رب العالمين …. وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ) . الشعراء 193 – 197 .
فلا يميزه عنها سوى اللسان العربي وحده : ( وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ . الأحقاف 12 .
4) اصل الكتاب المنزل في التوراة والإنجيل والقران واحد.
اصل الكتب المنزلة كلها هو : ( اللَوْحٍ المَحْفُوظٍ ) . البروج 22.
ويسميه ( أُمِّ الْكِتَابِ ) . الزخرف 4 ؛ ( الرعد 39) أي اصله الذي لا يتغير منه شيء ؛ وهو ما كتبه بالأزل) ( الجلالان) ؛ ( اصل الكتب ، وهو اللوح المحفوظ) البيضاوي .
فبما ان اصل التوراة والإنجيل والقران واحد ؛ فهي كلها واحدة، ولها قيمة واحدة، في نظر القران نفسه .
5) التوراة والإنجيل والقران تعلم جميعا دينا واحدا .
هذا ما وصى به الله زعماء الأنبياء والرسل ، نوح وابراهيم وعيسى وموسى ومحمد:
( شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) الشورى 13 . لذلك : ( لا نفرق بين أحد منهم ، ونحن له مسلمون ).
6) وهذا الدين الواحد في الثلاثة هو التوحيد الكتابي
فالتوحيد المنزل هو الايمان بالله واليوم الآخر ، وهذا ما تنادي به الكتب الثلاثة . لذلك: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . البقرة 62 .؛ قابل الحج 17 و 67 ؛ المائدة 69.
وبوحدة التوحيد والدين في الكتب الثلاثة ، يتحدى المشركين : (قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ . القصص 49 .
وهذا التوحيد الكتابي المنزل هو واحد في الكتب الثلاثة : ( هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِي . الأنبياء 24 –25 . فسره (الجلالان) ( ذكر من معي أي أمتي ، وهو القران ؛ وذكر من قبلي أي من الأمم ، وهو التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله ؛ فليس في واحد منها أن مع الله آلها آخر .
فالتوحيد الكتابي واحد في الثلاثة ؛ فلهما جميعا منزلة واحدة .
7) وهذا التوحيد الكتابي المنزل هو الإسلام
ان (الإسلام) موجود اسما ودينا قبل محمد والقران ، وذلك بنص القران القاطع:
( هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا ) الحج 78 : ( من قبل) في الكتاب كله؛
( وفي هذا) القران ، كما اجمع على تفسيره الطبري والزمخشري والبيضاوي والجلالان .
لذلك يؤمر محمد في بعثته ان ينضم الى ( المسلمين) الموجودين من قبله : ( وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وان أتلو القران) معهم . النمل 90-91 .
وجميع الأنبياء علموا إسلام الكتاب ، فلا دين غيره ، لانه دين الفطرة ، ودين الكتاب :
(أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ . ال عمران 83 –85 .
ان إسلام القران هو إسلام الكتاب نفسه . والإسلام الذي لا دين غيره هو إسلام الكتاب ، من إبراهيم إلى موسى إلى عيسى ، قبل إسلام القران ؛ وما إسلام القران الا إسلام الكاب الذي شرعه الله للعرب ( الشورى 12 ) .
لكن هذا الإسلام هو على التخصيص إسلام النصارى ( أُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ) الذين يشهدون مع الله وملائكته ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) . ال عمران 18 – 19.
فالإسلام حصرا هو الإسلام (النصراني ) قبل ان يكون الإسلام القرآني .
هذا ما أعلنه الحواريون ، صحابة المسيح ، مرارا : ( آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ . ال عمران 52 الصف 14 ؛ وهذا ما أعلنه النصارى لمحمد حين تلا عليهم إسلام القران : ( إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ). القصص 53 .
وكما شهد الحواريون للمسيح بالإسلام : ( رَبَّنَا آمَنَّا …. فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ. ال عمران 53 ؛ يشهد القران بالحرف الواحد للنصارى بالإسلام : (رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) المائدة 86.
وميزة هذا الإسلام (النصراني ) القرآني هو التوحيد بين الرسل والكتب المنزلة (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ . البقرة 136 وال عمران 84.
وبما ان الإسلام واحد في الكتب المنزلة كلها ، فالايمان( بكتب الله ورسله ) واحد، وهو ركن من أركان دين الله : ( ليْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ….. البقرة 177 .
فآمنوا بالله ( وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ) ال عمران 179. النساء 152 و171 والحديد 19 و21.
فقد ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ . البقرة 285 .
هذا هو أساس الحوار الذي يفرضه القران على أمته : فلا ينس أهل القران هذا التلقين في حوارهم مع أهل الإنجيل .
8) الإنجيل هو كلام الله على لسان كلمة الله
ان الله يستجمع الحي كله في السيد المسيح : ( وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ . ال عمران 48
في الترادف تظهر ( الحكمة) مرادفا للإنجيل ؛ والمسيح نفسه يعلن ، ( قال : قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ ) . الزخرف 63.
وهذا الجمع المعجز للوحي في المسيح عقيدة راسخة في القران ، فهو يردد : ( إِذْ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ ). المائدة 110 .
وميزة محمد والقران إيمانهما بالمسيح انه (كلمة الله: إِذْ قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ). ال عمران 45 . وهذه هي البشرى نفسها للمعمدان (ال عمران 39 ).
فتعريف القران بالمسيح ، عيسى ، ابن مريم ، رسول الله ، انه (كَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ) . النساء 171 .
وهذا التعريف ، مهما اختلف التأويل ، فانه يرفع المسيح من عالم البشر ، الى عالم الروح ، عالم الملاك والله .
فكلام الله على لسان (كلمة الله) هو ختام الوحي والنبوة ؛ لأنه ليس من رسول عند الله مثل الذي هو (كلمته وروح منه ) . قال الرازي : سمي كلمة الله كأنه صار عين كلمة الله … أو لأنه أبان كلمة الله افضل بيان ) آل عمران 45.
وميزة محمد في دعوته انه : ( النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يؤمن بالله وكلمته . الأعراف 158 .
قرأنا ( كلمته) بدلا (كلماته) على قراءة اصح تفرضها القرائن.
لذلك جاء القران ( تصديقا للكتاب ) البقرة 41 و 77 و 89 91 و 101 ؛ آل عمران 3 ؛ النساء 47 مائدة 46 ؛ الأنعام 92 ؛ يونس 37 ؛ يوسف 111 ؛ فاطر 31 ؛ الأحقاف 30 . الصف 6 .
(وتفصيل الكتاب) : يونس 37 ؛ يوسف 111 ؛ الأنعام 114.
( بل تعريب الكتاب ) : فهو ( تنزيل من الرحمن الرحيم : كتاب فصلت آياته فرانا عربيا ) فصلت 1 ؛ (كتاب أحكمت آياته ، ثم فصلت من لدن خبير حكيم ) هود 1 .
لذلك ( والكتاب المبين : إنا أنزلناه قرانا عربيا ) يوسف 1 .
فتفصيل الكتاب هو في لغته القران تعريبه مفصلا: ( ولولا جعلناه قرانا أعجميا لقالوا: لولا فصلت آياته ) فصلت 44.
فالقران ينتسب جملة وتفصيلا إلى الكتاب الإمام : ( ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة ) هود 17 ؛ الأحقاف 12 ؛ خصوصا إلى الكتاب المنير : ( فان كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير ) آل عمران 184.
فلا ينتسب إلى كتاب سماوي عند الله ، بل إلى كتاب الله على الأرض: ( قل : فآتوا بالتوراة فأتلوها ان كنتم صادقين ) آل عمران 933 ؛ والقران ( تنزيل رب العالمين ) لأنه ( في زبر الأولين ) الشعراء 193 –195.
وهو يفخر انه (يؤمن بالله وكلمته ) الأعراف 158 لان الإنجيل كلام الله على لسان كلمة الله : ففي المسيح توحد كلام الله وكلمة الله ؛ فصار كلمة الله كلام الله عينه الذاتي المنزل .
9) الإنجيل هدى وموعظة للمسلمين ، كما هو للمسيحيين
هذا هو موجز النبوة والكتاب : ( وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ. المائدة 46 .
( المتقون ) في اصطلاح الكتاب والقران ، هم المؤمنون من الأميين بالكتاب المنزل ، كما في قوله : ( ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين … وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ) . البقرة 1 – 4 ؛ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ. ال عمران 138 .
فالقران (هدي وموعظة للمتقين) من العرب ، كما أن الإنجيل (هدى وموعظة للمتقين) منهم . المائدة 46 .
والقران هو تعليم ( الكتاب والحكمة) اللذين استجمعهما المسيح، للعرب : ( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ. البقرة 151 . كما طلب إبراهيم وإسماعيل لهم من ربهم ( البقرة 129).
وبتعليم القران العرب الكتاب والحكمة ، التوراة والإنجيل ، أنقذهم من ضلال مبين : ( لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . ال عمران 164 . قابل الجمة 2
(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ) الجمعة 2 .
فالقران هو تعليم (الكتاب والحكمة ، التوراة والإنجيل) كما نزلت على المسيح ( وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ). ال عمران 48 .
10) فالمسيح في عرف القران نفسه ، خاتمة النبوة والكتاب
أولا: لان المسيح وحدة ( كلمة الله) كأنه كلام الله تجسد فيه ، فصار (كلمة الله) عين كلام الله . فالمسيح هو ( كلمة الله) الذاتية والمنزلة جميعا.
ثانيا : لان القران في تعاقب الأنبياء يجعل المسيح خاتمة الرسل : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) . البقرة 87 .
وميزة الختام معه تأييد الروح القدس له على الدوام في سيرته ودعوته ، لا في حال الوحي فقط كما عند سائر الأنبياء والرسل .
فهو (لم يفارقه ساعة) (يسير معه حيث سار ) . وفي المفاضلة بين الرسل يجعل تأييد المسيح بالمعجزات وبروح القدس : (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ). البقرة 253 سبب فضله على غيره ( وجعل معجزاته سبب تفضيله لأنها آيات واضحات ، ومعجزات عظيمة لم يستجمعها غيره ) البيضاوي . فهذان التفضيل بالمعجزات ، والتخصيص بتأييد روح القدس برهان الختام في المسيح .
ولا نص في القران يقول ( بتقفية) رسول على المسيح .
يقولون: ان القران يصف محمد بانه (خاتم النبيين) ( رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) الأحزاب 40.
لكن نلاحظ دقة التعبير : فهو يقول ( خاَتم ) لا (ختامة) . وخاَتم هو ختم الصدق والتصديق.
وهذا هو المعنى المتواتر في القران بأنه ( تصديق الكتاب) ، وفي محمد بانه يصدق الكتاب في تفصيله للعرب () البقرة 41 و 77 و 89 91 و 101 ؛ آل عمران 3 ؛ النساء 47 مائدة 46 ؛ الأنعام 92 ؛ يونس 37 ؛ يوسف 111 ؛ فاطر 31 ؛ الأحقاف 30 . الصف 6 .
وعلى كل حال ، فالمسيح هو خاتم الأنبياء والأولياء في اليوم الآخر : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ ) . الزخرف 61 . فهو (علم) يشير إلى دنوها ؛ وهو (علم) لها تعرف به . ومن يكون كذلك حين الساعة الأخيرة من تاريخ البشرية فهو بالحقيقة خاتمة النبوة والكتاب .
تلك هي قيمة الكتاب عامة ، والإنجيل خاصة ،في نظر القران.
وفي آخر سورة ، وفي آخر آية تقريبا ، يضع الكتب الثلاثة في منزلة واحدة ، ( وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ ) . التوبة 111 .
نفتتح هذا البحث ، كما سنختتمه ، بعد استقراء القران ، بهذا التحدي الصارخ : إننا نتحدى أيا كان أن يرينا في القران آية واحدة تتهم النصارى بالتحريف أو تلقي على الإنجيل شبهة التحريف ، وذلك تصريحا أو تلميحا ! .
قد يذكر الفران لليهود ، ولليهود وحدهم (تحريفا) في الكتاب . وسندرس هنا معناه ومداه .
لكته لا ينسب للنصارى والإنجيل أية شبهة من التحريف .
وشبهة التحريف عند اليهود تأتى في المدينة ، ولا ذكر لها في القران المكي : فهي من زمن الصراع بين محمد واليهود في
العهد المدني الأول ، لان تصفية اليهود من المدينة كانت قد تمت في مطلع العهد الثاني بالمدينة .
وسنرى ان(التحريف) المذكور إنما هو تأويل فاسد لآية (النبي الأمي) او نعت النبي في التوراة، ولآية جلد الزاني بدل رجمه .
تأخذ شبهة التحريف في القران ثلاثة أشكال:
كتمان بعض الكتاب عن الناس ،
واللي بالسان طعنا في الدين ،
وتحريف الكلام عن موضعه .
تهمة كتمان بعض الكتاب عن الناس
السورة الأولى من المدينة وهي البقرة . فيها صور الصراع الذي نشب بين محمد واليهود على زعامة المدينة . وبالتالي على صحة نبوة محمد، التي ظل اليهود يكفرون بها طيلة عهد الدعوة القرآنية . وفيها يتهم اليهود بكمان الحق الذي في التوراة : ( يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِي وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِي وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ … أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . البقرة 40 –44.
فالقران يردع اليهود عن الكفر به قبل الجميع ؛ مع انه ؛ (مصدق لما معهم) ! : فالقران اذن يصدق ما هو مع بني إسرائيل من الكتاب، وهذا التصديق شاهد انه لا تحريف عندهم.
ويقول : ( ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) فآيات الكتاب الذي مع اليهود لم تزل آيات الله، (آياتي)، في زمن محمد .
ويقول ( وانتم تتلون الكتاب) فالكتاب الذي معهم لم يزل كتاب الله ؛ ولو دخله تحريف لما نوه بتلاوته شاهدا عليهم .
ثم يتهمهم ( تلبيس الحق الباطل) أي كما قال الجلالان : ( لا تخلطوا الحق الذي أنزلت عليكم بالباطل الذي تفترونه ) . فتلبيس الحق بالباطل هو أدق تحديد للتأويل الباطل .
فالقران اذن يشهد هنا ان بني إسرائيل يتلون في الكتاب الحق المنزل ، وان فسروه على هواهم : فالكتاب الذي مع بني إسرائيل هو الحق في زمن محمد .
ثم يقرن القران تلبيس الحق بالباطل ، بكتمان الحق : والاثنان يفسر بعضهما بعضا .
يقول : ( ولا تكتموا الحق وانتم تعلمون) أي لا تكتموا الحق الذي في الكتاب . فما هو هذا الحق الذي يكتمون ؟ قال الجلالان : ( لا تكتموا نعت محمد وانتم تعلمون انه الحق ) .
فقد كان محمد يستشهد بالتوراة على صحة نبوته ، فينكر اليهود عليه ذلك.
فالخلاف في التأويل ، لا في كتمان النص او تحريفه .
2) ( أم تقولون : مُخْلِصُونَ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنْ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) البقرة 140
الجدل قائم بين محمد واليهود على الهدى (135 –141 ) .
كان اليهود يشتقون الهدى من اسمهم فيقولون : ( كُونُوا هُودًا تَهْتَدُوا (البقرة 135).
فرد عليهم القران ان الهدى في الاسلام الذي يؤمن : ( بما) أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) 136.
فيردون عليه : إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودً (140)
فيرد عليهم ان اليهودية من موسى ؛ لذلك فالآباء والأسباط لم يكونوا يهودا (بالمعنى الديني )
هذه هي شهادة التوراة: ( ومن اظلم ممن كتم شهادة عنده من الله ) 140.
فالقران يستشهد بالتوراة التي معهم في زمن محمد ، ويتهم اليهود بكتمان شهادة التوراة ، كتمانا لفظيا ، أو بالحري معنويا، بالتأويل المغلوط . واستشهاد القران بالتوراة دليل على صحتها ، كما هي في أيديهم .
3) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) البقرة 146.
الجدل مع اليهود على نبوة محمد . قال الجلالان : ( أهل الكتاب يعرفون محمد كما يعرفون أبناءهم بنعته في كتبهم . وان فريقا منهم ليكتمون الحق اي نعت محمد ، وهم يعلمون.
فظاهر ان الكتمان المقصود هو التأويل الفاسد للتوراة التي تشهد لمحمد . وما يكتمه فريقا، يفضحه الفريق الآخر : فلا خوف على النص لا من الكتمان المادي ولا من الكتمان المعنوي أي التأويل .
فمناورة الكتمان ، بالتأويل المغلوط ، هي من فريق فقط . فهي فاشلة ، ولا تمس التوراة في شيء.
4) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللَّاعِنُونَ . البقرة 159 .
ان القران يلعن الفريق من اليهود الذي يكتم معنى الكتاب عن الناس . وهب انهم يكتمون النص نفسه ، فلا خوف على تحريفه. فالفريق الآخر بالمرصاد .
5) ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ . البقرة 174 – 176 .
هنا يظهر شقاق الفريقين على اختلافهم في فهم الكتاب . ففريق منهم بتأويلهم الفاسد اشتروا الضلالة بالهدى . والفريق الآخر بقي على الهدى في حفظ الكتاب وتأويله .
وفي الآية شهادة مزدوجة على صحة الكتاب المتداول في الحجاز على زمن محمد : ان فريقا منهم ( يكتمون ما انزل الله من الكتاب ) : فالقران يشهد بان الكتاب في زمنه منزل من الله ؛ ويشهد أيضا ( بان الله انزل الكتاب بالحق ) كما وصل زمان محمد والقران .
وفي سورة ال عمران يظل الجدل قائما بين محمد واليهود على صحة رسالته : يستشهد محمد بالكتاب فينكرون عليه صحة شهادته :
1) ( وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ . ال عمران 69 –71 .
قال الجلالان : ( لم تخلطون الحق بالباطل وتكتمون الحق أي نعت محمد ، وانتم تعلمون انه الحق ). فالخطاب كله بحق اليهود ، وهم ينكرون تأويل محمد لشهادة الكتاب له . فتهمة الكتمان تدور كلها حول صفة الكتاب .
2) ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ . ال عمران 187 .
الآية في خطاب بحق اليهود أيضا : ان كتمان حقيقة الكتاب ، خصوصا في صفة محمد النبوية ، هو ضد الميثاق الذي أخذه الله في التوراة على اليهود، ان يظهروا الحقيقة ولا يكتمونها بتأويلهم. وهذه شهادة على صحة الكتاب .
وفي سورة النساء هذه الآية في خطاب اليهود أيضا : ( الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا . النساء 37 .
قال الجلالان : يكتمون ما آتاهم الله من فضله ، من العلم والمال، وهم اليهود ). فاليهود يمنعون علمهم ومالهم عن محمد : تلك هي التهمة .
وفي سورة المائدة هذه الآية في نفاق اليهود : وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ ) المائدة 6.
فقد اتخذوا دعوة محمد (هزوءا ولعبا) هم (الذين جعل منهم القردة والخنازير). المائدة 60 –64.
تلك هي تهمة الكتمان في دعوة القران : انها تقتصر على خلاف محمد واليهود في دلالة الكتاب على صحة نبوة محمد .
انها قضية تفسير وتأويل . فليس فيها ما يمس نصص الكتاب الذي يعلن القران مرارا صحته في عهد القران .
ترد التهمة في آيتين يفسر بعضهما بعضا : ( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ . ال عمران 78 .
مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ ) . النساء 46 .
النص صريح بان فريقا ( من الذين هادوا ) يلوون ألسنتهم في تلاوة الكتاب ، أي يقرؤون بغير القراءة الصحيحة ، ويعتبرون قراءتهم هي المنزلة ، وما هي بالمنزلة . ويعطي مثالا على تلاعبهم في الكلام قولهم : ( راعنا) ؛ فإذا لفظوها (راعنا) عنت بلغة اليهود ارعن .
فالتهمة هي قراءة مشبوهة لآيات في الكتاب يقصدون بها غير ما قصد الله بها في كتابه العزيز .
واختلاف القراءات ، سواء كانت صحيحة او مشبوهة ، شيء مألوف في التوراة والإنجيل والقران ؛ واختلاف القراءات لا يمس حرف النص ، فهو سالم .
وهذا اللي بالسان في تلاوة الكتاب ، أي القراءة المختلفة ، يجمعها في الآية إلى تحريف الكلام عن مواضعه ( النساء 46) فيكون التحريف المقصود بالتهمة القرآنية هو القراءة المختلفة.
وهذه شهادة سلبية على سلامة نص الكتاب من التحريف .
ونلاحظ ان من يقوم بذلك التلاعب في قراءة الكتاب إنما هم فريق من الذين هادوا ، لا كلهم ، ولا دخل للنصارى في التهمة على الإطلاق .
ترد تهمة التحريف في خمسة مواضع :
1) ( أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ . البقرة 75.
قال الجلالان : أَفَتَطْمَعُونَ ايها المؤمنون ان يؤمن لكم اليهود وقد كانت طائفة من أسلافهم يسمعون كلام الله في التوراة ثم يحرفونه أي يغيرونه من بعد ما عقلوه ، وهم يعلمون .
قال البيضاوي : أَفَتَطْمَعُونَ ان يصدقونكم – يعني اليهود – وقد كانت طائفة من أسلافهم يسمعون كلام الله في التوراة ثم يحرفونه كنعت محمد . وآية الرجم ، أو تأويله ويفسرونه بما يشتهون .
وقيل : هؤلاء من السبعين المختارين ( على زمن موسى) …. من بعد ما علقوه أي فهموه بعقولهم ولم يبق لهم فيه ريبة . ومعنى الآية ان أحبار هؤلاء ومقدميهم كانوا على هذه الحالة ، فما ظنك بسفلتهم وجهالهم ، وانهم ان كفروا وحرفوا فيهم سابقة في ذلك ).
ما معنى (يلوون ألسنتهم بالكتاب ) ؟ قال البيضاوي : يفتلون ألسنتهم بقراءة الكتاب … او يعطفونها بشبه الكتاب ). قال الجلالان : يعطفونها بقراءته عن المنزل الى ما حرفوه من نعت محمد ) . قال الزمخشري : يفتلون ألسنتهم بقراءة الكتاب… ويجوز ان يراد يعطفون ألسنتهم بشبه الكتاب لتحسبوا ذلك الشبه من الكتاب ) .
فالكلمة لها معنيان : الأول فقل اللسان في التلاوة نفسها ؛ والثاني : تعقيب التلاوة بشبه عليها . فالمعنى الثاني تفسير لا يمس النص . والمعنى الأول قراءة مغلوطة للنص نفسه ، فهي اذن لا تمس النص .
فالحديث هنا عن تحريف فريق من اليهود للتوراة على زمن موسى . وهب انه يقصد تحريفهم على زمن محمد فالتحريف واقع من فريق ، لا يقرهم الفريق الآخر عليه .
والفريق المنافق ، لا يغير النص نفسه بل يغير معناه أي ، كما يقول البيضاوي : يؤولونه ويفسرونه كما يشتهون ) .
وأّنى لهم يغيروا النص والفريق الآخر لهم بالمرصاد ! .
تهمة التحريف أي التأويل تنحصر كلها ، بإجماع المفسرين ، في أمرين : نعت محمد وآية الرجم. فمحمد يرى صفة نبوته في الكتاب ، واليهود لا يرونها .
فالخلاف في التأويل لا في تغير النص . وقد فسر بعض اليهود رجم الزاني والزانية بالتحريم والضرب ، بدل الرجم ، كما سنرى ، فالخلاف أيضا بين محمد وفريق من اليهود في تأويل التوراة ، لا في تحريف نصها ، كما تدل القرينة في قوله : (يحرفونه بعد ما عقلوه ، وهم يعلمون) أي من بعد ما فهموه حق فهمة .
فليس في ( التحريف) المذكور في آية البقرة من تحريف للحرف والنص ، وذلك بنص القران القاطع في الآية : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ ) . البقرة 121 .
قال الجلالان : (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أي يقرؤونه كما انزل ) وهذا الآية (البقرة 121) تقطع قطعا مبرما كل تهمة بتحريف . وعلى كل حال فالكلام في اليهود وتوراتهم ، لا في النصارى وإنجيلهم.
2) في سورة النساء : ( مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ ) . النساء 46 .
أوجز البيضاوي موقف المفسرين جميعا بقوله : مِنْ الَّذِينَ هَادُوا قوم ( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها بإزالته عنها واثبات غيره فيها.
او يؤولونه على ما يشتهون فيميلونه عما انزل الله فيه .
فالتحريف اذن إما تغير النص ، وإما تأويله : فما هو المقصود ؟
كل القرائن القرآنية تدل على ان التحريف المقصود هو تأويل المعنى لا تغير النص : فالفاعلون بعضهم : ( مِنْ الَّذِينَ هَادُوا قوم يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) ؛ فالبعض الآخر لا يقرونهم في ذلك ، لأنهم ، بنص القران القاطع : ( يتلون الكتاب حق تلاوة ) أي كما انزل .
ثم ان المفسرين يترددون بين تغير النص ، أو تأويل المعنى ، فلا أحد يجزم بتغير حرف النص .
والقران يقول عن ( مواضعه) ؛ ويسمي ذلك (ليا بالسان) ؛ ويعطي على ذلك ثلاثة أمثلة : ( سمعنا وعصينا ؛ واسمع غير مسمع ؛ وراعنا ) . من هذه الأمثلة نفهم ان التحريف لا يقع حرف التوراة نفسه ، بل يقع في كلام اليهود أنفسهم في مخاطبة النبي : فهم يتلاعبون في كلامهم ما بين لغتهم والعربية ، كقولهم في ( راعنا) (رعنا) أي ( يا ارعن) في لغتهم . فالتحريف يقصد كلام اليهود مع النبي لا كلام التوراة ، بدليل قوله : (طعنا في الدين) .
وهب ان التحريف المقصود يقصد التوراة نفسها ، فالآية تفسر التحريف ، بقولها ( ليا بألسنتهم)
أي يقرؤون التوراة ، في المواضع المقصودة ، بقراءة غير صحيحة .
فالتحريف اذن يعني القراءة غير الصحيحة ، والنص يبقى سالما بلا تغيير .
لذلك كله فتفسير التحريف المقصود بأنه تغيير في النص ذاته تنفيه كل القرائن القرآنية القريبة والبعيدة .
لذلك أيضا يرفض الرازي ، المفسر الكبير ،تفسير التحريف بمعنى تغير النص ذاته : ( لان الكتاب المنقول بالتواتر لا يتأتى فيه تغير اللفظ) الرازي في تفسير المائدة 44.
وهذا هو موقف صحيح البخاري : ( يحرفون الكلام عن مواضعه أي يزيلونه وليس أحد يزيل لفظ كتاب من الله تعالى ؛ ولكنهم يتأولونه على غير تأويله) – راجع ضحى الإسلام احمد امين ص 346 –358 – فليس من تحريف في التوراة ولا من يفرحون، أو يحزنون . والنصارى وإنجيلهم براء من ذلك .
3) في سورة المائدة : ( ولقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل … فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ . المائدة 13 .
في آية (المائدة 14) نجد تعبير آية النساء 46 نفسه . فتعليقنا عليه واحد .
ونلاحظ ان التهمة منسوبة إلى اليهود ، لا إلى النصارى وإنجيلهم .
الرازي يفهمها مثل صحيح البخاري ، فيقول : ( إن المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة ، والتأويلات الفاسدة وصرف اللفظ عن معناه الحق إلى معناه الباطل ، بوجوه الحيل اللفظية ، كما يفعل أهل البدع في زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذاهبهم . وهذا هو الأصح .
ولنا هنا قرينة على صحة تفسير البخاري والرازي ، من الآية (15) التي ليها في الخطاب نفسه لليهود: ( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا ، يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ، ويعفو عن كثير ) . فالقران يقرن التحريف بالإخفاء ، إخفاء المعنى المقصود ، لان النص كان شائعا متواترا في العالمين ، قبل بعثة محمد . وهب حاول ذلك بعضهم في الحجاز ، فهل ينطلي ذلك على اليهود كلهم في دولة الفرس وفي دولة الروم؟؟.
موضوع التحريف في آية المائدة (14) هو دائما صفة محمد في التوراة.
قال الجلالان : ( يحرفون الكلم الذي في التوراة من نعت محمد.
فالنبي العربي يتهم اليهود ، أو بالحري فريق منهم بتأويل شهادة التوراة بحقه تأويلا غير صحيحا . فالخلاف بين محمد واليهود على تفسير النبي الموعود .
تقول التوراة (بالنبي الآتي) مثل موسى ؛ فقرأها محمد : (النبي الأمي) فأنكروا ذلك عليه ، كما أنكروه من قبل على عيسى ابن مريم .
وفي الحالين ، ان تفسير اليهود للآتي في التوراة لا يمس حرفها.
والنصارى في ذلك كله براء من التهمة ؛ فلا يعنيهم القران على الإطلاق.
4) في سورة المائدة النص الأخير في التحريف المزعوم : ( وَمِنْ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ) . المائدة 41
فالتحريف هنا مقرون بقصة يشير اليها النص . فسره الزمخشري ، روى ان شريفا من خيبر زنى بشريفة ، وهما محصنان ، وحدهما الرجم في التوراة .
فكرهوا رجمهما لشرفهما . فبعثوا رهطا منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول الله . عن ذلك .
وقالوا : ان أمركم محمد بالجلد والتحميم فاقبلوا . وان أمركم بالرجم ، فلا تقبلوا . وأرسلوا الزانيين معهم . فأمرهم بالرجم . فأبوا ان يأخذوا به . فجعل بينه وبينهم حكما ابن صوريا ، من فدك . فشهد بالرجم . وقالوا في ختام القصة ، ان النبي ، بعد شهادة الحبر اليهودي من فدك ، أمر برجمهما ، فرجموهما عند باب المسجد، لإقامة حد التوراة عليهما .
وأسباب النزول كلها ، والمحدثون ، والمفسرون كلهم يقرنون التحريف المذكور في سورة المائدة بقصة الزانيين من خيبر . فالتهمة مقصورة على آية في التوراة ؛ والتحريف المقصود هو هو تفسير الرجم بالجلد ، وليس تغير النص .
وهو من فريق ( من الذين هادوا ) لا من جميعهم .
ولنا على معنى التحريف المقصود قوله : ( الم تر الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، يدعون الى كتاب الله ليحكم بينهم ، قم يتولى فريق منهم وهم معرضون ) العمران 23.
فلو كان في التوراة نفسها تحريف لما سماها ( كتاب الله ) .
واستشهاد محمد بتلاوة التوراة شاهد على انه يعتبرها ( كتاب الله) في زمانه .
والتحريف المقصود هو في تأويل معرض لآية واحدة .
وهذه هي قصة التحريف التي تملا القران من ( آل عمران ) إلى ( المائدة) .
فمن تأويل فريق من اليهود لآية الرجم بالجلد - آية واحدة- أطلق القوم تهمة التحريف اللفظي على التوراة كلها : فما اظلمهم بحق كتاب من كتب الله !
والخلاف الآخر في موضوع التحريف ، هو قراءة نبؤة موسى في (النبي الآتي ) الواردة بمعنى (النبي الأمي) ، كما قرأها محمد ومن معه فأنكر اليهود ذلك .
وهكذا تنحصر تهمة التحريف الوارد لفظها في القران ، بحق فريق من اليهود ، في لفظين من آيتين التوراة : تأويل اليهود الرجم بالجلد ؛ وقراءة محمد ( النبي الأمي ) بدل ( النبي الآتي).
تلك هي التهمة الضخمة تملا الكتب وصحف التفسير ، والتي بها يتشدقون .
انهم يعملون بحسب المثل الدارج ، من زبيبة خمارة ! ومن الجبة قبة ! .
وفاتهم أسلوب القران في البيان : التخصيص في مظهر التعميم. يذكر القران بعض آية من التوراة بلفظ التعميم : (يحرفون الكلم عن مواضعه) او (يحرفون الكلم من بعد مواضعه) .
وهو يقصد التخصيص كما تدل القرائن كلها ؛ فأخذها القوم بمعنى التعميم . وهذا تفسير خاطئ مغرض لبيان القران .
فهو يقول مثلا : ( ام يحصدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ) النساء 53 قال الجلالان : ( يحسدون الناس أي النبي. (على ما آتاهم الله من فضله) من النبوة . فالتخصيص في معرض التعميم أسلوب قراني فات القوم في تفسير القران .
وهذه الشهادة القرآنية في ( الذين يتلون الكتاب حق تلاوة ) أي ( يقرؤونه كما انزل ) (الجلالان )
شهادة قاطعة على نفي التحريف ، وعلى استحالته في (كتاب الله) كما يسميه في أيامه.
ان التوراة قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها ( قبل ظهور محمد والقران) ، ولا يعلم عدد نسخها فلا الله ، ومن الممتنع ان يقع التواطؤ على التبديل والتغيير في جميع تلك النسخ ، بحيث لا تبقى في الأرض نسخة إلا مبدلة ، مغيرة ؛ والتغيير على منهاج واحد. وهذا ما يحيله العقل ، ويشهد ببطلانه .
فالقول بتحريف الكتاب أي التوراة والإنجيل ، استنادا الى متشابه القران في استخدام لفظ ( التحريف) على التعميم في موضع التخصيص ، هو تحدٍ مفضوح للمنطق وللتاريخ وللقران نفسه .
وهذه هي النتيجة الحاسمة التي نصل اليها بعد استقراء القران في التحريف المزعوم وتفسيره :
أولا : لا يقول القران بتحريف لفظي في التوراة .
ثانيا على كل حال تهمة التحريف السخيفة لا تقصد النصارى وإنجيلهم على الإطلاق.
وكما استفتحنا البحث نختمه : إنا نتحدى أيا كان أن يرينا آية واحدة من القران تتهم المسيحيين تصريحا او تلميحا بتحريف الإنجيل او بعضه .
ورد في الشورى 42:15 “وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ ا للَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا" ..
وورد في غافر 40 :53 - 55 “ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ا لْكِتَابَ هُدىً وَذِكْرَى لأُولِي الْأَلْبَابِ فَا صْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ"
وورد في الفرقان 25: 35 “وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً"
وورد في الزخرف 43 :45 وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَانِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ"
وورد في يوسف 12: 111 “وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ"
وورد في هود 11 :17“وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ"
وفي يونس 10 :37 “وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ" وفي آية 94:“فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ ا لَّذِينَ يَقْرَأُونَ ا لْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ"
وفي الأنعام 6: 89 ، 90 “أُولَئِكَ ا لَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَا لنُّبُّوَةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ" (أي قريش) فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه"
وفي عدد 91· “قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً"
وفي عدد 92 قال إن القرآن “مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ" وفي عدد 114 “وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَّزَلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ"
وفي عدد 124. “قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ"
وفي عدد 154 “ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُون"
وفي عدد 156 “أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا" (أي اليهود والنصارى)
وفي القصص 28 :43“ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا ا لْقُرُونَ ا لْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ" وفي عدد 48
“قَالُوا لَوْلاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى
وفي عدد 52 “الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ"
وفي المؤمنين 23: 49،50 “وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يهَتْدَوُنَ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً;
وفي الأنبياء 21: “وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَا سْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ;
وفي عدد 48 “وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراللْمُتَّقِينَ
وفي عدد 105 “وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَاعِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ; (المراد بالذكر التوراة، وقيل المراد بالزبور جنس الكتب المنزَّلة)
وفي الإسراء 17:2 “وَآتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً؛
وفي عدد 101 “وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَا سْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
“وفي العنكبوت 29: “وَلاَ تَجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِا لَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِا لَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
وفي الأعراف 7:159 “وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ.
هذا جزء من الأقوال الواردة في السور المكية بحسب الترتيب التاريخي، وشهاداتها صريحة للكتاب المقدس.
أما العبارات الواردة في السور المدنية فهاك بعضها:
ورد في البقرة 2:4 ، 5 “الذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلكَِ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَّبِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ“
وفي أعداد 40 - 42 “يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ التِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَا رْهَبُونِ وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَّوَلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَا تَّقُونِ وَلَا تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
وفي عدد 53 وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ وَالفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ .
وفي عدد 87 “وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ا بْنَ مَرْيَمَ
البَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ “وفي عدد 91 “وَهُوَ الحَقُّ مُصَدِّقا لمَا مَعَهُمْ“
وفي عدد 92 “وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالبَيِّنَاتِ
“وفي عدد 136 “قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
وفي عدد 253 “تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ا بْنَ مَرْيَمَ البَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ
وفي عدد 285 “آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ
وورد في الحديد 57:19 “وَالذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ “
وورد في عددي 26 ، 27 “وَلَقَدْ أَرْسَلَنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ا بْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ “
وورد في النساء 4:47 “يَا أَيُّهَا الذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَّزَلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ “وورد في عدد 54 “فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً “
وفي عدد 136 “يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالكِتَابِ الذِي نَّزَلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالكِتَابِ الذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً “
وفي أعداد 150 - 153 إِنَّ الذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً وَالذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيِهمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكِتَابِ أَنْ تُنَّزِلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ ;
وفي النساء 4: 163-164 “إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعَقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً” . وقد أكثرنا من إيراد هذه الشهادات القرآنية لنوضّح:
(1) كانت التوراة والإنجيل والزبور متداولة ومتواترة بين أيدي الناس في عصر محمد. وهل يُعقل أن محمداً كان يحضّ الناس على وجوب التمسّك بها وهي مفقودة، أو هل كان يستشهد بها ويمدحها وهي مبدَّلة؟ ألم يقل في المائدة 5:68 إن أهل الكتاب ليسوا على شيء ما لم يقيموا التوراة والإنجيل؟
وفي عدد. 43 كيف يحكِّمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله . وإن الله أنزل التوراة والإنجيل فيهما هدىً ونور، ومن لا يحكم بهما، فهم الكافرون والظالمون والفاسقون.
(2) أورد محمد منها بعض الأحكام واستشهد بها كثيراً في أقواله.
(3) أوضح محمد البركات التي تحصل لمن يقيم حدودهما من غفران السيئات وحلول البركات (المائدة 5:66).
(4) اعترف محمد بأن من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون، ثم مدحهم .آل عمران 3:113 ، 114).
(5) جاء القرآن من أوله إلى آخره مصدِّقاً للكتب المقدسة.
فهل يصدِّق على شيء لا وجود له أو مُلفَّق؟
(6) يقولون إن الله أمر محمداً أن يستفهم من أهل الكتاب عن القضايا التي ارتاب فيها (يونس 10:94).
7) ذكر محمد التوراة والإنجيل بكل تعظيم، فقال إن التوراة ·إمام ورحمة (هود 11:17) والإنجيل “الكِتَابَ المُسْتَبِينَ وَالكِتَابِ المُنِيرِ (الصافات 37:117 وآل عمران 3: 184 وقال إن الكتاب المقدس “هُدىً وَذِكْرَى لِأُولِي الأَلْبَابِ (غافر 40: 54 و “نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ (الأنعام 6:91) وإنه “نزل تماماً عَلَى الذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ (الأنعام 6:154) و “بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً (القصص 28:43) وقال عنه إنه “الفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ; (الأنبياء 21:48) و ، وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (المائدة 5:46) وغير ذلك. فهل يصف التوراة والإنجيل بمثل هذا الكلام إذا كان يعتقد ضياعهما أو تحريفهما أو تغييرهما وتبديلهما؟ فإذا اعترض أحد بأن القرآن قال إن أهل الكتاب حرَّفوا كتبهم، قلنا إن اليهود قاوموا محمداً أشد المقاومة، وكثيراً ما كانوا يمتحنونه بأسئلة كثيرة عجز عن الإجابة عنها. وإذا استفهم منهم عن شيء من كتابهم ضنّوا عليه به، أو كتموا المعاني، أو فسّروا الأقوال حسب أهوائهم، فتضايق منهم محمد. ولما قوي وزاد حزبه توهَّم ورود شيء عنه في الكتب الإلهية. ولا يتوهَّم المُطالع أن اليهود أتوا شيئاً خلاف العادة، فالعهد أن كل حزب يؤيد رأيه ومذهبه من الكتاب الواحد بدون أن يمسّ النص الأصلي بشيء. وهذا مثل قول محمد في البقرة 2:75 “وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ ; وورد في النساء 4:46 “مِنَ الذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ l; وكذلك ورد في عدد 41 فقال المفسرون إن اليهود كانوا يحرّفون كلام الله، يؤوِّلونه ويفسرونه حسب أغراضهم.
وقال البخاري في تفسير قوله: ·يحرّفون الكلم عن مواضعه يزيلون وليس أحدٌ يزيل لفظ كتابٍ من كتب الله، ولكنهم يحرّفونه أي يفسرونه على غير معانيه. وقيل في فتح الباري: ·سُئِل ابن تيمية عن هذه المسألة فأجاب في فتواه أن للعلماء في هذا قولين، أحدهما وقوع التبديل في الألفاظ، وثانيهما لا تبديل إلا في المعاني، واحتجّ للثاني.
وقال الفخر الرازي (في تفسيره للنساء 4:46) ·فإن قيل كيف يمكن التحريف في الكتاب الذي بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر المشهور في الشرق والغرب؟ قلنا يُقال إنّ القوم كانوا قليلين، والعلماء بالكتاب غاية في القِلّة، فقدروا على هذا التحريف. والثاني المراد بالتحريف إلقاء الشبهة الباطلة والتأويلات الفاسدة وصرف اللفظ عن معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه الحِيَل اللفظية، كما يفعله أهل البدعة في زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذهبهم، وهذا هو الأصح. ومن الآراء في ذلك أنهم كانوا يدخلون على محمد ويسألونه عن أمرٍ فيخبرهم ليأخذوا به، فإذا خرجوا من عنده حرَّفوا كلامه.
وورد في البقرة 2:174“الذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الكِتَابِ" قال المفسرون إن أئمة اليهود كانوا يأخذون من أتباعهم الهدايا، فلما جاء محمد خافوا انقطاعها فكتموا صفة محمد والبشارة به. قال الرازي: ·قال ابن عباس: إنهم كانوا يحرّفون التوراة والإنجيل. وعند المتكلمين هذا ممتنع لأنهما كانا كتابين بلغا في الشهرة والتواتر إلى حيث يتعذَّر ذلك فيهما. بل كانوا يكتمون التأويل لأنه قد كان فيهم من يعرف الآيات الدالة على نبوة محمد، وكانوا يذكرون لها تأويلات باطلة ويصرفونها عن محاملها الصحيحة (الرازي في تفسيره للنساء 4:174).
وورد في آل عمران3:78 وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الكِتَابِ “قال الواحدي: يحرّفون الكتاب عما هو عليه بألسنتهم معناه أن يعمدوا إلى اللفظة فيحرّفونها في حركات الإعراب تحريفاً يتغير به المعنى، وهذا كثير في لسان العرب فلا يبعد مثله في العبرانية . قال الرازي: ·كيف يمكن إدخال التحريف في التوراة مع شهرتها العظيمة بين الناس؟ الجواب: لعله صدر هذا العمل عن نفرٍ قليل. إلى أن قال: ولكن الأصوب هو أن الآيات الدالة على نبوة محمد كان يُحتاج فيها إلى تدقيق النظر وتأمل القلب، والقوم كانوا يوردون عليها الأسئلة المشوّشة والاعتراضات المظلمة، فكانت تصير تلك الدلائل مشتبهة على السامعين. واليهود كانوا يقولون مراد الله من هذه الآيات ما ذكرناه لا ما ذكرتم، فكان هذا المراد بالتحريف وبِلَيّ الألسنة، وهذا مثل ما أن المُحِق في زماننا إذا استدلّ بآية من كتاب الله، فالمبطِل يورد عليه الأسئلة والشبهات، ويقول: ليس مراد الله ما ذكرت. فكذا في هذه الصورة (الرازي في تفسيره لآل عمران 3:78).
وقال في محل آخر: التحريف يحتمل التأويل الباطل، ويحتمل تغيير اللفظ. وقد بيّنا في ما تقدَّم أن الأول أوْلَى، لأن الكتاب المنقول بالتواتر لا يتأتَّى تغيير اللفظ، فكل عاقل يرى أن تغيير الكتاب المقدس كان متعذراً لأنه كان متداولاً بين أناس كثيرين مختلفي المِلل والنحل، فكان في أيدي اليهود الذين كانوا مشتَّتين في أنحاء الدنيا، بل كان منتشراً بين المسيحيين في أقاصي الأرض. فلو فُرض أن اليهود الذين كانوا في بلاد العرب غيّروا شيئاً من أقوال الله، لقاومهم باقي اليهود، بل كان المسيحيون يتصدّون لهم بالتشنيع والتقريع. ولكن لم يحصل شيء من هذا. ومع ذلك فلا ينكر أن اليهود كانوا يمتحنون محمداً ويخفون أحكام شريعتهم عليه ليروا إذا كان عارفاً أو جاهلاً بها، والدليل على ذلك ما رواه المفسرون، وهو أن شريفاً من يهود خيبر زنى بشريفة، وكانا محصَّنين، فكرهوا رجمهما، فأرسلوهما إلى محمد، ووضعوا له وسادة فجلس عليها، ثم قال: ·ائتوني بالتوراة فأُتي بها، فنزع الوسادة من تحته ووضع التوراة عليها وقال: ·آمنت بك وبمن أنزلك . ثم قال: ·ائتوني بأعلمكم فأُتي بشاب قال محمد له: ·أنشدك الله الذي لا إله إلا هو، الذي فلق البحر لموسى، ورفع فوقكم الطور، وأنجاكم وأغرق آل فرعون، والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه، هل تجدون فيه الرجم على من أحصن؟ قال: ·نعم . فأمر محمد بالزانيين فرُجما عند باب المسجد.
وفي رواية أنهم لما حكّموا محمداً دعاهم بالتوراة، وجلس حَبْرٌ منهم يتلوها، وقد وضع يده على آية الرجم، فضرب عبد الله بن سلام يد الحَبْر، ثم قال: هذه يا نبي الله آية الرجم، يأبى أن يتلوها عليك. فقال لهم محمد: وَيْحكم يا معشر اليهود! ما دعاكم إلى تَرْك حكم الله وهو في أيديكم؟ وقال محمد: فأنا أول من أحيي أمر الله وكتابه وأعمل به، ثم أمر بهما فرُجما عند باب المسجد (ابن كثير في تفسيره للمائدة 5:43 ، وسنن أبي داود حديث رقم 4449). فمن هنا يُرى أن القارئ أخفى بيده شريعة الرَّجْم المدوَّنة في التوراة (لاويين 20:2 10 وتثنية 22:23 ، 24) ولكنه لم يقل إن تلك العبارة كانت مشطوبة أو محذوفة من التوراة، ونحن نعرف أنها باقية إلى يومنا هذا. فينتج مما تقدَّم أنه:
(1) لم يجسر أحد على تحريف الكتاب المقدس أو تغييره، بل حافظ عليه أهل الكتاب وكانوا يتباهون به، وإنما كانوا يُلبسون بعض الحقائق على محمد، أو يكتمونها، أو يفسرونها حسب أغراضهم في أثناء مجادلاتهم أو امتحانهم له، كما يُعلَم ذلك من أسباب النزول الذي ألَّفه الواحدي أو السيوطي.
(2) لم يقُل محمد ولا غيره إن الكتاب المقدس ضاع أو فُقِد أو تغيَّر، والدليل على ذلك أن محمداً وضع التوراة على الوسادة، وقال لها:· آمنت بك وبمن أنزلك . وهذا يعني وجود توراة شهد محمد بسلطانها وبصحّة ما جاء بها'>
(إنا أنزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) الحجر 9.
تنزيل الذكر ، قضية إيمانية لا تمس .
أما قصة ( حفظ الذكر) من الضياع ، والتي يقول بها أيضا كل مؤمن بالوحي السماوي، فتلك قصة أخرى عند أهل الذكر أنفسهم في كيفية حفظهم له ، ومدى هذا احفظ؛ ومطابقته للنص الأصلي المنزل .
وبحثنا هذا بحث عملي تاريخي على هامش عقيدة الوحي والتنزيل.
يؤمن المسلم بان النص الأصلي الذي فاه به الرسول منزل ؛ أما ما جمعه الجامعون ، على أيام عثمان ، بعد تطورات دامت ثلاثين سنة ، فلا يقطع بصحته إلا بعد دراسة قصته.
يستفتح أهل القران على أهل التوراة والإنجيل بان القران حفظ بمعجزة سالما كما نزل على (النبي الأمي ) ، ويستعلون عليهم متهمين إياهم بتحريف التوراة والإنجيل بينما هم قد حافظوا على صحة نقل القران ، ، وسلامة حفظه : (آنا أنزلنا الذكر وآنا له لحافظون) : هذه نبوة عن حفظ القران ، وفي تواتر نقله سالما عن الرسول معجزة تؤيد تلك النبوة .
ومن روايات السلف الصالح ، الواردة في الصحاح ، عن المبادئ الأربعة التي استنها الرسول لامته في قراءة القران ، وعن قصة جمع القران في إصداراته الثلاثة على أيام أبو بكر ، وعثمان ، والحجاج ، تفوح شبهات قد يحار فيها المؤمن والمؤرخ معا .
نجد في القران المكي هذه الآية : ( وإذا بدلنا آية مكان آية ، والله اعلم بما ينزل ، قالوا: إنما أنت مفترٍ ! – بل أكثرهم لا يعلمون. قل: نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا ، وهدى وبشرى للمسلمين) النحل 101 –102) ؛ وقد جمع فيها التنزيل إلى التبديل ، وقرن التبديل بالتنزيل : يرد تهمة التعلم من بشر (103) ، ولا يرد تهمة التبديل بل يجعله من روح القدس مثل التنزيل .
( قالوا إنما أنت مفترٍ أي وجدوا مدخلا للطعن فطعنوا ، وكانوا يقولون : ان محمد يسخر من أصحابه ، يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غدا فيأتيهم بما هو أهون ) الزمخشري .
والتخفيف سنة قرآنية يقو بها مرارا ويشرعها كمبدأ في سورة النساء : (يريد الله ان يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ) 25-27: ( قال الكفرة : إنما أنت مفتر، متقول على الله : تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهي عنه ) البيضاوي .
ونجد في القران المدني هذه الآية : ( ما ننسخ من آية ، أو ننسها ، نأت بخير منها أو مثلها : ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ؟) بقرة 106 فالنسخ - بحسب القراءة – منسوب إلى الله أو إلى جبريل أو إلى النبي .
قال البيضاوي : ( نزلت لما قال المشركون أو اليهود : الا ترون محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه.. ونسخ الآية بيان انتهاء القيد بقراءتها أو الحكم المستفاد منها أو بهما جميعا… وإنساؤها ، إذهابها عن القلوب) .
فالقران يعترف في النسخ في بعض آياته ؛ والحديث كما سترى يروي بان عثمان اسقط المنسوخ ، ومع ذلك فالأمة تأخذ إلى اليوم بعقيدة الناسخ والمنسوخ، وتالف الكتب لبيان ذلك .
ومن غريب الناسخ والمنسوخ ( ما نسخ تلاوته وحكمه معا . قالت عائشة :( كان فيما انزل عشر رضعات معلومات فنسخن بخمس معلومات ، فتوفى رسول الله وهن مما يقرأ من القران). رواه الشيخان . وقد تكلموا في قولها( وهن مما يقرأ من القران) قال الاشعري : نزلت ثم رفعت . وقال مكي : هذا المثال فيه المنسوخ غير متلو والناسخ أيضا غير متلو. ولا اعلم له نظيرا . وقال السيوطي في إتقانه : والنسخ مما خص الله به هذه الأمة لحكم منها التيسير . وقد اجمع المسلمون على جوازه وأنكره اليهود ظنا منهم انه بداء. واختلف العلماء فقيل: لا ينسخ القران إلا بقران كقوله (نأت بخير منها أو مثلها) . وقيل : بل ينسخ القران بالسنة لأنها أيضا من عند الله . بهذا اظهر السيوطي للقران ميزتان : الأولى النسخ ؛ والثانية نسخ القران بالسنة. وينكر هذا أهل الكتاب .
وآية التبديل (النحل 101) أثارت الشكوك عند المشركين ؛ وآية النسخ (البقرة106) أثارت التساؤل حتى الكفر ) عند لمسلمين أنفسهم : ( أم تريدون ان تسألوا رسولكم كما سل موسى من قبل ، ومن يتبدل الكفر بالايمان فقد ضل سوء السبيل) البقرة 108 ؛ لقد حذرهم من تشكيك اليهود لهم في التبديل والنسخ ونسيان القران (109) ، وحسم التساؤل فيه والسؤال عنه بكلمة ذهبت مبدأ في التنزيل القراني .
ونجد في القران المكي والمدني معا الإقرار المتواتر بنسيان القران. ومما يؤيد ظاهرة نسيان النبي للوحي منذ مطلع بعثته هذا القول : ( سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله) الاعلى 6-7 . وقد قال الطبري في ذلك : اخبر انه ينسي نبيه منه ما شاء : فالذي ذهب منه هو الذي استثناه اله . وظلت هذه الظاهرة عالقة بالنبي طيلة العهد بمكة ، ففي سورة الكهف : ( واذكر ربك إذا نسيت، وقل عسى ان يهدني ربي لأقرب من هذا رشدا ) 24 ؛
وفي العهد المدني يقرر بأن النسيان يعرض للنبي ، وقد يفعله الله فيه : فنسيان الوحي ظاهرية بشرية نبوية إلهية في القران . راجع تفسير الطبري لآية البقرة .106 . ويأتي الحديث فيبين لنا هذه الظاهرة الغريبة بالأمثال ويصف كيفيتها ومداها . نقل الطبري عن قتادة : ( كان ينسخ الآية بالآية بعدها ، ويقرأ نبي الله . الآية أو اكثر من ذلك ثم تنسى وترفع) .
فمن الثابت اذن ( ان النبي أقرئ قرانا ثم نسيه كما انه من الثابت أيضا ان الله انزل أمورا من القران ثم رفعها .
وقد روى في الأخبار الصحاح أيضا بعض من القران الذي رفع: عن انس : ان أولئك السبعين من الأنصار الذين قتلوا ببئر معونة قرأنا بهم وفيهم كتابا ( بلغوا عنا قومنا آنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ! ) ثم ان ذلك رفع .
ويستنتج الطبري من الأخبار والأحاديث المتواترة عن نسيان النبي للوحي ، ورفع الله بعض ما انزل في القران فيقول : وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بإحصائها الكتاب.
فإذا كان النبي ذاته قد ينسى ما انزل اليه ، فكم بالأحرى القراء الذين لم يكونوا أنبياء معصومين ؟ جاء ان ابا موسى الاشعري قال لخمسماية من القراء بالبصرة : ( إنا كنا نقرأ سورة بطول السهم وحدها ، أما الآن فقد نسيتها ما عدا بعض آيات منها.
وهناك أيضا ظاهرة غريبة فريدة يمتاز بها التنزيل القرآني ، ولا يقول بها الكتاب ، ولا الزبور ، ولا النبيون ولا الحكمة ولا الإنجيل، الا وهي إمكانية تدخل الشيطان في تحريف وافساد الوحي والتنزيل.
قال الجلالان في حديث الغرانيق : ( قرأ النبي في سورة النجم بمجلس من قريش بعد (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى) بإلقاء الشيطان على لسانه من غير علمه به . . ( تلك الغرانيق العلا وان شفاعتهن لترتجى) ) ففرحوا بذلك . ثم اخبره جبريل بم ألقاه الشيطان على لسانه من ذلك فحزن . فسلي بآية الحج 52 – أخرجه البخاري عن ابن عباس أورده ابن إسحاق في السيرة ؛ وزاد في (أسباب النزول) : كثرة الطرق تدل على ان للقصة أصلا .
وقد يكون للقصة اصل ، قد تكون مدسوسة . وانما لمشكل المحرج ما ورد في سورة الحج تبريرا للقصة . : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي الا إذا تمنى (قرأ) ألقى الشيطان في أمنيته . فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته، والله عليم حكيم ، ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض ) .
فهذه الآية تؤكد إلقاء الشيطان في قراءة النبي ما ليس من القران !. وتؤكد أيضا ان هذا الدس الشيطاني قد جرى لمحمد ، مثلا في سورة النجم ؛ ومما يزيد الامر خطورة ان النبي لم ينتبه اليه ولم يشعر به حتى اخبره جبريل .
وتؤكد كذلك ، تعزية لمحمد ، ان هذا السهو ، وهذا التدخل الشيطاني اللاشعوري في الوحي قد حدث لسائر الرسل والأنبياء : (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي الا إذا تمنى (قرأ) ألقى الشيطان في أمنيته ). فالقضية اخطر من إمكانية ، بل هي واقع تاريخي يسجله القران على كل الأنبياء والرسل !.
وهذا الاذن الرباني الغريب بالسماح للشيطان ، بتحريف الوحي وإفساده أحيانا ، يدعمه سبب اغرب وأحرج (ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض) أتسمح فتنة المنافقين بتحريف الوحي ، ولو لفترة ؟ وهل هذا السماح الذي بعده (يحكم الله آياته ) يزيد في الأعجاز لافحام الذين في قلوبهم مرض ؟ - الراسخون في العلم يقولون : آمنا ، كل من عند ربنا) آل عمران 7.
وقد يتخذ إبليس في فتنة الأنبياء عن التنزيل الحق وتبليغه أعوانا من الناس كما جرى لمحمد ، في فتنته عن الوحي وفي فتنته بهجرة إلى الشام ارض الأنبياء :
( وان كادوا ليفتنوك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره ، واذا لاتخذوك خليلا . ولولا ان ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا . – سنة من قد أرسلنا من قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتا تحويلا ) الإسراء 73-77. وعن ابن عباس : كادوا ليفتنوك ، ليستفزوك . لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا : لقد هممت ان تميل إليهم شيئا قليلا ). قال البيضاوي : والمعنى انهم قاربوا بمبالغتهم ان يوقعوك في الفتنة بالاستنزال ، عن الذي أوحينا إليك ، من الأحكام ، لتفتري علينا غير ما أوحينا إليك . وقد قاربت ان تميل إلى اتباع مرادهم . لكن ادركتك عصمتنا.
ألم تتأخر بعض الشيء في مثل هذه المواقف التي يذكرها القران بصراحة ؟
ويزيد الأمر غرابة واستغرابا ان الله اذن في فتنة جميع الأنبياء في الوحي والسيرة آنا بعد آخر : (سنة من قد أرسلنا من قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتا تحويلا ) : أيسمح الله بفتنة أنبيائه لفتنة خلقه ؟ ! تلك سنة الله في رسله يفتن ما يشاء ويعصم متى يشاء!!.
وتبلغ الفتنة إلى العجلة في القران . ويتأسى محمد أيضا في ذلك بمثل الرسل ، وجدهم الأول آدم : ( ولا تعجل بالقران من قبل ان يقضي إليك وحيه ، وقل : ربي زدني علما . ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ! ) طه114. يطلب النبي زيادة العلم بالوحي، والقران حتى لا يعجل بتنزيله وحفظه وقراءته ، ويتأسى بمثل آدم الذي نزل عليه الوحي ، فأنساه إياه الشيطان ، وافسده عليه ، وأغرى آدم وأزله . ولذلك علم القران محمد وأمته الاستعاذة من الشيطان عند قراءة القران : ( فإذا قرأت القران فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ) نحل 98 ؛ جاء تعليم الاستعاذة بمناسبة التصريح بتبديل آية مكان آية ؛ وهذا يؤيد ما ورد في سورة الحج52 .
انه لأمر غريب ، وأيم الحق ، ان يأمر القران محمدا وأمته بالاستعاذة من الشيطان الرجيم ، قبل الاستفتاح باسم الله الرحمن الرحيم .
اك واقع النبي في تنزيل القران .
وهذا واقع الأمة في قراءته ، على زمن النبي وبعده ، قبل ان جمع عثمان المصحف الأميري .
استن النبي العربي لامته مبادئ أربعة لتلاوة القران قد تكون صيغا متنوعة لحديث واحد : ( انزل القران على سبعة أحرف). وقد عمل الصحابة والامة بهذه الرخصة أو الرخص نحوا من نصف قرن قبل ان يجمع عثمان الأمة على قراءة القران بحرف واحد ، ولغة واحدة ، وقراءة واحدة في مصحف واحد، هو المصحف العثماني الذي لم يبقى غيره .
وحديث نزول القران على سبعة أحرف شائع متواتر نقلته جميع كتب الحديث وجميع كتب التفسير : ( انزل القران على سبعة أحرف) ويزيد بعضهم (فاقرأوا ما تيسر منها) . ويزيد بعضهم (كلها شاف كاف آيها قرأت أصبت فمن قرأ منها حرفاً فهو كما قرأ فأيما حرف قرأوا فقد أصابوا 000 كلها شاف كاف ما لم يختم آية عذاب برحمة ،آو آية رحمة بعذاب كقوله : هلم وتعال. راجع: الطبري 1/20-45 .
بحسب هذا الحديث كان النزول نفسه على سبعة أحرف . وهناك صيغة أخرى تجعل قراءة القران على سبعة أحرف ، وهي ذات مغزى : ( ان الله امرني ان أقرأ القران على سبعة أحرف) فهي تعني انه نزل على حرف وقرئ على سبعة . وسواء جاء الحديث بالصيغة الأولى أم الأخرى فهو حديث ذو شؤون وشجون .
والأخبار ، عن اختلاف الصحابة في زمن النبي على قراءة القران بنصوص مختلفة، متواترة عديدة : نقتصر منها على بعضها .
نقل الطبري عن زيد بن ارقم : ( جاء رجل إلى رسول الله فقال: أقرأني عبد الله بن مسعود ، أقرأنيها زيد وأقرأنيها ابي بن كعب فاختلف قراءتهم : فبقراءة آيهم آخذ؟ قال، فسكت رسول، الله وعلي إلى جانبه،فقال علي: ليقرأ كل إنسان كما علم ، كل حسن جميل. الطبري 1/24.
في حديث أخرجه الستة عن الزهري وغيره (انهما سمعا عمر بن الخطاب يقول: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله 00 فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنها رسول الله . فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلما سلم لببته بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرؤها ؟ قال أقرأنيها رسول الله . فقلت : كذبت ! فوالله ان رسول الله . لهو أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرؤها . فانطلقت به اقوده إلى رسول الله فقلت : يا رسول الله سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حرف لم تقرئنيها ، وأنت أقرأتني سورة الفرقان . فقال رسول الله أرسله يا عمر فقال: أقرأ يا هشام. فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرؤها فقال رسول الله هكذا أنزلت ! ثم قال رسول الله أقرأ يا عمر فقرأت القراءة التي أقرأني رسول الله . فقال رسول الله هكذا أنزلت. ثم قال رسول الله : (ان هذا القران انزل على سبعة أتحرف فاقرأوا ما تيسر منه) . راجع الطبري 1/24 وابن حجر في الفتح 12/248 والبخاري 8/215 و3/226 والخصومات 2/61 واستتابة المرتدين 4/198 وجامع الترمذي 11/60 وسنن النسائي 1/149 شرح صحيح مسلم للنووي 6/99.
سؤال: لو ان الاختلاف الواقع في القران هو اختلاف فقط في الألفاظ دون المعاني ، فلماذا فكر ابن الخطاب ان يساور ابن حكيم أثناء صلاتها سمعه يقرأ القران على أحرف كثيرة؟.
ان عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم كلاهما قرشي من قبيلة واحدة ذو لهجة واحدة مع هذا اختلفت قرأتهما للقران ،فهل يعقل بان يكون هذا الاختلاف هو اختلاف في الألفاظ دون المعاني؟؟.
هذا الحديث يبين ان الاختلاف في النص القرآني بلغ مبلغاً كبيراً كاد منه عمر ان يقتل صاحبه؛ ويشهد ان الاختلاف في القراءة ، ليس فقط من القراء ، بل هو أيضا من النبي نفسه الذي ثبت قراءتين بأحرف متعددة لنص واحد!.
لقد أدخلت هذه التوسعة النبوية في القراءات والأحرف المتعددة والمختلفة الشك إلى نفس عمر بن الخطاب ( قرأ رجل عند عمر بن الخطاب فغير عليه. فقال: لقد قرأت على رسول الله فلم يغير علي. قال: فاختصما عند النبي . فقال : يا رسول الله ،آلم تقرئني آية كذا وكذا؟ قال: بلى قال: فوقع في صدر عمر شئ . (الشك) فعرف رسول الله ذلك في وجهه ، فضرب صدره وقال : ابعد شيطاناً - قالها ثلاثة مرات- ثم قال : يا عمر ، ان القران كله صواب ما لم تجعل رحمة عذاباً آو عذاباً رحمة . راجع الطبري 1/25.
هنا يذهب النبي في التوسعة في قراءة القران إلى أقصى مداها يوسع ما وسعه في اختلاف الألفاظ والنصوص، ما لم تؤدي إلى تناقض في المعاني . وهذه التوسعة توقع عمر في شك منها، يكون معه بحاجة إلى طرد الشيطان من صدره ثلاثاً.
وقد ساور الشك والارتياب من هذه التوسعة في القراءة بأحرف مختلفة الصحابي ابي بن كعب اكثر من مرة .
وقد روى عنه قال: روى مسلم بمسنده عن ابي بن كعب قال: كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعاً على رسول الله فقلت: ان هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل الآخر وقرأ سوى قراءة صاحبه فأمرهما رسول الله فقرآ، فحسن النبي شانهما ، فاسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية فلما رأى رسول الله ما قد غشيني ضرب في صدري ففضت عرقاً ، كأنما انظر إلى الله فقال لي: يا ابي، أرسل آلي ان اقرأ القران على حرف فرددت إليه، ان هون على أمتي، فرد آلي الثانية: اقرأه على حرفين، فرددت إليه ان هون على أمتي، فرد آلي الثالثة: اقرأه على سبعة أتحرف. راجع صحيح مسلم 2/561-562 وصحيح مسلم بشرح النووي 6/102-103 مسند احمد 5/127 و148 وتفسير الطبري 1/46-38 .
عن آبى بن كعب قال: دخلت المسجد فصليت فقرأت النحل . ثم جاء رجل فقرأها خلاف قراءتنا ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه فدخل نفسي من الشك والتكذيب اشد ما كنت في الجاهلية . فأخذت بأيدهما فأتيت بهما النبي . فقلت: يا رسول الله استقرئ هذين . فقرأ أحدهما ، فقال: أصبت . ثم استقرئ الأخر فقال :أصبت فدخل قلبي اشد مما كان في الجاهلية من الشك والتكذيب . فضرب رسول الله صدري وقال: أعاذك الله من الشك واخسأ عنك الشيطان. راجع الطبري 1/ 38.
ووصل الشك في تلك التوسعة النبوية إلى كُتاب الوحي أنفسهم، فقد اخبر سعيد بن المسيب : ان الذي ذكر الله ( إنما يعلمه بشر) النحل إنما افتتن انه كان يكتب الوحي ، فكان يملي عليه رسول الله ( سميع عليم آو عزيز حكيم ) آو غير ذلك من خواتم الآية . ثم يشتغل عنه رسول الله وهو على الوحي ، فيستفهم رسول الله (العزيز حكيم آو سميع عليم)؟ فيقول له رسول الله : آي ذلك كتبت فهو كذلك. راجع الطبري 1/54.
عن عبد الله قال: أقرأني رسول الله سورة حم .ورحت إلى المسجد عشية فجلس آلي رهط. فقلت لرجل من الرهط اقرأ علي، فإذا هو يقرأ حروفاً لا أقرؤها . فقلت له: من اقرأكها؟ قال أقرأني رسول الله فانطلقنا إلى رسول الله وإذا عنده رجل، فقلت له: اختلفنا في قراءتنا فإذا وجه رسول الله قد تغير ، ووجد في نفسه حين ذكرت له الاختلاف ، فقال:إنما هلك من قبلكم الاختلاف. ثم اسر إلى علي فقال علي: ان رسول الله يأمركم ان يقرأ كل رجل منكم كما علم.فانطلقنا وكل رجل منا يقرأ حروفاً لا يقرؤها صاحبه. راجع المستدرك 223- 224 . وراجع صحيح البخاري بحاشية السدي باب فضائل القران3/237 وفتح الباري 9/80-81.
الى هذا الحد وصلت الحالة في زمن النبي . وهو بنفسه يقر الاختلاف في ألفاظ القران ، حتى جاء الحديث المتواتر يكرس الوضع ويجعله مخرجا علويا بحديث ( الأحرف السبعة)
سبعة نصوص مختلفة بمعنى واحد
كما انزل الإنجيل على أربعة أحرف { أربعة بشائر} مختلفة الألفاظ متفقة المعاني. هكذا انزل القران على سبعة أحرف مختلفة الألفاظ متفقة المعاني .
لقد اختلفوا في نوع الاختلاف بين هذه الأحرف السبعة اهو في الألفاظ أم في المعاني؟.
قال بعضهم: هو في المعاني، بتنوعها إلى أمر وزجر وترغيب وترهيب وقصص ومثل، ونحو ذلك من الأقوال. راجع الطبري 1/47.
أما اكثر العلماء فهم على انه اختلاف الألفاظ ذاتها، واتفاق المعاني .
روى الأزهري عن أبي العباس انه سئل عن قوله على سبعة أتحرف؟ فقال: ما هي إلا اللغات.
وقال الأمام عبد الرحمن بن الجوزي : المراد بالحديث انزل القران على سبعة لغات .
وقد ذهب إلى هذا القول ابن الأثير في النهاية . وابن قتيبة فيتأويل مشاكل القران {الاختلاف نوعان :اختلاف تغاير ، واختلاف تضاد.فاختلاف التضاد لا يجوز. ولست واجده بحمد الله في شيء من القران. راجع تأويل مشاكل القران لابن قتيبة 31.
وشيخ المفسرين الطبري ، يرى ان ( اختلاف الأحرف السبعة هو اختلاف الألفاظ باتفاق المعاني . طبري 1/48.
يبدأ الطبري عرضه الطويل بقوله : ان القراءة بالأحرف السبعة لم تكن أمر إيجاب وفرض بل كانت أمر إباحة ورخصة طبري 1/64.
وقال{ ان الأحرف الستة الآخر أسقطها عثمان ومنع من تلاوتها ولا حاجة بنا إلى معرفتها} طبري 1/66.
لان الحكمة في جمع الناس على حرف واحد ,والصواب ما فعل عثمان} طبري 1/63. بعد ان وصلت الحالة إلى أقصاها من الاختلاف والاقتتال !.
ويلتفت الطبري إلى اعتراض بديهي فيقول{ فان قال قائل : ما بال الأحرف الستة غير موجودة ان كان أمر في ذلك على ما وصفت وقد اقرهن رسول الله وأمر بالقراءة بهن الأمة وهي مأمورة بحفظها فذلك تضييع ما قد أمروا بحفظه؟ أما ما القصة في ذلك؟ قيل له: لم تُنسخ فترفع ولا ضيعتها الأمة ولكن الأمة أمرت بحفظ القرآن وخيرت في قراءته وحفظه بأي تلك الأحرف شاءت. فرأت- لعلة من العلل أوجبت عليها الثبات على حرف واحد- قراءته بحرف واحد ورفض القراءة بالأحلاف الستة الباقية} طبري 1/59.
فأتلفت واندثرت. وكانت العلة الموجبة تفاقم الخلاف على القراءة بين أهل الأمصار, وتكفيرهم بعضهم بعضاً في القراءة والاقتتال على أفضلية القراءة من مكة بحضرة الخليفة إلى الثغور في معارك القتال} طبري 1/62.
فلم يسلم آلا الحرف الذي أراده عثمان وان يكن عثمان وجماعة غير معصومين في تفضيل الحرف الأفضل المعجز الذي انزل به القرآن!.
ويرد الطبري بعد تعريفه هذا للأحرف السبعة على اعتراض قوم مستشهدين بهذه الآية { أفلا يتدبرون القران, ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} نساء 82 أنها تقصد اختلاف المعاني والأحكام لا اختلاف الألفاظ والتعبير بدليل اختلاف الصحابة كل في قراءته وتصويب النبي لهم جميعاً. طبري 1/48.
ويرد على من قال أنها لغات سبع في حرف واحد في كلمة واحدة { بأنها باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني } 1/57.
ويرد فيهم الأحرف السبعة أنها القراءات السبع الشائعة اليوم على المصحف العثماني,{ وان اختلاف القراءة في الرفع والجر والنصب ونقل حرف إلى آخر مع اتفاق الصورة , كما هي القراءة اليوم, ليس من الأحرف السبعة في شيء . وان المراء فيها لا يوجب كفراً} راجع طبري 1/65.
من الذين تابعوا الطبري في تفسيره ابو عبد الله الزنجاني, قال: {المراد بالأحرف السبعة اوجه من المعاني المتفقة , بالألفاظ المختلفة}. مما يجمعها سبعة نصوص مختلفة لقرآن واحد. وأبو جعفر النحاس في كتاب الناسخ والمنسوخ . قال {يُفهم من سلف الآمة وخيار الأئمة ان معنى نزول القرآن على سبعة أحرف من انه نزل بسبع لغات وأمر بقراءته على سبعة السن باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني }.
إذن تعدد نصوص القرآن, مع اتفاق المعاني،ناتج وواضح من حديث الأحرف السبعة؛ وبعض التبديل في المعاني والأحكام ظاهر من الناسخ والمنسوخ الذي أسقطه عثمان وما بقي من مصحفه !.
وبعد الطبري تضاربت الآراء وتعددت في فهم الحديث المذكور. فجاء السيوطي خاتمة المحققين فعقد في إتقانه فصلاً قيماً يعدد فيه تفاسيرهم المتضاربة . بدأ فأكد صحة الحديث بشهادة واحد وعشرين صحابيا ذكروه. وينقل خبر استفتاء شعبي آجراه الخليفة عثمان في المسجد فشهد جميع الحاضرين بصحته وهد هو علياً معهم على الإجماع عليه. ثم استهل تفسير الحديث بأغرب منه فقال: ليس المراد بالأحرف السبعة حقيقة العدد بل المراد التيسير والتسهيل والسعة .
وقال اختلف في معنى هذا الحديث على نحو أربعين قولاً 000وانه من المشكل الذي لا يدرى معناه. لان الحرف يصدق لغةً على حرف الهجاء وعلى الكلمة وعلى المعنى وعلى الجهة.
ويختصر ما جاء مطولاً في الطبري: ان المراد سبعة اوجه من المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة , نحو اقبل وتعال وهلم وعجل واسرع 000 والى هذا ذهب سفيان بن عينية وابن جرير الطبري وابن وهب وخلائق. ونسبه ابن عبد البر لاكثر العلماء. ويدل له ما أخرجه احمد والطبراني من حديث ابي بكرة ان جبريل قال { يا محمد أقرأ القران على حرف. فقال ميكائل استزده0000 حتى بلغ سبعة أتحرف. وقال كلٍ شاف كاف ما لم تخلط آية عذاب برحمة وآية رحمة بعذاب , نحو قولك: تعال واقبل وهلم واذهب واسرع وعجل . هذا اللفظ رواية احمد, وإسناده جيد. واخرج احمد والطبراني أيضا عن ابن مسعود نحوه. وعند ابي داود عن ابي بن كعب: قلت {سميعاً عليماً} آو {عزيزاً حكيماً} ما لم تخلط آية عذاب برحمة وآية رحمة بعذاب وعند احمد من حديث ابو هريرة {انزل القران على سبعة أتحرف مثل: عليماً حكيماً آو : غفوراً رحيماً. وعنده أيضا من حديث عمر بأن القران كله صواب ما لم تجعل مغفرةً عذاباً وعذاباً مغفرة. قال ابن عبد البر: إنما أراد بهذا ضرب المثل للحروف الذي نزل القران عليها, أنها معاني متفق مفهومها مختلف مسموعها , لا يكون في شيء منها معنى وضده ولا وجه يخالف معنى وجه خلافا ينفه ويضاده كالرحمة التي هي خلاف العذاب, وضده. ثم اسند عن ابي بكر انه كان يقرأ
{ كلما اضاء لهم مشوا فيه} مروا فيه سعوا فيه.وكان ابن مسعود يقرأ{ الذين آمنوا افطرونا } أمهلونا, أخرونا. وينقل الطبري مثلاً على تصرف انس بن مالك في قراءته, فقد قرأ {ان ناشئة الليل هي اشد وطئاً واصوب ميلاً }
( مزمل 6) فقال له بعضهم: يا آبا حمزة : إنما هي أقوم! فقال: أقوم واصوب وأهيأ واحد. طبري 1"/52.
وينقل السيوطي للحديث معنى آخر يعيد فيه نسبة الأحرف السبعة إلى أصحابها الأول: أنها سبع قراءات لسبعة من الصحابة: ابي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وآبى بن كعب . راجع أتفان 1/50.
وهذه القراءات كانت قبل إصدار عثمان النسخة الموحدة, فهي سبع نسخ مختلفة لقرآن واحد, فالسيوطي يزيد{ وقد ظن كثيراً من العوام ان المراد بها القراءات السبع المصحف العثماني وهو جهل قبيح} إتقان/51.
وهكذا بلغت التوسعة في قراءة القرآن على سبعة أتحرف مختلفة في ألفاظها ، مؤتلفة في معانيها، مداها البعيد، لا يحدها في زعمه، وامثالهم على زعمهم، سوى تناقض المعنى كالفرق بين الرحمة والعذاب. فقد كان يكفيهم في زمن الرسول وفي حضرته وبتأييد منه ان يحافظوا على سلامة المعنى دون سلامة الحرف والنص . ونحن نتساءل : كيف يتفق هذا الحديث النبوي! وهذا العمل الصحابي، مع معجزة حفظ القرآن ومعجزة أعجازه ؟؟.
وقد اتفق المسلمون على ان أصحاب النبي تماروا في هذه الأحرف، والنبي بين أظهرهم، فنهاهم عن ذلك والح في نهيهم . فلما توفى النبي استمر أصحابه يقرأون القران على هذه الأحرف السبعة ، كل يقرأ على الحرف الذي سمعه من النبي ، فأشدت الخلاف والمراء في ذلك حتى كادت تقع الفتنة بين الناس، ولا سيما في جيوش المسلمين .
فرفع الأمر إلى عثمان فجزع له واشفق . فجمع لهم المصحف الأمام وأذاعه في الأمصار أتمر بما عداه من المصاحف فمحي محواً. وعلى هذا محيت من الأحرف السبعة الأحرف الستة ولم يبقى آلا حرف واحد هو الذي نقرأه في مصحف عثمان. وهو حرف قريش. وهو الحرف الذي عادت فاختلف لهجات القراء فيه فمد بعضهم وقصر بعضهم، وفخم فريق ورقق فريق, ونقلت طائفة وأثبتت طائفة . ثم أورد الأستاذ ما ورد في الجزء الأول من تفسير الطبري لتأييد رأيه}.
وهكذا فحديث الأحرف السبعة التي تختلف بالألفاظ فتكون السنةً مختلفة ذات نصوص مختلفة يبعث أشكالا ضخماً على وحدة القران مع تعدد نصوصه إلى سبعة، وعلى صحة النص العثماني بعد إسقاط الحروف الستة، وعلى أفضلية أعجاز الحرف العثماني دون سواه . وهذا الأشكال الضخم تنبه له أدباء العصر . فكان أهون ما عندهم انهم نفوه آو كادوا. قال أحدهم : { والتوفيق بين هذه الأحاديث الكثيرة، التي تكاد تتفق في معناها ، وما ذكرنا من تفسير للأحرف السبعة عسير. ولكن لتفهم الأحاديث على آي وجه شاء الناس. أما الذي نعتقد ان من الخير فهمه هو عدم جواز هذا التبديل والتعديل في القران.
قال ابن حبان : اختلف أهل العلم في معنى الأحرف السبعة على خمسة وثلاثين قولا (فمنهم) من قال هي زجر وأمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال .
الثاني : حلال وحرام وأمر ونهي وزجر وخبر ما هو كائن بعد وأمثال .
الثالث : وعد ووعيد وحلال وحرام ومواعظ وأمثال واحتجاج.
الرابع : أمر ونهي وبشارة ونذارة وأخبار وأمثال .
الخامس : محكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ وخصوص وعموم وقصص .
السادس : أمر وزجر وترغيب وترهيب وجدل وقصص ومثل
السابع : أمر ونهي وجد وعلم وسر وظهر وبطن .
الثامن : ناسخ ومنسوخ ووعد ووعيد ورغم وتأديب وإنذار .
التاسع : حلال وحرام وافتتاح وأخبار وفضائل وعقوبات .
العاشر : أوامر وزواجر وأمثال وأنباء وعتب ووعظ وقصص
الحادي عشر : حلال وحرام وأمثال ومنصوص وقصص وإباحات .
الثاني عشر : ظهر وبطن وفرض وندب وخصوص وعموم وأمثال .
الثالث عشر : أمر ونهي ووعد ووعيد وإباحة وإرشاد واعتبار.
الرابع عشر : مقدم ومؤخر وفرائض وحدود ومواعظ ومتشابه وأمثال .
الخامس عشر : مقيس ومجمل ومقضى وندب وحتم وأمثال .
السادس عشر : أمر حتم وأمر ندب ونهي حتم ونهي ندب وأخبار وإباحات .
السابع عشر : أمر فرض ونهي حتم وأمر ندب ونهي مرشد ووعد ووعيد وقصص .
الثامن عشر : سبع جهات لا يتعداها الكلام لفظ خاص أريد به الخاص ولفظ عام أريد به العام ولفظ عام أريد به الخاص ولفظ خاص أريد به العام ولفظ يستغني بتنزيله عن تأويله ولفظ لا يعلم فقهه إلا العلماء ولفظ لا يعلم معناه إلا الراسخون التاسع عشر : إظهار الربوبية وإثبات الوحدانية وتعظيم الألوهية والتعبد لله ومجانية الإشراك والترغيب في الثواب والترهيب والعقاب .
العشرون : سبع لغات منها خمس في هوازن واثنتان لسائر العرب .
الحادي والعشرون : سبع لغات متفرقة لجميع العرب كل حرف منها لقبيلة مشهورة .
الثاني والعشرون : سبع لغات أربع لعجز هوازن سعد بن بكر وجشم بن بكر ونصر ابن معاوية وثلاث لقريش .
الثالث والعشرون : سبع لغات لقريش ولغة لليمن ولغة لجرهم ولغة لهوازن ولغة لقضاعة ولغة لتميم ولغة لطي .
الرابع والعشرون : لغة الكعبين كعب بن عمر وكعب بن لؤي ولهما سبع لغات.
الخامس والعشرون : اللغات المختلفة لإحياء في معنى واحد مثل هلم وهات وتعال وأقبل .
السادس والعشرون : سبع قراءات لسبعة من الصحابة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب رضي الله تعالى عنهم .
السابع والعشرون : همز إمالة وفتح وكسر وتفخيم ومد وقصر.
الثامن والعشرون : تصريف ومصادر وعروض وغريب وسجع ولغات مختلفة كلها في شئ واحد .
التاسع والعشرون : كلمة واحدة تعرب بسبعة أوجه حتى يكون المعنى واحدا وإن اختلف اللفظ فيها .
الثلاثون : أمهات الهجاء الألف والباء والجيم والدال والراء والسين والعين لأن عليها تدور جوامع كلام العرب .
الحادي والثلاثون : أنها في أسماء الرب مثل الغفور الرحيم السميع البصير العليم الحكيم .
الثاني والثلاثون : هي آية في صفات الذات ، وآية تفسيرها في آية أخرى ، وآية بيانها في السنة الصحيحة ، وآية في قصة الأنبياء والرسل ، وآية في خلق الأشياء ، وآية في وصف الجنة ، وآية في وصف النار .
الثالث والثلاثون : في وصف الصانع ، وآية في إثبات الوحدانية له وآية في إثبات صفاته وآية في إثبات رسله ، وآية في إثبات كتبه ، وآية في إثبات الإسلام ، وآية في نفي الكفر .
الرابع والثلاثون : سبع جهات من صفات الذات لله التي لا يقع عليها التكييف .
الخامس والثلاثون : الإيمان بالله ومجانبة الشرك وإثبات الأوامر ومجانية الزواجر والثبات على الإيمان ، وتحريم ما حرم الله وطاعة رسوله .
قال ابن حبان : فهذه خمسة وثلاثون قولا لأهل العلم واللغة في معنى إنزال القرآن على سبعة أحرف ، وهي أقاويل يشبه بعضها بعضا ، وكلها محتملة ويحتمل غيرها .
أخيرا هل تتماشى آية سورة النساء 82 : أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) . مع الأحرف السبع الذي انزل القران بها ؟.
هل نسخ القران التوراة الإنجيل
النسخ ميزة القران وحده في الناسخ والمنسوخ منه .
قال السيوطي في إتقانه 2: 22: (النسخ مما خص الله به هذه الأمة)!.
فالنسخ في القران من خصائص القران في أحكامه من الناسخ والمنسوخ.
اما فكرة نسخ القران للتوراة والإنجيل فهي غريبة عن القران ولا يقول بها على الإطلاق .
والنسخ يقع في العقيدة او الشريعة ؛ والعقيدة تسمى في القران الهدى ؛ والشريعة تسمى الدين.
والمبدأ العام في القران ان الهدى في التوراة والإنجيل والقران واحد ، لذلك يأمر القران نبيه ؛ ( أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة …أولئك الذين هدى الله ، فبهداهم اقتده) الأنعام 91. فلا نسخ في العقيدة ما بين القران والكتاب كله .
والمبدأ العام في القران أيضا ان الدين في التوراة والإنجيل والقران واحد، ولذلك يقول: ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا …. والذي أوحينا إليك_ وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى : ان أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) الشورى 13: فلا نسخ في الشريعة والدين ما بين توراة موسى وإنجيل عيسى وقران محمد. فمن أين جاءوا القوم ببدعة نسخ القران للتوراة والإنجيل ؟.
النسخ في لغة القران
ترد لفظة نسخ في أربع آيات قرآنية لا غير :
1 ) {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعلمون} الجاثية 29 .
الأمر هنا في هذه الآية يتعلق بملائكة الله الذين ينسخون أفعال البشر ليوم الدين .
2 ) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ . الأعراف 154 . الص صريح لا يحتاج الى تعليق .
3 ) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ والله عليم حكيم . الحج 52.
عن سعيد بن جبير قال: قرأ رسول الله بمكة النجم فلما بلغ هذا الموضع " أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى " قال فألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن ترتجى قالوا ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فسجد وسجدوا فأنزل الله عز وجل هذه الآية " وما أرسلنا من قبلك رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم " .
كان رسول الله قد اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبه وأحزنه ضلالهم فكان يتمنى هداهم فلما أنزل الله سورة النجم قال " أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى " ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الله الطواغيت فقال وإنهن لهن الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة وذلت بها ألسنتهم وتباشروا بها وقالوا إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه فلما بلغ رسول الله آخر النجم سجد وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلا كبيرا فرفع ملء كفه تراب فسجد عليه فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود لسجود رسول الله فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان في مسامع المشركين فاطمأنت أنفسهم لما ألقى الشيطان في أمنية رسول الله وحدثهم به الشيطان أن رسول الله قد قرأها في السورة فسجدوا لتعظيم آلهتهم ففشت تلك الكلمة في الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين عثمان بن مظعون وأصحابه وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم وصلوا مع رسول الله وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفه وحدثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة فأقبلوا سراعا وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم الله آياته وحفظه من القرية وقال الله " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم .
فالنسخ المذكور هنا هو اذن من خصائص القران في تنزيله ، ولا يعني نسخ كتاب بكتاب ، او شرع بشرع. والنسخ عند كل رسول ( او نبي) من قبل محمد يتعلق بنسخ ما يلقيه الشيطان في الوحي ، لا بأحكام الكتاب.
4 ) مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .البقرة 106 .
تلك هي آية النسخ الشهيرة . وهي صريحة وواضحة انها تحصر نسخ آية بآية في القران نفسه .
عن ابن عباس "ما ننسخ من آية" ما نبدل من آية وقال ابن جريج عن مجاهد "ما ننسخ من آية" أي ما نمحو من آية وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد "ما ننسخ من آية" قال نثبت خطها ونبدل حكمها .
عن الضحاك في قوله : "ما ننسخ من آية" ما ننسك وقال عطاء أما "ما ننسخ" فما نترك من القرآن . وقال السدى "ما ننسخ من آية" نسخها قبضها وقال ابن أبي حاتم: يعني قبضها رفعها مثل قوله "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة" وقوله "لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا" وقال ابن جرير "ما ننسخ من آية" ما ينقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيره وذلك أن يحول الحلال حراما والحرام حلالا والمباح محظورا والمحظور مباحا ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ.
وأصل النسخ من نسخ الكتاب وهو نقله من نسخة أخرى إلى غيرها فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله ونقل عبارة إلى غيرها وسواء نسخ حكمها أو خطها إذ هي في كلتا حالتيها منسوخة .
فالنسخ اذن من خصائص القران في تنزيله ، ولا علاقة له على الإطلاق بنسخ كتاب منزل بكتاب آخر ، أو بنسخ شرع منزل بشرع آخر!.
هذا هو الواقع القرآني في لغة النسخ . ان القران يحصر آية النسخ في آياته وأحكامه .
فالاستناد إلى آية النسخ للقول بنسخ كتاب بكتاب او شرع بشرع هو فرية على القران، والقران منها براء .
النسخ في علوم القران
يذكر السيوطي في ( الإتقان 2: 20-21) معاني النسخ، فيقول:
1) يرد النسخ )بمعنى الإزالة ، ومنه قوله : فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته ) الحج52.
2) وبمعنى التبديل ، ومنه : وإذا بدلنا آية مكان آية ، …. الآية نحل 101 .
3 ) وبمعنى التحويل ، كتناسخ المواريث من واحد إلى واحد.
4 ) وبمعنى النقل ، من موضع إلى موضع ومنه ( نسخت الكتاب) إذ نقلت ما فيه حاكيا للفظه وخطه … يشهد قوله تعالى: ( إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) … النسخ مما خص الله به هذه الأمة لحكم منها التيسير . وقد اجمع المسلمون على جوازه . وأنكره اليهود ظنا منهم انه بداءٍ .
في هذه المعاني كلها يحصر القران أنواع النسخ وأسماءه وأشكاله بنفسه، ولا تطال سواه .
القول بنسخ القران للتوراة والإنجيل ينقض القران نفسه
الكتاب في الثلاثة واح'>
1) القران يعلن وحدة الكتاب في التوراة والإنجيل والقران : (كان الناس أمة واحدة ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، وانزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) البقرة 212. فالكتاب واحد في التوراة والإنجيل والقران، فلا نسخ بينها.
والقران ينذر بعذاب النار من يكفر بأحد الكتب الثلاثة لأنها كلها الكتاب: ( الذين كذبوا بالكتاب ، وما أرسلنا به رسلنا ، فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل ، يسبحون في الحميم ، ثم في النار يسجرون) غافر .
2) التنزيل في الثلاثة واحد
( الله انزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يده، وانزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس ؛ وانزل الفرقان ) ال عمران.
فالكتب الثلاثة تنزيل الله ، فلا ينسخ بعضها بعضا ، بل ، في نظر القران ، يصدف بعضها بعضا وقفينا على آثرهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة . وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ، ومصدقا لما بين يديه من التوراة ، وهدى وموعظة للمتقين وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ( أي شاهدا له) المائدة 46 –51. فلكتاب الذي يصدق كتابا لا ينسخه!.
3) الإسلام في الثلاثة واحد
قل آمنا بالله وما انزل علينا وما انزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتى موسى وعيسى والنبيون من ربهم : لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون : ومن اتبع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) ال عمران .
فالإسلام في نظر القران ، واحد من إبراهيم إلى موسى إلى عيسى إلى محمد ؛ ولا دين عند الله غير هذا الإسلام التوراتي الإنجيلي القرآني . فهل يعقل بان ينسخ الإسلام نفسه بنفسه ؟.
4) ومن الإسلام الايمان بكتبه تعالى ورسله بلا تفريق
( يا ايها الذين آمنوا، آمنوا بالله ورسوله، والكتاب الذي انزل على رسوله ، والكتاب الذي انزل من قبل : ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فقد ضل ضلالا بعيدا ) النساء . والمسلمون مأمورون بالايمان بالكتاب كله . آل عمران . وهذا الايمان لا يضره اختلاف طرق العبادة : ( ليس البر ان تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ! ولكن البر من امن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والنبيين ) البقرة .
فالكتاب واحد ، والنبوة واحدة ، والإسلام واحد، والايمان واحد: فهل من نسخ مقبول معقول ، بعد هذا كله ، في نظر القران .
5) إعلان القران المتواتر انه تصديق الكتاب برهان ينفي النسخ .
وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِي .
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ . البقرة 89.
لَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ . البقرة 101.
َإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ .ال عمران 81 .
وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا .الانعام 92 .
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ .الاحقاف 12 .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ. البقرة 91.
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ . البقرة 97 .
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَ لْإِنْجِيلَ .ال عمران 3 .
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ .ال عمران 50 .
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ
النساء 47 .
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ لْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وهدى وموعظة للمتقين . المائدة 46.
وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ . المائدة 48 . مهيمنا عليه – أي شاهد عليه .
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ. فاطر 31 .
قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ .الأحقاف 30 .
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ.الصف 6.
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ .يونس 37 .
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ . يوسف 111.
فالقران تصديق الكتاب أي مطابق له : فكيف يتجاسر أحدهم ويزعم انه نسخه ؟!.
فالقول بان القران نسخ التوراة والإنجيل هو نقض لتعاليم القران كله .
وما يقول بذلك إلا جاهل بالقران او متجاهل لتعليمه .
صفة القران انه ( تصديق التوراة والإنجيل : والقول بالتصديق والنسخ نقيضان لا يتفقان .
فليس في القران تعليم لنسخ التوراة والإنجيل ؛ بل (تصديق الذي بين يديه) أي قبله . يونس 37 .
رابعا
القول بنسخ شرع القران لشرع التوراة والإنجيل ينقض القران.
في هذا الباب للقران ثلاثة مواقف . وفيها جميعا لا ذكر لنسخ شرع بشرع .
1) في الموقف الأول يعلن انه ينقل للعرب شرع الكتاب وسننه : شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ .42 الشورى 13 .
في هذه الآية ثلاثة تصاريح : الأول ان الشرع من نوح آلي إبراهيم إلى موسى الى عيسى إلى محمد هو واحد ؛ الثاني ان القران يشرع للعرب شرع الكتاب ؛ الثالث انه لا يصح تفريق في الشرع بين شرع إبراهيم وشرع موسى وشرع عيسى وشرع محمد. فالقران الذي يشرع للعرب شرع الكتاب لا ينسخ شرعه شرع الكتاب .
2) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . النساء 26 .
فسره الجلالين : " يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ : أي طرائق الأنبياء في التحليل والتحريم فتتبعوهم وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ .
فالقران الذي يهدي العرب ويبين لهم سنن (طرائق) الأنبياء الذين قبلهم في التحريم والتحليل ، كيف ندعي انه ينسخ شرائع الأنبياء في التحليل والتحريم ؟.
في الموقف الثاني يعلن القران استقلال كل أمة في شرعها .
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ. ال عمران 46.
وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ال عمران 46-49.
ولما فارق محمد قبلة اهل الكتاب جاء : وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شيء قدير .
قال العوفي عن ابن عباس "ولكل وجهة هو موليها" يعني بذلك أهل الأديان يقول لكل قبيلة قبلة يرضونها ووجهة الله حيث توجه المؤمنون وقال أبو العالبة: لليهودي وجهة هو موليها وللنصراني وجهة هو موليها وهداكم أنتم أيتها الأمة إلى القبلة.
لكل أمة إذن قبلة مستقلة : فلا تنسخ قبلة قبلة . والقبلة عنوان الدين .
ولما شرع الحج الى مكة ، بدل بيت المقدس ، جاء :
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ واحد فله اسلموا . الحج 34.
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ ) الحج 67.
تحويل الحج من بيت المقدس إلى مكة ليس تحويلا في الإسلام : فلا داعي للنزاع في الأمر . والمبدأ العام : لكل أمة مناسك وحج ، كما لكل أمة شرع مستقل .
فسره الجلالين : لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا شريعة هُمْ عاملون بها .
وهكذا يشرع القران جملة وتفصيلا استقلال الأمم الثلاثة في شرعها .وفي هذا الموقف أيضا لا ينسخ القران شرعا بشرع!.
وهكذا كيفما تأملنا القران في موقفه كلها لا نجد أساسا لشبهة النسخ لشرع بشرع آخر . والمقالة بذلك بدعة في الإسلام ، وفرية على القران .
القران في عرف القران
نطلب من القارئ الكريم قراءة هذا البحث بنزاهة واهتمام ، قبل الإسراع بالاتهام.
فما هو سر قوله ( وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله ) ؟ الأحقاف 10 .
أولا : الوحي والتنزيل تعبيران متشابهان في القران
يعلن القران العربي عن نفسه بأنه وحي من الله ، وتنزيل من رب العالمين .
ولكن الوحي والتنزيل من المتشابهات في القران ، فلا يقطع لفظهما بمعنى محدد فيهما.
1) الوحي في لغة القران
الوحي تعبير يطلقه القران على أشياء متفاوتة ، من الجماد ، إلى الحيوان إلى الإنسان، إلى الشيطان ، إلى الملاك ، إلى الله.
فقد أوحى الله إلى الأرض : (إذ زلزلت الأرض زلزالها ، وخرجت الأرض أثقالها ، وقال الإنسان : ما لها ؟ يومئذ تحدث أخبارها ، بان ربك أوحى لها ) الزلزال 1-5 .
( وأوحى ربك إلى النمل ) النمل 68.
( بل أوحى في كل سماء أمرها) فصلت 12 .
وفي تصرف أم موسى بأمر ابنها : ( وأوحينا إلى أم موسى ) القصص 116 و 159 ؛ يونس 87 ؛ طه 77 ؛ الشعراء 53 و46 . ويؤكد ( أوحينا إلى أم موسى ما يوحى) طه 38 – وهو مثل قوله لفظا : ( فأوحى إلى عبده ما أوحى ) النجم 10 .
وزكريا : (خرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم بان سبحوا بكرة وعشيا) مريم 11 .
(وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا : شياطين الأنس والجن ، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ) الأنعام 112 .
( وان الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ) الأنعام 121.
لذلك ، بسبب تلك المتشابهات في تعبير (الوحي) ، عندما يذكر القران العربي مرارا وتكرارا وحيه الى محمد ، لا نستبين طريقة الوحي إليه يقينا ،والتعبير لا يقطع بمعنى محدود .
2) التنزيل في لغة القران
ان تعبير (التنزيل ) أيضا متشابه في لغة القران .
( انزل من الماء ماء ) البقرة 22 ؛ قابل الرعد 19؛ ايراهيم 32 ؛ النحل 65 ؛ طه 53 ؛ السجدة 63 ؛ فاطر 27 ؛ الزمر 21 ) .
والتنزيل أيضا على الأرض : ( فإذا أنزلناعليها الماء) الحج 5.
( وأنزلنا عليكم المن ) البقرة 57 ؛ قابل الأعراف 159 .
( وأنزل لكم من الأنعام ) الزمر 6 : فالأنعام على أنواعها منزلة من الله.
( وأنزلنا الحديد ، فيه بأس شديد) الحديد 25 . كذلك الحديد منزل من الله.
( أنزل الله سكينته ) التوبة 9 و 41 ؛ الفتح 4 و 18 و26 .
( وانزل جنودا لم تروها ) التوبة 9 .
( وانزل الذين ظاهروهم من صياصيهم ) الأحزاب 26 .
وقد يكون للشياطين تنزيل : ( هل أنبئكم على من تنزل الشياطين ؟ تنزل على كل أفاك أثيم) الشعراء 220 –222 .
اما القران : ( ما تنزلت به الشياطين ) الشعراء 210 .
وقد يدس الشيطان تنزيله في تنزيل الله : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ، ولا نبي ، إلا إذا تمنى (قرأ) ألقى الشيطان في أمنيته ؛ فينسخ الله ما يلقي الشيطان ) الحج 56 .
لتلك الاعتبارات كلها ، والمتشابهات جميعها ، في تعبير (التنزيل) فعندما يذكر القران العربي تنزيله من الله ، لا نستبين طريقة تنزيل يقينا كقوله : ( الله الذي انزل الكتاب بالحق ، والميزان ) الشورى 17 . فالكتاب والميزان كلاهما تنزيل الله .
والقران نفسه ، الذي يؤكد مرارا وتكرارا تنزيله ، يجهل هو نفسه الطريقة : ( إنما انزل بعلم الله ) هود 14 ؛ فقد ( أنزله بعلمه ) النساء 156 .
اجل ان القران : ( تنزيل العزيز الرحيم ) يس 5 ، ( تنزيل من الرحمن الرحيم ) فصلت 2 ؛
( تنزيل من حكيم حميد ) فصلت 42 ؛ ( تنزيل من رب العالمين ) الواقعة 80 ؛ الحاقة 43 .
لكن طريقة التنزيل مجهولة او مطوية : ( إنما انزل بعلم الله ) الشعراء 192 ؛ النساء 156.
فالتشابه قائم في معنى التنزيل ، وفي طريقته : تلك هي النتيجة المحتومة الحاسمة لتلك القرائن القرآنية .
لذلك عندما يصرح : وانه لتنزيل رب العالمين …. وانه لفي زبر الأولين ) الشعراء 193-197
يصح ان نستنتج انه ان القران تنزيل من (زبر الأولين ) ، أي تفصيل الكتاب الذي قبله (يونس 37).
وعندما يؤكد : ( قل : نزله روح القدس من ربك بالحق ) النحل 102 لا يزل الإبهام في طريقة التنزيل ؛ ونتساءل ما سر قوله: (وانك لتلقي القران من لدن حكيم عليم) النمل 2 ؟ هل من جواب في تصريحه : ( فلا تكن في مرية من لقائه ، وجعلناه هدى لبني إسرائيل ، وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا) السجدة 23-24 ؟ - وبنو إسرائيل الذين يقتدى بهداهم ويستشهد بهم هم ( النصارى) ومن قوم موسى امة يهدون بالحق وبه يعدلون ) الأعراف 158.
فهل ( الحكيم العليم) الذي يلقي القران على محمد هو الذي ينوه به في تصريحه: (وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله ) الأحقاف 10 ؟.
ذاك التساؤل ، وذاك الاستنتاج ، هما حق ؛ لان معنى التنزيل وطريقة التنزيل في القران هما من المتشابه فيه .
تعابير متشابهة عن مصدر القران العربي
هناك أربعة تعابير متشابهة عن مصدر القران العربي ، لا ترفع الابهام والغموض في معنى تنزيله .
تعبير أول : ( فلا ! اقسم بمواقع النجوم – وانه لقسم لو تعلمون عظيم – انه لقران كريم، في كتاب مكنون ، لا يمسه الا المطهرون ، تنزيل من رب العالمين ) الواقعة 75-80 .
ان القران الكريم هو ( في كتاب مكنون) . ولكن أين هو هذا (الكتاب المكنون) ؟ يقول: ( لا يمسه الا المطهرون) ؛ والطهارة في لغة القران تتعلق بجسد الإنسان اكثر من قلبه؛ (والله يحب المطهرين) التوبة 109 ، ( ويحب المتطهرين ) البقرة 222 ؛ فالتعبير ليس كناية عن الملائكة ، بل عن البشر المتطهرين ، المطهرين . وقوله : ( تنزيل من رب العالمين ) يدل على ان ( الكتاب المكنون) قد نزل ، وليس بعد في السماء ؛ إنما هو على الأرض ، لكن لا يمسه إلا المطهرون .
تعبير ثان
( بل هو قران مجيد، في لوح محفوظ) البروج 21-22.
هاتان الآيتان هما ختام حديث طويل عن أهل الأخدود ، شهداء نجران النصارى ؛ وختام حديث مقتضب يقتصر على الإشارة: (هل أتاك حديث الجنود ، فرعون وثمود). فكفر أهل مكة بالحديثين : ( بل الذين كفروا في تكذيب) حينئذ يرد عليهم بقوله: ( والله من ورائهم محيط ) ؛ ثم بقوله : ( بل هو قران مجيد في لوح محفوظ) . فسياق الحديث كله انه لا يصح لأهل مكة التكذيب به لانه ( في لوح محفوظ) ؛ هذا الاستشهاد بمصدر الحديث برهان على ان اللوح المحفوظ الذي يحويه هو على الأرض ، لانه لا يعقل أن يحيلهم إلى لوح محفوظ في السماء ، لا سبيل لهم اليه.
وليس من قرينة في الآية ، ولا في السورة كلها ، تدل على ان هذا اللوح محفوظ في السماء .
تعبير ثالث
( لكل اجل كتاب ، يمحو الله ما يشاء ويثبت ؛ وعنده ام الكتاب) الرعد 40-41 .
قالوا : ( أم الكتاب : اصله الذي لا يتغير منه شيء، وهو ما كتبه في الأزل ( الجلالان) .
هذا تعريف متناقض : ففي الأزل ، قبل الخلق ، ليس الله بحاجة ان يكتب لذاته، وليس من خلق ليكتب لهم . وهب ان الله عنده (لوح محفوظ) هو (ام الكتاب) الذي ينزل منه على خلقه: فكيف يمحو الله منه ما يشاء ويثبت ، في كل اجل ، عند تنزيل الكتاب؟ هل يبدأ الله ويعيد؟ فليس ( عنده ام الكتاب) في السماء منذ الأزل ، لان قوله : (يمحو الله ما يشاء ويثبت) من الكتاب بحسب كل اجل ، دليل على كتاب على الأرض ، لا على كتاب في السماء منذ الأزل، لان ما كتبه الله في الأزل لا يتغير منه شيء : لذلك فان ( ام الكتاب ) أي اصله الذي بموجبه ( يمحو الله ما يشاء ويثبت ) هو قابل للتبديل والنسخ ، والمحو الإثبات ؛ وهذا لا يصح الا في كتاب الله الذي على الأرض . فلا صلة (لام الكتاب ) بالسماء ولا بالأزل ؛ لان هذا يقول بقديمين : الله وكتابه الأزلي.
هذا ما يتضح من قوله أيضا : ( حم والكتاب المبين : إنا جعلناه قرانا عربيا لعلكم تعقلون! وانه في أم الكتاب لدينا ، لعلي حكيم) الزخرف 1-4 .يقسم على طريقة أهل الكتاب ( بالكتاب المبين) انه (جعله قرانا عربيا) . فالقران العربي ( مجعول ) ؛ والكتاب المبين قد جعل قرانا عربيا .
وبما ان القران العربي (تصديق الذي بين يديه) (قبله) وتفصيل الكتاب ، يونس 37 ؛ فالكتاب المبين الذي جعل قرانا عربيا هو (الذي بين يديه) أي قبله . وفي قوله : ( وانه في ام الكتاب لدينا، لعلي حكيم) ، إن لفظ (لدينا) قد يكون في السماء ، او على الأرض، فلا يقطع بمعنى كان وجوده.
فالتصريح لا يعني الا انه جعل الكتاب المبين الذي عند أهل الكتاب قرانا عربيا .ولئلا يطالب بإبراز ( ام الكتاب ) استدرك فقال : ( انه لدينا، لعلي حكيم) ، مثل قوله : ( في لوح محفوظ) ، ومثل قوله : (لا يمسه إلا المطهرون) أي انه لا يحل للمشركين ان يلمسوه .
ولما أحرجوه قال ( وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله ) ان (مثل) القران عند اهل الكتاب ، لا في السماء .
تعبير رابع
كلا ! انها تذكرة ، فمن شاء ذكره ، في صحف مكرمة ، مرفوعة مطهرة ،بأيدي سفرة، كرام بررة) عبس 11-16.
في هذا الوصف ، التصريح بالقران واصله : انه ذكر من
(الصحف المكرمة) . يقابله قوله : ( وان هذا لفي الصحف الأولى ، صحف إبراهيم وموسى) الأعلى 18-19؛ ويؤكده قوله : ( او لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ) ص 133 : فان (الصحف المكرمة) هي التي بين أيدي أهل الكتاب ، (مرفوعة ) عن الناس ، (مطهرة) من المشركين ، او من غير المتطهرين من الكتابيين .
وهو جواب لهم : ( بل يريد كل امرئ ان يؤتى صحفا منشرة ! – كلا ، بل لا يخافون الآخرة ! كلا ، انه تذكرة ، فمن شاء ذكره ) المدثر 53-55 ؛ فهو يجيب بأن (الصحف ) المذكورة التي ينقل عنها الذكر هي ( مرفوعة مطهرة) . هذا جواب للمشركين . وجوابه لليهود الكتابيين ، المطالبين (بالبينة : رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ، فيها كتب قيمة ) ؛ فيجيب : ( وما تفرق الذين أوتوا الكتاب (اليهود) إلا من بعد ما جاءتهم البينة) البينة 1-4 .
فمحمد (يتلو صحفا مطهرة، فيها كتب قيمة) ، والقران العربي (تذكرة) منها. ودليل ثالث من اسم (السفرة) : فهو نقل حرفي للكلمة العبرية (سوفريم) أي كتبة الكتاب؛ ومهنتهم المقدسة تجعلهم (كراما بررة) .
فالقران العربي تذكرة من الصحف المكرمة ، المرفوعة عن تداول العامة ، المطهرة من مس غير المطهرين ؛ وهي موجودة بأيدي (سفرة بررة) . فلا شيء من تلك الأوصاف كلها يوحي بأنها في السماء ن منذ الأزل .
ان القران العربي (تذكرة) من الكتاب الموجود عند أهل الكتاب.
ويقطع غموض تلك التعابير الأربعة تصريحه : ( وشهد شاهدا من بني إسرائيل على مثله ) أحقاف 10: فمثل القران هو عند بني إسرائيل النصارى ، لان اليهود من بني إسرائيل هم مع المشركين (شر البرية) البينة 1 فلا يستشهد بهم .
التصاريح القرآنية
عن مصدر القران العربي
التصريح الأول :
ان القران من ( الصحف الأولى ) .
انه تصريح ثلاثي ، لا يدع مجالا للشك في مصدره: ( ان هذا (القران) لفي الصحف الأولى ، صحف إبراهيم وموسى ) الأعلى 18-19 : ( او لم يتنبأ بما في صحف موسى، وإبراهيم الذي وفيّ ) النجم 37-38 ؛ ( او لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى) طه133. ان واقع نسبة القران العربي للصحف الأولى ،هو نبأ عن ذلك ، وهو بينة عليه .
وهذا التصريح الثلاثي يأتي في سورة (النجم 37-38) بعد وصف رؤيا ملاك الوحي في نزلتين ، مما يدل على ان القران العربي وحي من الصحف الأولى .
يؤيده قوله : ( هذا نذير من النذر الأولى) النجم 56.
فالقران العربي هو ( من الصحف الأولى ) ، ( من النذر الأولى).
التصريح الثاني :
تنزيل رب العالمين هو في زبر الأولين .
التصريح الضخم الذي يعلن ان تنزيل رب العالمين في القران هو من زبر الأولين : ( وانه لتنزيل رب العالمين ، نزل به الروح الأمين ، بلسان عربي مبين ، على قلبك لتكون من المنذرين ن وانه لفي زبر الأولين : او لم يكن لهم آية ان يعلمه علماء بني إسرائيل) ؟ الشعراء 193-197.
بمقارنة هذا النص بتصريح (الشورى 52) يتضح ان الله أرسل إلى محمد (روحا من أمره) يصفه (بالروح الامين ) تمييزا عن غيره ، فخاطبه بلسان عربيا مبين ، وأمره بالايمان بالكتاب الذي جعله نورا يهدي به من يشاء من عباده .
وهذا الأمر بالايمان بالكتاب هو (تنزيل رب العالمين ، على قلبك لتكون من المنذرين).
والتنزيل الذي ينذر به ( هو في زبر الأولين) .
ويستشهد على ان القران العربي ( في زبر الأولين ) بشهادة (علماء بني إسرائيل ) أي (أولى العلم قائما بالقسط ) ، وهم النصارى من بني إسرائيل ، ( ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) الأعراف 158 قابل الصف 14 . فشهادة هؤلاء النصارى بان تنزيل رب العالمين في القران العربي ، هو من ( زبر الأولين) أي ( كتبهم كالتوراة والإنجيل) هي (آيه لهم) على صحة دعوة محمد بالقران العربي.
وهم يستطيعون ان يشهدوا على مطابقة القران العربي (للمثل ) الذي عندهم ، بين أيديهم ؛ لا لكتاب في السماء ، ما من سبيل لهم للوصول اليه .
فالقران العربي ينقل للعرب تنزيل رب العالمين من (زبر الأولين)، كما أمره الروح الأمين ، بلسان عربي مبين . هذا مصدره ، ومصدر تنزيله.
التصريح الثالث :
إمامة الكتاب للقران العربي
التصريح مزدوج في إمامة الكتاب للقران العربي : ( ومن قبله كتاب موسى إمام ورحمة : وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا) الأحقاف 12 . ومن قبله أيضا (الكتاب المنير) الذي يجادل المشركين بعلمه وهداه (لقمان 20 ؛ فاطر 25 ؛ الحج 8 ).
إن إمامة الكتاب، التوراة والإنجيل ، للقران العربي ، كاملة فلا يختلف عنه إلا (باللسان العربي) .
ويقتصر دور القران العربي على التصديق ( لسانا عربيا ) : هذه هي حاله. فالكتاب الذي عند أهل الكتاب هو مصدر القران: (وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله ) الأحقاف 10.
التصريح الرابع:
أشراف أئمة الكتاب على تعريبه بالقران . يقول : ( ولقد آتينا موسى الكتاب : فلا تكن في مرية من لقائه ؛ وجعلناه هدى لنبي إسرائيل ؛ وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا) السجدة 23-24.
ان الله جعل الكتاب هدى لبني إسرائيل ؛ وجعل منهم أئمة يهدون بأمره تعالى الى هدى الكتاب ؛ فما على محمد ان يشك في لقائه الكتاب ، بواسطتهم .
وهؤلاء الأئمة هم ( الراسخون في العلم ) ، من ( اولي العلم قائما بالقسط) أي النصارى من بني إسرائيل) الأعراف 158 والصف 14.
فهؤلاء الأئمة النصارى هم الذين يشرفون على لقاء محمد بالكتاب ، وعلى نقل الكتاب الى القران العربي : ( وانه لتنزيل رب العالمين …. وانه لفي زبر الأولين: او لم تن لهم آية ان يعلمه علماء بني إسرائيل ) الشعراء 193 –197 . فالشهادات متواترة مؤتلفة ويدل على أشراف أئمة النصارى على نقل الكتاب إلى القران العربي تصريحه بأن القران نفسه (هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ) العنكبوت 47 ؛ وتصريحه بأن (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ) الأنعام 20 ؛ البقرة 146 أي معرفة أبوية مصدرية .
تصريح خامس :
مرادفات (التنزيل) في لغة القران من متشابهاته ، فلا يقطع بمعنى محدود.
والان نرى ان مرادفاته لا تساعد على تحديد معناه .
1) التنزيل هو تيسير القران للعرب :
( ولقد يسرنا القران للذكر ، فهل من مذكر) القمر 17 و23 و32 و40) . فهو تيسير عربي لذلك الكتاب : ( فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين، وتنذر قوما لدا) مريم 97 ؛ (فإنما يسرناه بلسانك ، لعلهم يتذكرون) الدخان 58. لاحظ دقة التعبير (يسرناه بلسانك) .
2) التنزيل هو تصريف الآيات في القران للعرب :
( ولقد صرفناه بينهم ليذكروا ) الفرقان 50.
لقد صرفه ، وصرف فيه : ( ولقد صرفنا في هذا القران ليذكروا) الإسراء 41 .
وصرف فيه من كل مثل : (ولقد صرفنا في هذا القران للناس من كل مثل) الكهف 55.
وبيانه بالأمثال لم يحملهم على الهداية : (ولقد صرفنا في هذا القران للناس من كل مثل ، فأبى اكثر الناس الا كفورا ) الإسراء 89 ؛ كما ( صرفنا فيه من الوعيد ، لعلهم يتقون او يحدث لهم ذكرا) طه 113 . فالتعريف دليل المقدرة البيانية ، ولا يحمل معنى التنزيل : ( وكذلك نصرف الآيات ) الأنعام 105 ؛ الأعراف 57 .
فالتصريف في البيان والتبيين ، ولا يقطع بمعنى الوحي والتنزيل: (انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون ) الأنعام 46 .
3) التنزيل هو تبيين آيات الله للعرب :
( يبين الله لكم الآيات ) (البقرة 219 و266 ؛ النور 18 و 58 و61) ؛ ( يبين الله لكم آياته ) (البقرة 242 ؛ ال عمران 103 ؛ مائدة 92 ؛ نور 59).
والتبيين يتعلق بلسان القوم اكثر منه بالتنزيل : ( وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم ) إبراهيم 4 . وموضوع هذا البيان نوعان ؛ الأول : ( وما أنزلنا عليك الكتاب الا لتبيين لهم ما اختلفوا فيه ) النحل 64 ؛ والثاني : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبيين للناس ما انزل إليهم ، ولعلهم يتفكرون) النحل 44.
فالقران هو بيان الكتاب الذي انزل إليهم واختلفوا فيه إلى يهود ونصارى (النمل 76) .
وهو أيضا بيان للعرب : ( يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ) النساء 25 .
فالقران هو تبيان الكتاب المنزل قبله ، بلسان محمد ، ولسان قومه .
4) التنزيل هو ( تفصيل الكتاب) المنزل من قبل : ( وما كان هذا القران ان يفترى من دون الله ؛ ولكن تصديق الذي بين يديه (قبله) وتفصيل الكتاب ، لا ريب فيه ، من رب العالمين ) يونس 37. وهو يفصل جملة وتفصيلا : ( وكذلك تفصل الآيات ) أنعام 55 ؛ أعراف 31 و 173 ؛ يونس 24 ؛ الروم 28 ) . فالصلة القائمة بين الكتاب والقران ، هي صلة التنزيل في الكتاب بتفصيله في القران : ( تنزيل من الرحمان الرحيم ، كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا ) أي عربت (فصلت 2-3) ؛ فالتنزيل (كتاب أحكمت آياته، ثم فصلت من لدن خبير حكيم ) هود 1 .
فالتفصيل في لغة القران يعني التعريب : ( ولو جعلناه قرانا أعجميا لقالوا : لولا فصلت آياته ) فصلت 44 .
وهذا هو القول الفصل في معنى التنزيل في القران : انه (تفصيل الكتاب) أي تعريب الكتاب بحسب (المثل) الأحقاف10 .
فقوله : ( وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا) النحل 113 يعني : ( انا جعلناه قرآنا عربيا) الزخرف 2-3 .
فالقران العربي هو نقل الكتاب المنزل قبله الى العربية بالتيسير ، والتصريف ، والتبيين ، والتفصيل ، أي بالتعريب؛ وقوله المتواتر (أنزلناه) يعني (جعلناه) . هذا هو تنزيل القران بلغته واصطلاحه .
التصريح السادس:
واسطة الهداية والبعثة ، وواسطة القران.
في القران العربي ظاهرتان متقاربتان ، لكنهما تختلفان معنى ومضمونا.
الأولى يصرح فيها : ( انا أنزلناه في ليلية القدر ) القدر1 ؛ (انا أنزلناه في ليلة مباركة ….. أمرا من عندنا، انا كنا مرسلين ) الدخان 1-5 ؛ (شهر رمضان الذي انزل فيه القران هدى للناس) البقرة 185 . هنا يظهر ان القران نزل جملة واحدة .
ويصرح أيضا : ( قرانا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ) الإسراء 106 أي نزلناه مفرقا في عشرين سنه او وثلاث (لتقرأه على الناس على مكث) مهل وتؤدة ليفهموه (وانزلناه تنزيلا) شيئا بعد شيء على حسب المصالح (الجلالان) . يؤيد ذلك رده على الكفار : ( وقال الذين كفروا : لولا نزل عليه القران جملة واحدة ؟ - كذلك لنثبت يه فؤادك ، ورتلناه ترتيلا) الفرقان 32 أي نزلناه ( كذلك) مفرقا لنثبت به فؤادك (أي نقوي قلبك) ورتلناه ترتيلا ( أتينا به شيئا بعد شيء بتمهل وتؤدة لتيسير فهمه وحفظه) الجلالان.
وهنا يظهر ان القران نزل منجما ، مفرقا مدى عشرين سنة وثلاث.
لتفسير تلك الظاهرة القرآنية الغريبة المتعارضة طلعوا بنظرية نزول القران جملة واحدة ، ليلة القدر ، من شهر رمضان ، الى بيت العزة ، في السماء الدنيا ؛ ثم نجمه جبريل على محمد مدة عشرين سنة وثلاث .
انها نظرية متعارضة في ذاتها ، ولا أساس لها في القران ، وهي تكثر من الوسائط في تنزيل القران مما يعطل أعجازه في التنزيل. والجواب الصحيح هو في سورة الدخان : ( انا أنزلناه في ليلة مباركة ….. أمرا من عندنا ) الدخان 1-5 فالذي نزل الى محمد ليلة القدر من شهر رمضان هو الأمر بالايمان بالكتاب (الشورى 52) . وهذا ما يرح به مرارا ، كقوله : ( وأمرت ان أكون من المسلمين ، وان أتلو القران ) معهم النمل 91 . هناك موقفان متباينان : ظهور ملاك في رؤيا غار حراء لمحمد يأمره بالايمان بالكتاب والدعوة له بين العرب ؛ ثم (تفصيل الكتاب) أي تعريبه بلسان قومه لكي يفهموه . والواسطة تختلف بين الموقفين .
وهذه هي الظاهرة الثانية . يعلن بتواتر : ( قل نزله روح القدس، من ربك ، بالحق) النحل 102 ؛ ( نزل به الروح الامين ، بلسان عربي مبين، على قلبك لتكون من المنذرين ) الشعراء 194-195 ؛ ( قول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين ، مطاع ثم أمين ، وما صاحبكم بمجنون، ( لقد رآه بالأفق المبين ، وما هو على الغيب بضنين ) التكوير 19-24 ؛ وانه لقول رسول كريم ، ما هو بشاعر ! … ولا بقول كاهن ! ) الحاقة 40-42.
ففي هذه كلها ، الرسول الكريم ، الروح الامين ، هو الملاك الذي أتاه في رؤيا غار حراء يأمره بالايمان بالكتاب (الشورى 52 ، والدعوة له (الشورى15) .
وهو غير الذي يتلقى القران عنه : ( وانك لتلقي القران من لدن حكيم عليم) النمل 6 .
يتضح معناها من قوله : ( كتاب أحكمت آياته ، ثم فصلت من لدن حكيم خبير ) هود1. فقد تم (تفصيل الكتاب ) أي تعريبه ، بواسطة خبير حكيم، غير الروح الامين الذي رآه في غار حراء. ويتضح السر بالتصريح التالي .
التصريح السابع :
وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله .
يتحدى لاثبات صحته وأعجازه ( بحديث مثله ) الطور 34 ؛ (لا يأتون بمثله) الإسراء 88 ؛ ( فأتوا بعشر سور مثله) هود 12 ؛ فأتوا بسورة مثله) يونس 38 ؛ بل ( بسورة من مثله) البقرة 23.
ولكن هذا التحدي (بمثله) ساقط لان (مثله) موجود قبله :( وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله ) الأحقاف 10 .
وفي وجود هذا (المثل) قبل القران العربي سره ، كما يظهر أيضا من تصريحه : ( أفمن كان على بينه من ربه – ويتلوه شاهد منه ، ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة – أولئك يؤمنون به ؛ ومن يكفر من به الأحزاب فالنار موعده : فلا تكن في مرية منه ؛ انه الحق من ربك ولكن اكثر الناس لا يؤمنون) هود 17 .
فسر القران العربي هو في ذاك ( المثل) ، الذي هو القران .
رابعا : صفات القران الذاتية تؤيد نسبته ال (المثل)
الصفة الأولى :
القران العربي ذكر او تذكرة من تلك (الصحف المكرمة) .
( ان هو الا ذكر للعالمين) يوسف 104 قابل ص 87 ؛ التكوير 27) . كذلك ( ما هو الا ذكر للعالمين ) القلم 52 . ويكرر للتوضيح والترسيخ : ( ولقد يسرنا القران للذكر، فهل من مذكر ) القمر 17 و22 و32 و40 . فصفة القران العربي انه ذكر ، للذكر ( وانه لذكر لك ولقومك) (الزخرف 44) وهو ذكر من الذكر الذي مع (أهل الذكر) : ( هذا ذكر من معي وذكر من قبلي) الأنبياء 24.
بذلك يشهد اهل الذكر أنفسهم : ( فأسالوا أهل الذكر ، إذا كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر) النحل 43-44.
(ذلك ذكرى للذاكرين ) هود 115، ( ان هو الا ذكرى) أنعام 90 ، (ذكرى للمؤمنين ) أعراف 1 ؛ هود 120 ، ( ذكرى للعابدين ) الأنبياء 84 ، ( ذكرى لقوم يؤمنون) العنكبوت 50 ، ( ذكرى لاولي الألباب) ص 43 ؛ غافر 54. وهذا التعبير يجعل صفة القران العربي تذكرة للعرب بذكر ( أهل الذكر) .
( وانه لتذكرة للمتقين) من العرب ) الحاقة 48 ؛ ( كلا ! انه تذكرة ، فمن شاء ذكره) المدثر 54-55 ؛ عبس 12 .
وهذه التذكرة ( في صحف مكرمة ، مرفوعة مطهرة ، بأيدي سفرة كرام بررة ) عبس 11-16.
فهذه ( الصحف المكرمة) هي مصدر القران العربي ؛ لأن محمد (يتلوا صحفا مطهرة، فيها كتب قيمة) البينة 2-3 ، ويستعلي عليهم بدراستها (سبأ 44 ؛ القلم 37.
الصفة الثانية :
القران العربي ( حديث) من كتاب الله .
(الله نزل احسن الحديث، كتابا متشابها ) الزمر 23 يشبه (المثل) الذي ( يتلوه شاهد منه) .
لذلك ، ( ما كان حديثا يفترى ) يوسف 111 ؛ ( ومن اصدق من الله حديثا) النساء 86.
فلا يحق لأحد ان (يكذب بهذا الحديث) القلم 44 : ( أفهذا الحديث انتم مدهنون) ! الواقعة 81 .
وهو يتحداهم : ( فليأتوا بحديث مثله، ان كانوا صادقين) الطور 34 ؛ لانه هو عنده (مثل) هذا الحديث الذي ( شهد شاهد من بني إسرائيل علة مثله فآمن واستكبرتم ) الأحقاف 10 .
فعلى محمد ان يدعهم ( حتى يخوضوا في حديث غيره ) النساء 139 ؛ الأنعام 68 .
فالقران العربي حديث من كتاب الله ، في (المثل) الذي عند أهله.
الصفة الثالثة :
القران العربي بينة ما في الصحف الأولى .
نوجز ما فصلناه سابقا . يعلن : ( هذا بيان للناس ) ال عمران 138.
لكنه ليس بيانا جديدا ، إنما هو (بينة ما في الصحف الأولى ) طه 133 ، ( لتبين للناس ما انزل إليهم) في الكتاب الإمام ، والكتاب المنير ( النحل44) .
وقد جاء محمد بالبينة التي طلبها اليهود والمشركون : ( رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة ، فيها كتب قيمة . وما اختلفوا الا من بعد ما جاءتهم البينة) البينة 1-4 . فهو يصرح بان محمدا تلا (صحفا مطهرة فيها كتب قيمة) ؛ وقد (درسها) الأنعام 105 و 156.
وما القران العربي سوى ( ما في الصحف الأولى ) الأعلى 18-19 .
الإسلام دعوة نصرانية
يسوع الناصري – ويسوع المسيح
انها لسنة شرقية مألوفة تسمية معلم أو زعيم بالنسبة إلى بلدته ، أو مسقط رأسه .
فلما ظهر يسوع يدعو بين اليهود بدعوته ، لقبه اتباعه الأولون ، فالشعب ، فالسلطات اليهودية والرومانية : ( يسوع الناصري) نسبة إلى بلدته ، الناصرة ، التي نشأ فيها .
وصحابة يسوع الناصري كانت تؤمن انه المسيح ، وترادف بين اللقبين : فتدل بالأول على قوميته ،
وبالثاني على عقيدتهم فيه .
والإنجيل بحسب حرف البشير متى ، الذي دون في البيئة الإسرائيلية ، ولها قبل غيرها ، ينقل في مطلعه اللقب الذي اشتهر به يسوع ؛ فيقول : ( جاء وسكن في بلدة تسمى الناصرة ، ليتم ما قيل : (انه يدعى الناصري) متى 2 : 23.
انقسام اتباع يسوع في الاسم إلى (نصارى) و (مسيحيين)
بعد ارتفاع يسوع حيا إلى السماء ، ونزول الروح القدس على رسله وصحابته ، اندفعوا بالدعوة للإنجيل . وطالما بقيت الدعوة محصورة في فلسطين كانوا يسمون (نصارى) ؛ فلما انتشرت الدعوة المسيحية في سوريا اخذ الناس يسمونهم (المسيحيين) .
في الدعوة ليسوع المسيح في أورشليم قال بطرس ، زعيم الرسل ، في خطابه الأول لبني إسرائيل: ايها الرجال الاسرائيليون اسمعوا هذه الاقوال. يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قبل الله بقوات وعجائب وآيات صنعها الله بيده في وسطكم كما انتم ايضا تعلمون. هذا اخذتموه مسلّما بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق وبايدي اثمة صلبتموه وقتلتموه. الذي اقامه الله ناقضا اوجاع الموت اذ لم يكن ممكنا ان يمسك منه. لان داود يقول فيه كنت ارى الرب امامي في كل حين انه عن يميني لكي لا اتزعزع. لذلك سرّ قلبي وتهلل لساني حتى جسدي ايضا سيسكن على رجاء.
لانك لن تترك نفسي في الهاوية ولا تدع قدوسك يرى فسادا. عرفتني سبل الحياة وستملأني سرورا مع وجهك. ايها الرجال الاخوة يسوغ ان يقال لكم جهارا عن رئيس الآباء داود انه مات ودفن وقبره عندنا حتى هذا اليوم. فاذ كان نبيا وعلم ان الله حلف له بقسم انه من ثمرة صلبه يقيم المسيح حسب الجسد ليجلس على كرسيه سبق فرأى وتكلم عن قيامة المسيح انه لم تترك نفسه في الهاوية ولا رأى جسده فسادا. فيسوع هذا اقامه الله ونحن جميعا شهود لذلك. واذ ارتفع بيمين الله واخذ موعد الروح القدس من الآب سكب هذا الذي انتم الآن تبصرونه وتسمعونه. لان داود لم يصعد الى السموات. وهو نفسه يقول قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى اضع اعداءك موطئا لقدميك. فليعلم يقينا جميع بيت اسرائيل ان الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه انتم ربا ومسيحا ) . اعمال 1 : 22-36.
فيسوع الناصري هو، في دعوة الرسل الأولى ، المسيح الرب .
ثم جرت معجزة فظيعة على يد بطرس ، زعيم الدعوة ، بشفاء مقعد مشهور كان يجلس عند باب الهيكل يستعطي . شفاه بطرس (باسم يسوع المسيح الناصري ) اع 3 : 6 .
فأوقفه السنهدرين ، مجلس اليهود الاعلى ، مع يوحنا الرسول رفيقه لاستجوابهما في دعوتهما وفي المعجزة التي سببت ايمان المئات من اليهود بيسوع المسيح . اع 4:4 : ( فأجاب بطرس وهو ممتلئ من الروح القدس (الفارقليط) وقال لهم يا رؤساء الشعب وشيوخ اسرائيل ان كنا نفحص اليوم عن احسان الى انسان سقيم بماذا شفي هذا فليكن معلوما عند جميعكم وجميع شعب اسرائيل انه باسم يسوع المسيح الناصري الذي صلبتموه انتم الذي اقامه الله من الاموات. بذاك وقف هذا امامكم صحيحا. هذا هو الحجر الذي احتقرتموه ايها البناؤون الذي صار راس الزاوية. وليس باحد غيره الخلاص. لان ليس اسم آخر تحت السماء قد أعطي بين الناس به ينبغي ان نخلص ) اعمال 4 : 1-12.
فصحابة المسيح ورسله ، في بيئتهم اليهودية ، يجمعون في ألقاب يسوع اللقب النبوي الذي به يؤمنون ، المسيح ؛ واللقب القومي الذي به يعرفون، الناصري.
فلا بد إذن من ان يسمي اليهود الجاحدين مسيحية يسوع اتباعه : ناصريين او نصارى ( بحسب صيغة الجمع الآرامية ) .
نرى ذلك لما قبض اليهود على بولس الرسول في أورشليم لتقديمه للمحاكمة المدنية لدى الوالي الروماني فيلكس . فرفع الدعوة عليه باسم المجلس اليهودي الاعلى المحامي ترتلس الشهير عندهم ، قال : ( اننا حاصلون بواسطتك على سلام جزيل وقد صارت لهذه الامة مصالح بتدبيرك فنقبل ذلك ايها العزيز فيلكس بكل شكر في كل زمان وكل مكان. ولكن لئلا اعوقك اكثر التمس ان تسمعنا بالاختصار بحلمك. فاننا اذ وجدنا هذا الرجل مفسدا ومهيج فتنة بين جميع اليهود الذين في المسكونة ومقدام شيعة الناصريين وقد شرع ان ينجس الهيكل ايضا امسكناه واردنا ان نحكم عليه حسب ناموسنا. فاقبل ليسياس الامير بعنف شديد واخذه من بين ايدينا وامر المشتكين عليه ان يأتوا اليك. ومنه يمكنك اذا فحصت ان تعلم جميع هذه الامور التي نشتكي بها عليه. ثم وافقه اليهود ايضا قائلين ان هذه الامور هكذا ) اعمال 24 : 1-10.
ففي البيئة اليهودية اسم اتباع المسيح هو : (النصارى) ؛ وهم من بني اسرائيل .
ثم انتشرت الدعوة المسيحية خارج فلسطين . وقام بها كطلائع للرسل ، صحابة المسيح ، اليهود الهلينيون الذين ولدوا في المهاجر ونشأوا على الثقافة اليونانية ، ثم آمنوا بالمسيح .
وبسبب ثقافتهم والحرية الدينية التي تعودوا عليها في مها جرهم ، كانوا أجرا الناس دعوة للمسيحية، حتى في أورشليم ، فثارت عليهم السلطات اليهودية وقتلت زعيمهم اسطفان ( اع 7 : 54-60) ، وشتتوهم خار فلسطين ، (فاجتازوا الى فينيقية وقبرس وانطاكية وهم لا يكلمون احدا بالكلمة الا اليهود فقط. ولكن كان منهم قوم وهم رجال قبرسيون وقيروانيون الذين لما دخلوا انطاكية كانوا يخاطبون اليونانيين مبشرين بالرب يسوع. وكانت يد الرب معهم فآمن عدد كثير ورجعوا الى الرب) اعمال 11 : 19-21.
وهنا يذكر سفر اعمال الرسل ، وهو تاريخ تأسيس المسيحية : ( وفي انطاكية أولا دعي التلاميذ مسيحيين ) اع 11: 27.
ومنذئذ شاع هذا الاسم مع الدعوة في أقطار الدولة الرومانية ، ثم في أقطار الأرض كلها .
فالمسيحيون هم من الامميين . وهكذا صار اسم تلاميذ المسيح من بني اسرائيل : نصارى . وصار اسمهم من الامميين : (مسيحيين). وهذا الانقسام في الاسم ، بسبب البيئة ، سيجر إلى انقسام في العقيدة .
بحث ثاني
اختلاف الأمة الواحدة في البيئة والثقافة قد يجر إلى اختلاف في العقيدة .
كان اتباع المسيح في أورشليم وفلسطين كلهم من اليهود، في بدء الدعوة .
وكما كان المسيح ، مع دعوته بالإنجيل ، يمارس الشريعة الموسوية ، كان الرسل صحابته في دعوتهم للمسيحية يمارسون الشريعة الموسوية ؛ فيترددون على الهيكل ، ويحفظون الأعياد اليهودية ، ويحافظون على الختان ، والصوم وسائر أحكام التوراة ، لأنها أمست جزاءً من قوميتهم.
فكانوا كل يوم يلازمون الهيكل بنفس واحدة (اع 2:46) ؛ ويصعدون إلى الهيكل للصلاة في أوقاتها ( اع 3 : 1) ؛ وخارج أورشليم يقيمون الصلاة الإسرائيلية بأوقاتها ( اع 10 : 9) ؛ وكان المتحررون منهم مثل بولس يحافظون على عوا ئدهم كالنذر التوراتي ( اع 18: 18) .
وكانوا يعيدون مع اليهود أعياد الفصح ( اع 20 : 6 ) . وهذه صورة كاملة للحياة النصرانية اليهودية ، في حوار يعقوب ، أسقف أورشليم ، مع بولس الرسول الذي كان يدعوا إلى التحرير من الشريعة الموسوية . قال يعقوب ، زعيم النصرانية ، لبولس ، زعيم المسيحية : ( أيها الأخ أنت ترى كم ربوة من اليهود الذين آمنوا وهم جميعا غيورون للناموس. وقد أخبروا عنك انك تعلّم جميع اليهود الذين بين الامم الارتداد عن موسى قائلا ان لا يختنوا اولادهم ولا يسلكوا حسب العوائد.
فاذا ماذا يكون. لا بد على كل حال ان يجتمع الجمهور لانهم سيسمعون انك قد جئت. فافعل هذا الذي نقول لك. عندنا اربعة رجال عليهم نذر. خذ هؤلاء وتطهر معهم وانفق عليهم ليحلقوا رؤوسهم فيعلم الجميع ان ليس شيء مما أخبروا عنك بل تسلك انت ايضا حافظا للناموس. واما من جهة الذين آمنوا من الامم فارسلنا نحن اليهم وحكمنا ان لا يحفظوا شيئا مثل ذلك سوى ان يحافظوا على انفسهم مما ذبح للاصنام ومن الدم والمخنوق والزنى. حينئذ اخذ بولس الرجال في الغد وتطهر معهم ودخل ) . أعمال 21 : 17- 27.
هذه الصورة تظهر لنا ان اتباع المسيح من اليهود ، وعلى رأسهم آل البيت ، كانوا يقيمون التوراة والإنجيل معاً ؛ وينادون بالايمان بموسى وعيسى معا؛ ويرفعون شعار العماد والختان معا .
هذا محور عقيدتهم ، الذي يظهر تشيعهم (النصراني) لأهل بيت المسيح وتوراة موسى ، على حساب الرسل ، صحابة المسيح ، وعلى حساب حقيقة الإنجيل ، كما نرى في رسائل العهد الجديد إليهم .
بدأت المشاكل تظهر عندما آمن بعضهم من الأميين المشركين .
وشريعة التوراة ، قبل القران : ( إنما المشركون نجس) ! وعلامة شركهم انهم غير مختوني! فهل يصح لليهودي النصراني ان يجتمع بالمسيحي من اصل وثني ، ويدخل بيته ، ويأكل معه ؟ فاحتاج بطرس (ولما صعد بطرس إلى اورشليم خاصمه الذين من أهل الختان . قائلين انك دخلت إلى رجال ذوي غلفة واكلت معهم) . اعمال 11 : 1-3
فشرح لهم بطرس انه فعل ذلك بأمر رباني ، وثبته الله بحلول الروح القدس على المهتدين من الامميين ، كما حل على الرسل أنفسهم ! ( فلما سمعوا ذلك سكتوا وكانوا يمجدون الله قائلين إذا أعطى الله الأمم أيضا التوبة للحياة) اع 11 : 17-18.
فالمشكل الأول الذي واجه الجماعة المسيحية هو المؤالفة بين أهل الكتاب وألاميين في الايمان بالمسيح : هل المهتدي إلى المسيح من الأمم عليه ان يتهود مع ايمانه بالمسيح حتى تصح مسيحيته؟.
انتشرت الدعوة المسيحية بين الأميين ، وتكاثر عدد المسيحيين من الأمم حتى فاق عدد أهل الكتاب من اليهود المتنصرين . كانوا يهتدون دون ان يتهودوا ويخضعوا لشريعة موسى والختان . فظهر بين اتباع المسيح سلوك في الحياة المسيحية متعارض : النصارى اليهود ظلوا يقيمون شريعة موسى مع العماد والايمان بالمسيح ؛ والمسيحيون من الأمم يعتنقون المسيحية من دون اليهودية وشريعتها . وسرعان ما ذر الشقاق قرنه بين العنصرين المؤمنين ايمانا واحدا : ما هو موقف الدعوة المسيحية من الشريعة الموسوية ؟ . جاء الجواب مختلفا ، باختلاف البيئة ؛ فالنصارى اليهود يقولون بإقامة التوراة والإنجيل معا بلا تفريق ؛ والمسيحيون من الاميين يقولون بالإنجيل وحده من دون الشريعة الموسوية والختان .
وتزعم مقالة النصارى ال بيت المسيح ، وعلى رأسهم أبناء قلوبا ، عم المسيح بحسب البشرية ، الذين كانوا يسمونهم لهذه القرابة (اخوة الرب)؛ وكانت منزلتهم عندهم تضاهي منزلة الرسل ، صحابة المسيح. ولذلك أمروهم أساقفة عليهم في أورشليم من دون الرسل أنفسهم . فكان زعيمهم وزعيم ال بيت المسيح ، يعقوب (أخو الرب) اول أسقف على أورشليم ، بوجود الرسل أنفسهم .وبدأ يظهر تشيعهم للشريعة ولآل بيت المسيح ، على حساب المسيحية العامة ، عند هداية جماعة الفريسيين ( اع 15: 5) .
وتزعم مقالة المسيحيين من غير أهل الكتاب بولس ، رسول الأمم ، منذ هدايته وبعثته .
فكان في رسالاته ورسائله ، إيلافاً للدعوة المسيحية بين الأمم غير الكتابية ، يدعو إلى تحرير المسيحية من اليهودية وشريعتها وختانها .
كان لكل فريق حججه في تأييد نظريته .
ألقاب محمد في القران
في القران ثلاثة أنواع الألقاب لمحمد :
ان القران يخاطب محمد باسم (النبي) نحوا من ثلاثين مرة ؛ وباسم (الرسول) نحو ماية مرة .
قالوا : الرسول هو النبي الذي يأتي بشرع جديد ؛ اما النبي ، فهو الذي جاء على شرع من قبله من رسول .
لكن مرادفة القران بين اللقبين لمحمد دليل وحدة المعنى ؛ وبرهانه ان القران يشرع للعرب دين موسى وعيسى معا بلا فرق (الشورى 13) ؛ وإسلام القران هو إسلام الكتاب : ( هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ) القران ( الحج 89).
والنوع الثاني من الألقاب ، قد يفسر معنى ( النبي) و (الرسول) في اصطلاح القران . من ذلك : النذير والبشير والشاهد والداعي.
ويختم المعاني كلها لقب خاتم ( النبيين) .
تلك سبعة ألقاب توضحها أوصاف نبؤته ورسالته .
مبعث محمد
القران وحده هو الحكم الفاصل على نفسه . ولا يقبل سواه في مسألة مبعث النبوة . فماذا يقول القران عن نبيه؟
1) لا يذكر القران لمحمد اتصالا بملاك الوحي سوى مرة واحدة ، على نزلتين ، في رؤيا غار حراء ، كما يصف ذلك في هذه الرباعيات : وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى . النجم 1-18.
انها رؤيا واقعية ، لا مراء فيها . لكنها رؤيا (بالفؤاد) أي روحية ، لا رؤية حسية : في النزلة الأولى ( أوحى الى عبده ما أوحى ) ؛ وفي الثانية : (رأى من آيات ربه الكبرى) . فالنص لا يكشف عن موضوع الوحي والتنزيل .
2) لكنه في سورة ( الشورى ) يكشف لنا عن موضوع الرؤيا وهدفها : لله ثلاث طرق في وحيه ، اختار لمحمد إحداها ، بل أدناها: ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) . الشورى 51 –5.
الله يكلم الناس إما بالوحي المباشر ، كما جرى لعيسى بحسب القران ، او من وراء حجاب ، وهي طريقة موسى الكليم ، او يرسل رسولا فيوحي بالواساطة .
وكان نصيب محمد في رؤيا غار حراء ان أرسل الله اليه (روحا من أمرنا) ، أي روحا من عالم الأمر فهو مخلوق ، لا (روح منه) تعالى .
فماذا أوحى إلى عبده ؟ بنص القران القاطع ، أوحى إليه الايمان بالكتاب لان الكتاب ، والايمان به ، هو النور الذي يهدي به من يشاء من عباده .
والايمان بالكتاب هو الصراط المستقيم ، صراط الله . قرأنا (لتُهدي)، وهي اصح من (لتَهدي) لانسجامها مع السياق الذي يذكر هداية محمد الى الايمان بالكتاب .
وهذا ما يصرح به في السورة عينها : ( وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ . الشورى 15.
فمبعث الوحي هو الايمان بالكتاب ، والدعوة له بين العرب .
3) هذا هو القران الذي نزل عليه في غار حراء كما يردد: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ( القدر 1) ،
( فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ : إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ؛ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا ، إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ). الدخان 1-5 .
ففي تلك الليلة المباركة ، التي فيها يفرق كل أمر كيم ، جاءه الأمر من عند الله بالرسالة ، للايمان بالكتاب ، فالقران الذي آتيه هو أمر الايمان بالكتاب والدعوة به واليه بين العرب.
وليلة القدر ، تلك الليلة المباركة ، كانت في ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) . البقرة 185.
ففي ليلة من شهر رمضان ابلغه ملاك الله (الأمر) بالايمان والدعوة بالكتاب .
هذا هو القران هدى للناس ؛ فهو ( بينات من الهدى والفرقان ): وتعبير ( الهدى) في اصطلاحه كناية عن الكتاب ؛ وتعبير (الفرقان) تفصيل له . فهو يؤمر ان ينقل للعرب الكتاب وفرقانه المتواتر ، بتشريعه لهم دين موسى وعيسى دينا واحدا (الشورى 13).
4) هذا ما يسميه (القران) . وما القران العربي الا خبر متواتر لهذا (القران) .
انه خبر عنه ، لان (القران) موجود قبل محمد ، وهو قران الكتاب، في ( المثل ، الذي يشهد به النصارى من بني إسرائيل) الأحقاف 10 .
فهذا هو الأمر الذي تلقاه في غار حراء : (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وان اتلوا القران . النمل 91-92.
فالمسلمون موجودون قبل محمد ، وهو يؤمر بالانضمام إليهم ، وتلاوة القران معهم.
هذا ما يشهد به مطلع السورة الثالثة، في تاريخ النزول : (يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمْ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا. المزمل 1-5
لم ينزل من القران العربي سوى عشر آيات ، هن مطلع سورتي (العلق) و(القلم) ! فما هو القران الذي يؤمر بترتيله هزيعا من الليل ، كعادة رهبان النصارى؟ التعبير معرف على العلمية، فلا يصح ان يكون القران العربي الذي لم ينزل بعد. انه قران الكتاب ، الذي يتلوه مع المسلمين الذين انضم اليهم . النمل 91-92.
فدرس الكتاب معهم : ( وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . الأنعام 105. فهو لا يرد مقالتهم ، بل يبين الغاية من الدرس : انها بيان الكتاب للعرب . وأخذ القران العربي ( يعلمهم الكتاب والحكمة) أي التوراة والإنجيل (البقرة 129 ؛ ال عمران 164؛ الجمعة2) .
هذا هو الوحي الذي ينذرهم به : ( قل : إنما أنذركم بالوحي ) الأنبياء 45 أي الوحي المعهود في الكتاب ، بحسب تصريحه: (بلاغا من الله ورسالاته) الجن 23. فبلاغ الله هو في (رسالاته) السابقة .
6) ان القران تنزيل رب العالمين ، لانه في زبر الأولين : ( وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) من النصارى الذين يستشهد بهم . الشعؤاء 193-197 .
ان القران (تفصيل الكتاب) يونس 37 أي تعريبه بحسب اصطلاحه.
لذلك ان هذا ( القران ) لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى .الأعلى 18-19.
وجاءت بينته في القران العربي : ( وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى) في القران . طه 133.
فالقران (تفصيل الكتاب ) ، لأنه (مثله) عند بني إسرائيل النصارى : ( وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ ) الأحقاف 10. فمثله عندهم بناء على مصدره في الكتاب الإمام : (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا). الأحقاف 12 ، فليس فيه من فارق مع (مثله) سوى اللسان العربي.
7) وهكذا يتضح لنا مبعث النبوة . كان أمر من الله ، بواسطة ملاك في رؤيا غار حراء ، لأجل (تفصيل الكتاب) بلسان عربي مبين ، به (بعلمهم الكتاب والحكمة ) أي التوراة والإنجيل ( بقرة 129؛ ال عمران 164 ؛ الجمعة 2 ).
فالقران العربي تنزيل ، لأنه (تفصيل وتصديق) التنزيل الكتابي؛ على مثال (المثل) الذي عندهم .
هذا معنى قوله المتواتر : ( وأوحي ألي هذا القران لأنذركم به ) الأنعام 19.
ونبوة محمد قائمة على (تفصيل الكتاب) لكي (يعلمهم الكتاب والحكمة ) أي التوراة والإنجيل . وتلك رسالته.
صلة محمد بالغيب
النبي ، بحسب اللغة ، حامل نبأ .
وفي اصطلاح القران ليس ( النبي) من يتصل بغيب الله ؛ إنما هو من يأتي بنبإ أي خبر عنه : ( أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى . النجم 36 . والمعنى متواتر : ( مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ) طه 99؛
( مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ ) . هود 120 ؛ ( مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى ) . هود 100
لكنه يصرح ثلاث مرات بأن ما يتلوه هو (من أنباء الغيب) ( ال عمران 44 ؛ هود 49؛ يوسف 102) .
فهل كان محمد في نبؤته على صلة مباشرة بغيب الله ؟.
ان (الغيب) من علم الله المحجوب : ( وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) هود 123؛
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ). النحل 77 ؛ ( لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) الكهف 26
فلا يطلع على غيبه الا من أرسله به : (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا الا من ارتضى من رسله الجن 26. وبرسوله يطلع الناس عليه : ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ) . ال عمران 179. فغيب الله عند رسله .
لكن الله قد يطلع رسوله على الغيب مباشرة ، أو مداورة بواسطة الغيب المنزل قبله . فكيف اطلع محمد على غيب الله ووحيه ؟ .
1) يعلن مرتين : ( وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ) أنعام 50 ؛( وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) هود 31 .
فمحمد لم يتصل بغيب الله مباشرة : ( لو كنت اعلم الغيب ، لاستكثرت من الخير وما مسني السوء. أعراف 188.
2) اكان اتصاله بغيب الله المنزل في الكتاب من قبله ، فهو يدعو ببلاغ من رسالاته السابقة :
( لما قام عبد الله يدعوه ، كادوا يكونون عليه لبدا ! قل : إنما أدعو ربي ، ولا آشرك به أحدا ! قل: ( قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلَّا بَلَاغًا مِنْ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا . الجن19-23. فنبوة محمد بلاغ من رسالات الله السابقة . والقران ( بينة ما في الصحف الأولى) طه 133، (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ) . الشعراء 196.
3) لذلك يسمي ما يتلوه من بشارة ذكريا بيحيى ، وبشارة مريم بالمسيح ، المكتوبتين في الإنجيل، من أنباء الغيب : ( ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ) ال عمران 44 ) أي الغيب الذي في كتاب الله.
ويختم قصة يوسف بقوله : ( ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ). يوسف 102؛ كما يختم قصة نوح: ( تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا ) هود 49
وسنرى ان تعبير (الوحي) من متشابهات القران ، لا يقطع بمعنى محدود.
فتلك الايات الثلاث يجب فهمها على ضوء تصريحه في سورة (القلم) ، ثانية السور نزولا : ( أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ؟ ام عندهم الغيب فهم يكتبون . القلم 35-42 .
فهو يجعل كتابة الغيب مع دراسة الكتاب ، اللتين يصرح بهما (الأنعام 105) .
4) انه يتحدى المشركين بالغيب الذي يدرسه في الكتاب ، مع المسلمين من قبله : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ! … ام عندهم الغيب فهم يكتبون. القلم 35 –37
محمد يستعلي المشركين المجرمين بالمسلمين من قبله ، فهم عندهم الكتاب الذي فيه يدرس ، وعنه يكتب غيب الله .
وهذا التحدي بالغيب المكتوب في الكتاب من قبله ، متواتر عنده : ( ام عندهم الغيب ، فهم يكتبون) الطور41.
والنتيجة الحاسمة ان محمد يتصل بغيب الله المنزل في كتاب من قبله : فهو يدرسه ، وعنه يكتب. هذا نص القران القاطع .
فنبوءته تبليغ غيب الكتاب ؛ ورسالته( تعليمهم الكتاب والحكمة.
ثالثا صلة محمد بالكتاب المنزل
يتضح من ( الانعام105 و156) ان محمدا ( درس) الكتاب ، على طائفتين من قبله لان بني قومه كانوا (عن دراستهم لغافلين). هذا أمر الله له (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ ). الأنعام 90 .
وهذا السر يكشفه لنا منذ سورة (القلم) ، الثانية في تاريخ النزول. فقد رأينا انه يتحدى المشركين المجرمين (بالمسلمين) من قبله ، وبدراسة الكتاب معهم ، وكتابة الغيب المنزل فيه : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ …. أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ …ام عندهم الغيب فهم يكتبون . القلم 35 –37.
ويرد على المشركين الكافرين بدعوته ، بأنها من الكتب المقدسة التي يدرسها ، وينذرهم بها :
( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ . سبإ 43-44.
فلا يحق لهم تكفير محمد ، ولا اتهامه بالأفاك المفترى ، او السحر، لان الحق الذي جاءهم به هو من( كتب يدرسها ) ويستعلي بها عليهم .
(وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ. لقمان 20
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ. الحج 8 .
أما محمد فهو يجادل الناس بهدى الكتاب المنير وعلمه .
وقصة (درس) الكتاب المنزل قبله صريحة في قوله : ( وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ – وَلِيَقُولُوا: دَرَسْتَ ! - وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . انعام 105.
فهو لا يرد التهمة ، بل يبين الغاية من درس الكتاب : انها بيان الكتاب المنزل للناس ، كما يتضح من قوله في السرة عينها : (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ). أنعام 155-156.
غفل بنو قومه عن دراسة الكتاب ، أي التوراة والإنجيل، فدرسهما محمد، ونقل تنزيلهما في القران ، بأمر ملاك الله له في رؤيا غار حراء .
فالقران العربي تنزيل لأنه ( تفصيل الكتاب) (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ). يونس 10 أي تعريب التنزيل الكتابي : ( وانه لتنزيل رب العالمين … وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) كما يشهد النصارى من علماء بني إسرائيل (الشعراء 193-197).
فمحمد (درس) الكتاب ، كما ( درسوا ما فيه ) الأعراف 168، ليبينه بتفصيله في القران العربي ( لقوم يعلمون) ، او لقوم كانوا عن دراسته غافلين .
يرد بعضهم على هذا الاستنتاج المحكم بقوله : ( وما كنت تتلو من قبله من كتاب ، ولا تخطه بيمينك ، واذا لارتاب المبطلون) العنكبوت 48 .
لكن فاتهم ما بعدها : ( بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ) العنكبوت 49. وتعبير (الذين أوتوا العلم ) اصطلاح عنده ، كناية عن أهل الكتاب (المقسطين) ، (المحسنين) أي النصارى.
فإذا كان محمد لا يخط الكتاب بيده ، ولا يتلو الكتاب بنفسه ، فهذا لا يمنع انه (درسه) على أهله وأئمتهم ، (فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) السجدة 23-24 ؛ لذلك فالقران (هو آيات بينا في صدورهم) ؛ لا بل (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ ) الأحقاف 10 : إن (مثل) القران موجود قبله، وينقله للعربية ( حكيم خبير) .
وقوله : ( ما كنت تتلو من قبله من كتاب) ، يفسره تصريحه لليهود الذين طالبوه ( بالبينة : رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً ، فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ - وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ) البينة 2-5
لقد أعطاهم البينة المطلوبة : فهو يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً ، فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ !.
فمن قرائن القران المتنوعة المتواترة يتضح ان صلة محمد بالكتاب الذي انزل قبله ، كانت صلة (درس) ، وتدريس لكي (يعلمهم الكتاب والحكمة) .
بالقران يعلم محمد العرب
الكتاب والحكمة
نوجز ما فصلناه من قبل .
ان محمدا (درس) الكتاب (انعام105) لان بني قومه كانوا عن دراسته لغافلين (الأنعام 156)
وقد درسه مع (المسلمين) من قبله ، الذين أمر بان ينضم إليهم ويتلو قران الكتاب معهم (النمل 91-92) .
وعن قران الكتاب ينقل إليهم في القران العربي ما يكتب من (الغيب) القلم 37 والطور 41) .
وهكذا بالقران العربي ( تفصيل الكتاب) (يونس 36 ) ، ( يعلمكم الكتاب والحكمة، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) (البقرة 151 ) . وهذه منة الله عليهم : ( لقد من الله على المؤمنين ، اذ يعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) ( آل عمران 164) .
هذا هو واقع نبوة محمد ورسالته : ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) (الجمعة 1-2).
وقد رأينا ان (الحكمة) في ذاك الاصطلاح كناية عن الإنجيل.
فبالقران العربي يعلم محمد العرب (الكتاب والحكمة) أي التوراة والإنجيل ؛ لا الكتاب الذي في السماء ، بل الكتاب الذي على الأرض : (ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة) (هود17) .
وليس بين الكتاب الإمام والقران الذي يفصله من الفارق سوى اللسان العربي : ( ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة ، وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا ) (الأحقاف 12) - تلك حاله وواقعه.
ومع الكتاب الإمام ، فهو يجادلهم (بالكتاب المنير) الإنجيل الذي يجمع العلم والهدى، وليس كغيره ( من الناس ، من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ) ) لقمان 20 ؛ الجد 8) .
فالكتاب الإمام والكتاب المنير يسميها ( البينات والزبر ، والكتاب المنير) ( فاطر 25) .
فهما (الكتاب والحكمة) أي التوراة والإنجيل – في اصطلاح عام- اللذين يعلمهم للعرب بالقران العربي ، (تفصيل الكتاب) على الإطلاق .
ويستشهد على صحة مقالته بأهل الكتاب والذكر والعلم : (فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون البينات والزبر : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ا انزل إليهم ، ولعلهم يتفكرون ) (النحل 43-44).
هكذا يقتدي بهدى الكتاب وأهله (انهام90) .
فالذكر القرآني هو بيان الذكر الكتابي في التوراة والإنجيل ، كما يشهد أهل الذكر أنفسهم .
وفي بيانه ، لسانا عربيا ، يعلمهم بالقران العربي (الكتاب والحكمة) .
فليس من تنزيل جديد ، انما هو تعريب التنزيل ، ( تفصيل الكتاب) (يونس 37) ؛ وبما انه تعريب التنزيل ، فهو أيضا تنزيل .
خامسا
محمد خاتم النبيين
هذه هي صفة محمد الأخيرة في القران : ( ما محمد أبا أحد من رجالكم ، ولكن رسول الله ، وخاتم النبيين ) الأحزاب 40.
للفظ (خاتم) قراءتان : على الكسر (خاتِم) بمعنى خاتمة الأنبياء؛ وعلى الفتح (خاتَم) بمعنى آلة الختم (الجلالان) .
وليس في القران كله صفة لمحمد بمعنى خاتمة الأنبياء.
انما يرد هذا المعنى للمسيح وحده، بلفظ ( قفينا بعيسى ) البقرة 87؛ المائدة 49 ؛ الحديد 27، وليس من آية تقول بأنه ( قفي) على المسيح بأحد .
إنما الوصف المتواتر في القران لمحمد بأنه ( خاتَم) أي مصدق ، كما يصدق الختم رسالة او كتابا: فمحمد والقران هما ( مصدق لما معهم) البقرة 89 و101 ، (مصدقا لما معكم) ال عمران 81، (مصدق الذي بين يديه ) الأنعام 92 ،يونس 37 ؛ يوسف 111 ؛ فاطر 31 الأحقاف 30 . ( مصدق لما معكم ) بقرة 41 و 91 ؛ نساء 47، ( مصدقا لما معهم ) بقرة 91، (مصدق لما بين يديه )، أي قبله بقرة 97 ؛ ال عمران 3 و81 ؛ مائدة 46 و48 .
فالقران كتابا مصدقا لسانا عربيا ) الأحقاف 12 ؛ فهو ليس مفترى على الله ، ز(لكن تصديق الذي بين يديه)(أي قبله من الكتب) وتفصيل الكتاب) يونس 37.
تلك هي صفة القران المتواترة ؛ لذلك فهو (بلاغ من الله ورسالاته) السابقة (الجن 23) .
ومحمد هو (خاتم النبيين ) بصفة كونه مصدقا لهم ، وذلك بنص القران القاطع : ( بل جاء بالحق وصدق المرسلين) الصفات 37.
وهو يجعل نفسه مع المتقين في الصدق : ( والذي جاء بالصدق ، وصدق به ، أولئك هم المتقون) الزمر 33 ،
(وكل منهم قد صدق بالحسنى ) الليل 6.
فنبؤة محمد ورسالته تقتصر على ( تصديق الذي بين يديه ) وتفصيل الكتاب ) بالقران العربي الذي هو (كتاب مصدقا لسانا عربيا .
لفظ "حنف " عرفتها اللغات التي كانت سائدة في تلك المنطقة آنذاك (وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن اللفظة من أصل عبراني هو " تحنيوث" أو من " حنف " ومعناها " التحنث " في العربية )
وكما يقول الراغب الأصفهاني في كتابه (المفردات في غريب القرآن ، ص 133) :" الحنف هو الميل عن الضلال إلى الاستقامة ،وتحنف فلان أى تحرى طريق الاستقامة ، وسمت العرب كل من حج أو إختتن حنيفاً.تنبيهاً إلى أنه على دين إبراهيم ".
ويذهب الألوسى في كتابه ( بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب .. ج 2 ، ص 225) إلى أن الصابئة هم قوم النبي إبراهيم وأهل دعوته ، مما دفع بعض العلماء إلى حسبان الحنفاء صنفاً من الصابئة ، وبالتحديد - الصنف المؤمن أو من بقى على الإيمان منهم .
وكان منهم بالجزيرة العربية نفر غير قليل . إلا أننا لا نرى ذلك ، وقد سبق و بينا ذلك ، وهنا سنزيده إيضاحاً . والطريقة الغالبة على الحنفاء هي التوحيد والزهد . والحنفاء لم يكونوا مشتتين لا يجمعهم رابطة ، ولم يكونوا جماعة دينية بالمعنى الحصرى ، بل كانت تربطهم بعض العادات وتميز دعوتهم .
ومما كان يجمعهم أيضاً كفرهم بشرك قومهم ، وسخريتهم من أصنامهم وذبائحهم ، ثم دعوتهم إلى التوحيد التي تحملوا في سبيلها صنوفاً من الإهانات ، مما حمل أكثرهم وهم في الغالب من مكة وأطرافها ، على الفرار من بلدتهم إلى أطرافها المنعزلة الآمنة ليكونوا في أمان من إيذاء قومهم لهم (راجع في ذلك ، " المفصل في تاريخ العرب قبل
الإسلام ل د جواد علي- ج 5 ص 399.
كان يفصل بين الحكماء الموحدين – وهم ما سنتناولهم فيما بعد – والحنفاء ، أن الأولين كانوا عائشين مندمجين في مجتمعهم ، فيما الحنفاء المضطهدين كانوا منعزلين يميلون إلى الزهد ، والاقتداء برهبان النصارى ونساكهم .
كان الحنفاء من كل القبائل في كل أجزاء الجزيرة العربية ، ولكن إستقلوا خاصة في الحجاز ومكة.
قد عد الأخباريون في زمرة الحنفاء : قس بن ساعدة الإيادى ، وزيد بن عمرو إبن النفيل ، وأمية إبن أبى الصلت ، وأرباب بن رئاب ، وسويد بن عامر المصطلقى ، وأسعد أبو كرب الحميى ، ووكيع بن سلمة سيف بن ذى يزن اليمنى ، وورقة بن نوفل القرشى ، وعامر بن ظرب العدوانى ، وعبد الطابخة بن ثعلب بن وبرة بن قضاعة ، وعلاف بن شهاب التميمى ، والملتمس بن أمية الكنانى ، وزهير بن أبى سلمى ، وخالد بن سنان بن غيث العبيسى ، وعبد الله القضاعى ، وعبيد بن أبرص الأسدى ، وكعب بن لؤى بن غالب القرشى ! كان الحنفاء ، بسبب نزعتهم التوحيدية المستقلة يدخلون في النصرانية ثم من بعد في الإسلام ! وقد يعود بعضهم إلى توحيدهم المستقل الحنفى ، بدون حرج ، لوحدة التوحيد بين الحركات الثلاث ... هذا بالنسبة إلى
مفهومهم .
ومن الحنفاء من تنصر ، وبقى على نصرا نيته ، فيجب إخراجه من زمرتهم مثل : عدى بن زيد ، وأرباب بن رئاب ، والقرشيين الثلاثة الذين إحتضنوا محمداً يوم مبعثه : ورقة بن نوفل وعبد الله بن جحش ، وعثمان بن الحويرث .
ودعوة الحنفاء إلى التوحيد كانت أحياناً بالحكمة والموعظة الحسنة ، كما فعل أمية بن أبى الصلت، من ثقيف في الطائف ، الذي نافس محمداً في دعوته إبان عهدها المكي .
وأحياناً كانت بالحديد الذي فيه بأس شديد " مثل سيف بن ذي يزن ، الذي أستنصر كسرى ، والنعمان إبن صيفى الراهب الذي أستنصر قيصراً : ومما يلفت النظر أن قبيلة قريش ضمت عدداً من " الأحناف " ، و يؤكد بعض الإخباريين أن " الحنيفية " بدأت فيها مبكرة مع " قصى بن كلاب " الجد الأكبر لمحمد مؤسس دولة قريش في يثرب .
ويقول الشهرستانى عنه :" وكان قصى بن كلاب ينهى عن عبادة غير الله تعالى من الأصنام وهو القائل أرباً واحدا أم ألف رب أدين إذا تقسمت الأمور تركت اللات والعزى جميعاً كذلك يفعل الرجل البصير ! ويطلق عليه الدكتور سيد محمود القمنى - في كتابه " الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية " - لقب أستاذ الحنيفية وزعيمها ! وإن كان لنا تحفظ على هذا الرأي ذو النظرة السياسية للتاريخ الإسلامي ، لأنها تقر حقائق مبنية على فروض أولية ، إلا أنها غير مرفوضة على كل حال وعلى الجانب الأخر " الأستاذ يوسف الدرة حداد " ذو القراءة الدينية للتاريخ الإسلامي جاعلاً من التوراة والإنجيل أساس واعي للعرب في حياتهم ، حتى أنه في معرض
كلامه عن الحنيفية يقول : " إنها - الحنيفية - تعريب للتوحيد الكتابي (من التوراة والنبيين إلى الحكمة إلى الزبور إلى الإنجيل ) على ما كانت تقتضيه بيئة الحجاز البدائية.
ونحن في بحثنا هذا ،نرى أنه يخرج عن نطاقه الكشف عن مكان نشأتها ، ونقطة انطلاقها ، فسواء انبثقت في اليمن باعتبارها ديانة توحيدية ( ثم إمتد دين الوحدانية المجردة ، كما أمتد التوحيد المتجسد إلى قلب الجزيرة العربية لتوصيل المسيرة ، مسيرة خلق الدولة الموحدة لعموم المنطقة العربية) ويميل إلى هذا الرأي " عز الدين كشار " في كتابه "اليمن دين ودنيا " ، مستدلاً على ذلك بكثرة " الحنفاء اليمنيين " من أمثال ( قس بن ساعدة الأيادي ، وأرباب بن رئاب ، وأسعد أبو يكرب الحميرى ، ووكيع بن زهرة الأيادي .. وسيف بن زي يزن ، وخالد بن سنان بن غيث العبسى ، وعبد الله القضاعى ، وعلاف بن شهاب التميمى ... وقيس بن عاصم بن تميم ... وعفيف بن معد ى كرب من كندة ....... وغيرهم من الأسماء التي يبدو أنها يمنية الأصل ، كذلك ما هو معروف من أهل الجنوب قد عرفوا التوحيد ولو بصورة أولية قبل عرب الشمال التي تذكر في هذا الشأن ذو سموى ، والمقة التي يرجع بعض الباحثين أن أسم مكة هو تحوير لها . أو أن الحنيفية قد نشأت في اليمامة ، وهى إحدى
المناطق المتحضرة والمتقدمة نسبياً في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، وإنتشرت في غربي الجزيرة العربية . نقول سواء كان هذا أم ذلك فإن الثابت تاريخياً أنها كانت منتشرة في أنحاء عديدة من جزيرة العرب ، ولو أننا نؤيد الباحثين اليمانيين في أن بدايتها كانت في اليمن . قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية / خليل عبد الكريم .
علاقة الحنيفية بالاسلام
تعتبر الحنيفية حركة مستقلة عما عداها ، ويميل العلامة " شيخو " في كتابه (النصرانية وآدابها في عرب الجاهلية 1: 119 ) إلى اعتبار الحنيفية شيعة نصرانية . ونحن لا نؤيده في ذلك رغم إيمان الحنفاء بالمسيح وأمه ، ولكن بسبب هذا الإيمان عينه ، وبسبب استقبال الحنفاء بيت المقدس في صلاتهم ، وبسبب اعتمادهم الكتاب والنبيين أكثر من الإنجيل ، يميل في هذا الشأن إلى حشرهم في زمرة اليهود - النصارى الذين يقبلون باستقلال النصرانية عن اليهودية كما كان يدعو الرسول بولس، بل أرادوا دمج النصرانية باليهودية والموافقة بينهما . ويوم خراب أورشليم سنة سبعين وبعدها رحلوا إلى ديار العرب والحجاز، واستوطنوا هناك ونموا في دائرة ضيقة . وكانوا يعتمدون إنجيلاً منحولاً للرسول متى ، من جعل يسوع أبن يوسف ، وهذه تهمة ينور عليها القرآن وينقضها في كل مواقفه ، وبتسميته على الدوام يسوع "
بابن مريم " يتحدى اعتقادهم الفاسد : ومن يتلو القرآن يجد قرابة صميمة قوية بين الإسلام و الحنيفية . ففيما نسمع القرآن يقول { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين } . [ النحل 16:123] . ونسمعه يقول في موضع آخر على لسان نبيه :{ وأُمرت أن أكون من المسلمين }[ النمل 27: 91]، بل {أول المسلمين }[ الأنعام 6: 163] ، ثم ننتقل من مكة إلى المدينة، ومن حالة التردد والحيرة إلى حالة الركون والصراحة فنسمعه يعلن الوحدة التامة بين الحنيفية والإسلام ، فكلاهما ملة واحدة قائمة بنفسها تجاه اليهود والنصارى والمشركين :{ وما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن حنيفا مسلما وما كان من المشركين . ال عمران 67.
وللأستاذ " يوسف الدرة حداد " باب قيم في هذا المجال بــكتابه ( القرآن والكتاب ) يبحث فيه علاقة محمد بالحنيفية ، ولفائدته ننقله هنا
" .. ونشاهد تطور هذه العقيدة في خمس سور مكية ، وخمس سور مدنية ، تتعاقب ما بين هجرة محمد إلى الطائف وانتصار المسلمين في معركة بدر : بدأ محمد فبل بعثته حنيفاً مستقلاً ، ويظهر في القرآن المكي حنيفاً كتابياً .. إن أول إشارة إلى الحنيفية نجدها في سورة يونس ( 1. ) ترينا الوحدة القائمة بين الدعوات الكتابية والحنيفية والقرآنية : { قل : يا أيها الناس ، إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ، لكن أعبد الله الذي يتوقاكم . وأُمرت أن أكون من المؤمنين ، وأن أقم وجهك للدين حنيفاً ولا تكونن من المشركين }[ 1.: 104- 105 ].فالدعوة إلى الله دون سواه هي الحنيفية ، والحنيفية هي إيمان المؤمنين الذين أمر أن يكون منهم
1: ومحمد لا يرى فرقاً بين الحنيفية والإسلام وتوحيد التوراة والإنجيل ، لأن الحنيف هو الذي لا
يشرك بالله :{ أنى وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أن من المشركين }[ الأنعام 6:79]. فلقد كانت اليهودية في مزاميرها خاصة تدعو إلى الصراط المستقيم أي دين الله ، والنصرانية تدعو إلى الدين القيم أي دين الله والمسيح ، والحنيفية إلى ملة إبراهيم ، أي الإسلام والتسليم لله وحده لا شريك له ، وحدها محمد في قوله:{هداني ربى إلى صراط مستقيم ، ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين ) الأنعام 161.
2 . وهذا النص الآخر يجعل من الثلاثة الإسلام لله رب العالمين :{ قل : إن صلاتي ونسكي ومحياى ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له ، وبذلك أُمرت وأنا أول المسلمين }[أنعام6: 162- 163]، أى من هذه الأمة ( الجلالان ) لأن إسلام كل نبي متقدم على إسلام أمته ( البيضاوى) فالإسلام في هذه السورة هو توحيد الحنيفية والكتاب ن لاتمييز بينهما على الإطلاق ز وإذا قارنا الآية 161 من الأنعام بالآية 9. من السورة عينها ، رأينا أن الصراط المستقيم والدين القيم وملة إبراهيم الحنيف هي هدى الكتاب وأنبيائه :{أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة - فإن يكفر بها هؤلاء ( مشركو مكة ) فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين - أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}[ 89- 9. ] فإلى هدى أهل الكتاب أهتدي محمد ، وبه يؤمر ان يقتدى.
وفى سورة النحل ( 16 ) نجد إبراهيم أول حنيف ومحمد آخرهم :{ إن إبراهيم كان إماماً قانتاً لله، حنيفاً ولم يكن من المشركين ، شاكراً لأنعمه ، اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم ....ثم أوحينا إليك أنأن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين } [ نحل 16: 12. - 123 ]. ولكن هذه الحنيفية هي الإيمان بالكتاب ، فإذا شك المكيين في ذلك فليسألوا أهل الكتاب :{ ... فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر. وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } [16: 43- 44 ] ، وإن إحالة السامعين على أهل الذكر ، العلماء بالتوراة والإنجيل ( الجلالان ) ، لتوحى بأن محمداً يتفق معهم بإيمان واحد في الذكر الكريم أي الكتاب ( البيضاوى ) وغاية القرآن أن يبين للعرب ما نزل للناس في الذكر الأول . ووحدة الاسم ( الذكر ) بين الكتاب والقرآن تدل أيضاً على وحدة الدعوة والإيمان بين الكتابيين ، المؤمنين الأولين والمسلمين :{قل : نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين}[ 16: 102 ]، فالقران إذن تثبيت للمؤمنين الاولين وهدى للمسلمين .
فى سورة إبراهيم ( 14 ) يصرح إبراهيم في دعائه إلى الله أن من تبعه فإنه منه ، لذك يدعو محمد أهل مكة إلى حنيفية إبراهيم الكتابية ليكونوا جديرين بجدهم خليل الله في الدين والقومية :{وإذ قال إبراهيم : رب اجعل هذا البلد أمناً واجنبنى وبنى أن نعبد الأصنام . رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه منى ومن عصاني فإنك غفور رحيم } [14: 35- 36 ].إنها شهادة متوترة في القرآن بأن أكثرية أهل مكة على الشرك ، ولكن هناك من لم يزل على التوحيد الإبراهيمي ، فمن كان على هذا التوحيد فإنه " من إبراهيم 4.
وفى سورة الروم ( 3. ) يعلن محمد أن هذا التوحيد الذى يدعو إليه مع أهل الكتاب والذكر هو الدين القيم ، وهو الحنيفية التي فطر الناس عليها : { فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها - لا تبديل خلق الله - ذلك الدين القيم لكن أكثر الناس لا يعلمون } [ 3.: 3. ]
ففى جميع الآيات المكية يأتي ذكر الحنيفية مقروناً بالتوحيد الكتابي كأنه لا فرق بينهما .... ويختم محمد كرازته في مكة بإعلان الوحدة الدينية بين أتباعه والكتابيين :{ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن - إلا الذين ظلموا منهم - وقولوا : أمنا بالذي إلينا وأنزل إليكم ، وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له لمسلمون . العنكبوت 46.
كانت الهجرة النبوية إلى المدينة انقلابا في الداعي وفى الدعوة وطريقتها
ففي الفترة التي سبقت الهجرة ، بعد رجوع محمد خائباً من الطائف ، أخذ يميل في توحيده إلى الاستقلال عن أهل الكتاب ، ويظهر ذلك في السور المكية الأخيرة (كالعنكبوت مثلاً).وهذا التوحيد هو الحنيفية التي أخذ محمد ، منذ سورة البقرة ، يحييها ويميزها عن اليهودية والنصرانية:{ وفالوا : كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا ! بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين . البقرة 135.
ثم جعل محمد يفكر في تأسيس الحنيفية ، ملة توحيدية كتابية عربية مستقلة كملتى الكتاب .
{ وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً } [ البقرة 2: 143] . ويريد أن يجعل هذه الأمة الجديدة الموحدة (وسطاً)بين الكتابيين والأميين أى مشركى العرب الذين لا كتاب لهم ( الجلالان ) كما ستصرح به آية [ آل عمران 3: 2. ] { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين : أأسلمتم ؛ فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما تولوا فإنما عليك البلاغ } . ولكن ، على ما تقوم هذه الأمة الوسط ؟ إنها تأخذ عقيدتها عن الكتابيين وتشترك مع أنبياء الكتاب في صحة التوحيد:{ قولوا : أمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق والأسباط وما أوتى موسى وعيسى ، وما اوتى النبيون من ربهم ، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} [ البقرة 2: 136 ]. وتأخذ شرائعها عن القومية العربية : ففى سورة النساء، يوضح القرآن أنه كان يهدى بسنن أهل الكتاب ثم عدل عنها إلى عادات قومه ليخفف عنهم :{ يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ..... يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ) النساء 26-27.
هذا الاستقلال العربي في التوحيد والتشريع عن اليهود والنصارى لا ضير فيه لأن التوحيد من إبراهيم قبل الإنجيل والتوراة ، فلا سبيل إلى الحجاج :{ قل : أتحاجونا في الله ، وهو ربنا وربكم ، ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون ، أم تقولون أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى ؟ قل : أأنتم أعلم أم الله ؟ ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله ! ومالله بغافل عما تعلمون} البقرة 139.
وشعار الاستقلال في قبلة الصلاة . فقد كانت القبلة المحمدية في مكة إلى بيت المقدس مثل أهل الكتاب ، ولما إستقل عنهم في المدينة عاد إلى قبلة قومه نحو الكعبة ، ولم تطهر بعد :{ قد نرى تقلب وجهك في السماء ، فلنولينك قبلة ترضاها ، فول وجهك شطر المسجد الحرام ؛ وحيث كنتم فولوا وجوهكم شطره }[ البقرة 2: 144 ]. وكانت وحدة التوحيد بين محمد وأهل الكتاب تظهر في مكة من خلال وحدة القبلة ، وإذاً الاستقلال، في المدينة ، يظهر في اختلاف القبلة ، شعار الملة . { وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره ، لئلا يكون للناس عليكم حجة }[ 2: 15. ] . فبدت هذه الظاهرة الجديدة " كبيرة " على بعض الكتابيين :{ سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟ ... وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله } [142-143]
ويظهر لنا القرآن أن هذا التغبير والاستقلال والانقلاب كان لمصلحة محمد الشخصية:{ وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبه }[ 2: 143] ؛ ولمصلحة أمته :{ ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون } [ 2: 15.] . لأن هذا الاستقلال في " الأمة الوسط " يعطيهم كياناً دينياً مستقلاً :{ كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ، ويعلمكم الكتاب والحكمة ، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون } [ 2: 151 ] وهذا الاستقلال العربي في التوحيد لا يعنى انفصالا عن توحيد الكتاب ، فقد {آمن الرسول بما أُنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، لا نفرق بين أحد من رسله } [2: 185]؛ والقبلة والتشريعات الثانوية لا تضير وجه التوحيد بينهم [ 2: 177] . وفى سورة البقرة حتى واقعة بدر ، أستقل محمد بالحنيفية العربية الإبراهيمية " أمة وسطاً" ، وبعد واقعة بدر وظهور سلطان المسلمين ، بدأ محمد يدعو إلى توحيد ملل التوحيد الكتابي تحت أسم التوحيد الجديد الذي أحتكره ، أي " الإسلام " . وكان في مكة يدعو إلى توحيد الآلهة فأمسى في المدينة يدعو إلى توحيد التوحيد الكتابي :{ قل : يأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ، ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا أربابا من دون الله . فإن تولوا فقولوا: أشهدوا بأن مسلمون ( موحدون : الجلالان ) ال عمران 64.
فالإسلام من إبراهيم ، لا مراء في ذلك وهو الدين الحنيف :{ يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون ، ها أنتم حججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ، ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانيا ولكن كان حنيفاً مسلماً ، وما كان من المشركين }[ آل عمران 3: 66 - 67] . لاحظ ، لقد كان إبراهيم في مكة من المؤمنين ، فصار في
البقرة حنيفاً ( 125 ) ، وأمسى في آل عمران مسلماً (67) كانت ملة إبراهيم في مكة إسلام التوحيد الكتابي ، فصارت في المدينة ، بعد بدر طائفة مستقلة في ذاك التوحيد المنزل ، تنسب مباشرة إلى إبراهيم من فوق الإنجيل والتوراة . وصار عيسى وموسى وإبراهيم مسلمون . لذلك فالمسلمون العرب أولى بإبراهيم من اليهود والنصارى لأن الإسلام هو الحنيفية الكتابية الإبراهيمية :{ إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه ( الحنفاء ) وهذا النبي ( محمد ) والذين آمنوا ( المسلمون ) والله ولى المؤمنين }[ آل عمران 3: 68 ]. وإسلام الحنيفية أفضل أمم التوحيد :{ قل: صدق الله ، فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين}[ 3: 95] والأمة التي على هذه الحنيفية هي خير الأمم :{ كنتم خير أمة أخرجت للناس }[ 3: 11.] . وهذا الإسلام الحنفي الذي لا يقبل الله ديناً غيره [ 3: 85]، هو هدى الكتاب مَن به الله على العرب المسلمين :{ لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آبائه ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين }[ 3: 164] . وفى سورة النساء (4) يصر على التوحيد الكتابي ويدعو إليه أهل الكتاب والمسلمين أنفسهم :{ يا أيها الذين أمنوا ، أمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً}[ 4:136]. لأن الأصل هو التوحيد لا الملة :{ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ، من يعمل سؤاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً ،
ومن يعمل من الصالحات ، من ذكر أو أنثى - وهو المؤمن - فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً}[ 4: 123 124 ]. ومع ذلك فأفضل ملل التوحيد ملة إبراهيم ، الحنيفية أي الإسلام :{ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن ، وأتبع ملة إبراهيم حنيفاً ، واتخذ الله إبراهيم خليلاً} [ 4: 125] .
فطلبوا منه البينة ( 98 ) على أفضلية توحيد ه على سائر ملل التوحيد الكتابي :{ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب منفكين حتى تأتيهم البينه ، رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة فيها كتب قيمة }[ البينة 98: 1- 3 ] ، فيجيب :لقد جاءتهم هذه البينة في القرآن فهو صحف مطهرة فيها كتب قيمة تدعو إلى الحنيفية ، دين القيمة :{ وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ، حنفاء ويقيمون الصلاة ويؤتوا الزكاة ، وذلك دين القيمة }[ 98: 5]؛ وإذ كان اليهود يدعون التوحيد التوراتى بالصراط المستقيم في زبورهم ، والنصارى يدعون التوحيد الإنجيلى بالدين القويم يقول القرآن بأن التوحيد الذي أمروا به في كتبهم المنزلة هو إسلام الحنيفية ، دين القيمة الذي ينشده المخلصون من اليهود والنصارى والعرب الحنفاء .
ولكنه في سورة الحج ( 22 ) وهى مبيعضة [ أي أن بعض آياتها مكي ، وبعضها مدني ] ، يميل إلى الاعتدال فيفوض أمر الملة الفضلى إلى الله:{ أن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا …. إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شئ شهيد {[ 22: 17] لأن الأصل الذي لا غنى عنه في الدين هو الابتعاد عن الشرك والتحنف لله :{ فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور ، حنفاء غير مشركين به ، ومن يشرك بالله وما جعل عليكم في الدين من حرج ، ملة إبراهيم أبيكم .
وهو سماكم المسلمين من قبل وفى هذا ليكون الرسول عليكم شهيداً وتكونوا شهداء على الناس }[ 22: 87] .
ويختم القرآن ، في العهد المدني على استقلال النبي في إسلام الحنيفية الكتابية ، نزل عرفة ، عام حجة الوداع ( الجلالان ) :{ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}[ المائدة 5: 3] .
واستقلال المسلمين في شريعة قرآنهم لا يمس استقلال اليهود في شريعة توراتهم [ 5: 47] ولا استقلال النصارى في شريعة إنجيلهم ( 5: 5. ) لأنه { أنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ... لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ؛ ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات } 5: 48. فقد كرس القرآن نهائياً استقلال الشرائع الثلاث التوحيدية ، ومساواتها في التوحيد مع أفضلية الحنيفية وهيمنة القرآن . وختم القرآن كما أفتتح في سورة البقرة 2: 62 بإعلان المساواة في عقيدة التوحيد بين أمم التوحيد المنزل كلها : { إن الذين أمنوا والذين هادوا والنصارى ، من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } . مائدة 5:69. فالاستقلال بالشريعة ليس انفصالا في العقيدة لأن عقيدة التوحيد واحدة في الكتب المنزلة الثلاثة ، كما جمعها القرآن في آخر سورة نزلت منه خواتيمها :{ إن الله أشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة …. وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ، ومن أوفى بعهده من الله ، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم }[ التوبة 9: 111.
وهكذا فإسلام القرآن هو الحنيفية العربية اهتدت في محمد إلى هدى الكتاب [ الأنعام 6: 9. ] . وهذه الحنيفية القرآنية هي " تعريب " التوحيد الكتابي في " أمة وسط " [ البقرة 2: 143] وتشريع وسط [ نساء 4: 25- 27.
وهذا يتفق و رأى الأستاذ / خليل عبد الكريم في كتابه " قريش من القبيلة .. ص 12. " الذي أورده كما ننقله هنا بنصه " وهناك رأى أن محمد مؤسس دولة القرشيين في يثرب كان قبل تبليغه رسالة من ( الأحناف ) [ .. يمكن الاستنتاج من رواية السهيلي إذا صحت أن الرسول في حياته الأولى ونشاطه الديني كان حنيفياً وعلى صلة بــ مسيلمة الكذاب وغيره من الأحناف ] ، ولعل ما يؤيده ما جاء في دواوين السنة النبوية .... أنه عرض عليه عمر بن الخطاب أنه يقرأ أشياء في التوراة تتفق مع ما جاء به الرسول غضب وقال :" أمتوكو ن يا بن الخطاب والله لقد جئتكم بــــ " الحنيفية " السمحة ، ولو كان موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا إتباعى ، ولما ورد في مصحف عبد بن مسعود " إن الدين عند الله الحنيفية ( بدلاً) من " إن الدين عند الله الإسلام " [ آل عمران 3: 19 ] ، وكذلك أيضاً لما ورد في سيرة محمد من ترفع عن الدنايا والإنصاف بالأخلاق الحميدة والنفور من عبادة الأصنام ، والاعتكاف في غار حراء لــ " التحنث " في شهر رمضان . وحراء هو ذات الغار الذي كان يلجأ إليه " المتحنف " المجمع على تحنفه " زيد بن عمرو بن النفيل العدوى وأيضاً جده المباشر عبد المطلب زعيم الحنيفية .وكذا يذكر أبن هشام [ج1:ص235]كان رسول الله صلعم يجاور( يعتكف) في حراء من كل سنة شهراً ، وكان ذلك مما تحنث به قريش في الجاهلية .
بدون مقدمات أقول
المشهد الأول
لقد قيل عن ( القس ) ورقة بن نوفل انه كان على دين موسى ، ثم صار على دين عيسى، أي كان يهوديا ثم صار نصرانيا . راجع سيرة ابن هشام 1/203
وقد قيل ان ورقة بن نوفل قد استحكم بالنصرانية ، واتبع الكتب من أهلها حتى علم علما من أهل الكتاب . راجع سيرة ابن هشام 1/ 175 و 205 . وقد جاء في صحيح البخاري : ان القس ورقة كان يكتب الكتاب العبراني ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله ان يكتب . راجع صحيح البخاري بشرح أكرماني 1/38-39.
وجاء في صحيح مسلم : ان القس ورقة كان يكتب الكتاب العربي ، ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله ان يكتب . راجع صحيح مسلم 1/78-79 .راجع أيضا الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني 3/114 .
لم يعرف ، في كتب السير والتاريخ ، عن القس ورقة مهمة غير هذه ، وهي مهمة نقل الإنجيل العبراني إلى العربي .
كان قس مكة (ورقة بن نوفل ) ابن عم خديجة زوجة محمد. راجع سيرة ابن كثير 1/267.
المشهد الثاني
زواج محمد من خديجة
بعدما دخل محمد في خدمة خديجة ، بإلحاح من عمه أبي طالب الذي قال له يومها :
يا ابن أخي أنا رجل لا مال لي وقد اشتد الزمان علينا وألحت علينا سنون منكرة وليس لي مال ولا تجارة وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام ، وخديجة تبعث رجالا يتجرون بمالها ويصيبون نفعا فلو جئتها لفضلتك على غيرك لما بلغها عن أمانتك وطهارتك … الخ) . عن السيرة لابن هشام م1 .
راح محمد يعمل في تجارة خديجة ، راحت هي تدفق عليه الأموال وتعطيه ضعف ما تعطي رجلا من قومه . راجع طبقات ابن سعد 1/119 و156 و 168 والسيرة الحلبية 1/147.
ثم أرسلت اليه ذات يوم خادمتها نفيسة تفاوضه في الزواج منها :
(قالت نفيسة بنت منية : أرسلتني خديجة دسيسا إلى محمد بعد أن رجع من رحلة الشام ، فقلت له: يا محمد ما يمنعك من الزواج ، قال: ما بيدي مال أتزوج به ، قلت: فإن كفيت ذلك ودعيت إلى الجمال والمال والشرف ألا تجيب ، قال: من ، قلت: خديجة ، قال وكيف لي ذلك ؟ قلت: علي وأنا أفعل.) (راجع كتاب خديجة أم المؤمنين لمحمود شلبي ص137-138) .طبقات ابن سع 1/131 والسيرة الحلبية 1/152-153.
عندما بلغت الساعة الحاسمة ، أرسلت خديجة إلى أعمامها حضروا . وأرسل محمد إلى أعمامه فحضروا هم أيضا . واجتمع الناس . وخطب ولي أمره أبو طالب وقال … وابن اخي له في خديجة بنت خوبلد رغبة ، ولها فيه مثل ذلك .
وخطب القس ورقة ولي امر خديجة وقال : الحمد لله الذي جعلنا كما ذكرت ، وفضلنا على ما عددت . فنحن سادة العرب وقادتها ، وانتم أهل ذلك كله . لا ينكر العرب فضلكم . فاشهدوا على يا معشر قريش . اني قد زوجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله. وفرح ابو طالب فرحا شديدا ، وقال الحمد لله الذي أذهب عنا الكرب ودفع عنا الغموم . (راجع السيرة الحلبية م1 ص155) . راجع ايضا سيرة ابن هشام 1/206.
نتوقف عند حدث الزواج هذا لنبدي بعض الملاحظات المهمة والخطيرة والتي لها مدلولا اخطر ..
1) يلاحظ أولا مقام القس ورقة في مكة وفي ال قريش : فهو من سادات قريش وقواتها (فنحن سادة العرب وقادتها) راجع سيرة ابن هشام 1/206.
2) يلاحظ ثانيا ان القس ورقة لم يكن حاضرا حفلة الزواج ومتقدما على الحاضرين وحسب . بل كان محتفلا بالعقد ومكللا. فهو الذي ابرم العهد، وشهد عليه ، وأعلن على الحضور ما جرى. هو المحتفل الأول بالعقد ، أو قل هو الكاهن الذي ربط باسم الله ما لا يحله إنسان ، بحسب تعاليم إنجيل الابيونيين . كاهن نصراني يزوج العروسين ويبارك زواجهما(فاشهدوا على يا معشر قريش. اني قد زوجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله) ، فعلى أي دين الزوجان اذن ؟؟؟
أضف إلى ذلك استمرارية الزواج الذي ربط بين الزوجين حتى موت إحداهما هي من صفات زواج النصارى .
الرسول احمد في الإنجيل
توطئة
قصة احمد في القران والسيرة :
1) في سورة الصف هذه الآية اليتيمة: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ
مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ .
قال ابن هشام في سيرته النبوية ج 1/249 : صفة رسول الله من الإنجيل : " وقد كان فيما بلغني عمّا كان وَضَعَ عيسى بن مريم فيما جاءه من الله في الإنجيل لأهل الإنجيل من صفة رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) مما أثبت يُحَنّس الحواريّ لهم، حين نسخ لهم الإنجيل عن عهد عيسى بن مريم عليه السلام في رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) إليهم أنه قال: من أبغضني فقد أبغض الرب، ولولا أنّي صنعت بحضرتهم صنائع لم يصنعها أحد قبلي، ما كانت لهم خطيئة، ولكن من الآن بَطِرُوا وظنّوا أنهم يَعُزُّونني، وأيضاً للربّ، ولكن لا بد من أن تتمّ الكلمة التي في الناموس: أنهم أبغضوني مجاناً، أي باطلاً. فلو قد جاء المنْحَمنّا هذا الذي يرسله الله إليكم من عند الربّ، وروح القُدُس هذا الذي من عند الربّ خرج، فهو شهيد عليّ وأنتم أيضاً؛ لأنّكم قديماً كنتم معي في هذا، قلت لكم: لكيما لا تشكوا.
والـمُنْحَمنّا بالسريانية: محمد: وهو بالرومية :الْبَرَقْلِيطِس، صلى الله عليه وآله وسلم" .
فأهل السيرة يرشدونا في اسم (احمد) الوارد في القران ، الى لفظه السرياني والرومي، (مما أثبت يُحَنّس الحواريّ لهم، حين نسخ لهم الإنجيل).
1 – (احمد) في القران
نوجز الواقع القرآني في هذه الاعتبارات .
اسم النبي العربي في القران هو (محمد) ، كما يرد في أتربع آيات :
(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) ال عمران 144.
(مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ ). الأحزاب 40
(وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ) . محمد 2 .
(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) . الفتح 29 .
لذلك فوروده بلفظ (احمد) مرة يتيمة مشبوه ، ولا يعرفه الواقع التاريخي.
2) ان تغير اسم (محمد) المتواتر إلى (احمد) في لفظة يتيمة في القران كله ، تغيير مقصود ، لكي ينطبق على قراءة شاذة ، لا اصلها في المخطوطات الإنجيلية كلها ، في كلمة (الفارقليط) ، بحسب الإنجيل . فالتحريف ظاهر في القران ، كما سنرى .
3) في القران كله ، في النصوص كلها التي يرد فيها ذكر المسيح، ظاهرتان :
الأولى : يقفي القران على كل الرسل بالمسيح ، ولا يقفي على المسيح بأحد ( البقرة 87 ؛ المائدة 44 ؛ الحديد 27).
الثانية : المسيح نفسه في ما ذكر القران عنه، لا يبشر بأحد من بعده على الإطلاق ، إلا في بعض تلك الآية اليتيمة .
وهذا يجعل تعارضا ما بين الموقف المتواتر ، والموقف الشاذ اليتيم فيه .
والعقيدة في كتاب منزل تؤخذ من المحكم فيه ، لا من المتشابه .
4) وفي محكم نظم القران ، اذا اسقط بعض الآية المشبوه ، لا يختل النظم ولا البيان ولا التبيان ولا السياق اللفظي او المعنوي:
( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ . فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ) .
ويؤكد ذلك المعنى نفسه المتواتر في ( ال عمران 49 ؛ المائدة 44؛ الزخرف 63 : ففيها جميعا لا يبشر المسيح برسول من بعده.
فهذا الواقع المتواتر يشير إلى إقحام مكشوف في آية الصف 6 .
5) سورة الصف كلها حملة على اليهود الذين كفروا بموسى (5)
وبعيسى ( 7 ويكفرون بمحمد(8-9) . ويختتم السورة بإعلان تأييد الدعوة القرآنية للنصرانية على اليهودية ، حتى )اصبحوا ظاهرين (14) . فلا إشارة في السورة ، ولا دليل ، يقضي بهذه الإضافة :
(وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) .
فتأمل موقف اليهود من المسيح وهو يبشرهم برسول يأتيهم من العرب الوثنيين ! فلو فعل لكفروه مرتين ، ولقتلوه مرتين ! .
6) ليست قراءة اسمه احمد ثابتة. فهي غير موجودة في قراءة أبي.
وهذا دليل اثري على تطور الإقحام قبل التدوين الأخير . راجع : blachère : le coran > T II p 909
فيحق لنا إسقاط قراءة (اسمه احمد) . حينئذ يأتي التبشير (برسول يأتي من بعدي ) متطابقا في القران والإنجيل على الروح القدس .
7) الإنجيل يعتبر المسيح خاتمة النبوة والكتاب . والقران يصدق الإنجيل في ذلك ، إذ انه لا يقفي ، في تسلسل الرسل على المسيح بأحد . والرسول الذي يبشر به الإنجيل ، هو الروح القدس ؛ وهو ليس ببشر ؛ ولا يظهر لبشر حتى يكون (رسولا بشرا) ، اسمه (احمد) .
فكل تلك القرائن والدلائل تشير إلى إقحام (اسم احمد) على آية الصف؛ وقد أسقطت الإقحام قراءة أبي .
2 – (الفارقليط) في الإنجيل
في الإنجيل بحسب يوحنا ، الذي تقودنا إليه السيرة النبوية لابن هشام ، لا كلمة (الفارقليط) تعني (احمد) ؛ ولا اوصاف (الفارقليط) فيه يمكن ان تعني ( محمدا) أو بشرا على الإطلاق.
وفي توحيد السيرة ، نقلا عن الإنجيل ، بين الفارقليط والروح القدس ما كان يغنيهم عن ورطتهم . فالإنجيل يقول (الروح القدس) على العلمية، وسنرى معناه في الإنجيل . والقران يجعل (روح القدس) ، جبريل،(النحل 103 ؛ البقرة 92) . فكيف يكون الفارقليط ، روح القدس جبريل النبي (احمد) ؟ وكيف خفي هذا عن أهل السيرة وأهل التفسير ؟ . وكيف يمكن لعاقل اليوم ان يدعي بان (احمد) هو الفارقليط ، روح القدس ؟ أكان ذلك بحسب قراءة القران ، أم بحسب قراءة الإنجيل .
والواقع الإنجيلي فيه مسألة أثرية ، ومسألة موضوعية .
1) المسالة الأثرية . ان المخطوطات الكبرى التي ينقلون عنها الإنجيل، والموجودة في المتاحف الشهيرة ، هي من القرن الرابع ميلادي ، قبل القران بمئتي سنة ونيف .
وكل المخطوطات قرأت الفارقليط ، البارقليطس (paracletos )
أي المعين – وبعضهم ترجم : المعزي ، المحامي ، المدافع – ولم يقرأ مخطوط على الإطلاق (Periklutos) أي محمود الصفات ، احمد الأفعال، كثير الحمد .
لكن في نقل الكلمة اليونانية بحرفها إلى العربية (برقليطس) ضاعت القراءة اليونانية الصحيحة ؛ وجاز تحريف المعنى إلى (احمد) . فقولوا الإنجيل ما لم يقل .
وقد حاول تقويم التحريف الذين قرأوا ( فارقليط) القريب في مخرجه من مطلع الحرف اليوناني .
فليس في الحرف اليوناني الصحيح ، الثابت في جميع المخطوطات ، من اثر لقراءة تعني (احمد) .
2) المسِألة الموضوعية .
كذلك ليس في أوصاف الفارقليط في الإنجيل ، ما يصح ان ينطبق على مخلوق : فكيف يطبقونه على بشر رسول ؟.
في حديث أول ، قال يسوع : ( وأنا أسأل الآب فيعطيكم فارقليط آخر ، ليقيم معكم إلى الأبد ، روح الحق ، الذي لا يستطيع العالم ان يراه ، ولا يعرفه . أما انتم فتعرفونه ، لأنه يقيم معكم ) يوحنا 14: 16-17. تلك الأوصاف تدل على إلهية الفارقليط :
الفارقليط يقيم مع تلاميذ المسيح إلى الأبد – وليس هذا في قدرة مخلوق.
الفارقليك هو (روح الحق) ، أي روح الله . وهو أيضا روح المسيح لأن المسيح وصف نفسه : (الحق) يوحنا 4: 6 – فهو روح الله وروح الحق . ومن الكفر نسبة هذه المصدرية إلى مخلوق .
الفارقليط يتمتع بطريقة وجود الله في كونه وعالمه : الوجود الخفي ، لذلك ( لا يستطيع العالم ان يراه) – ومن الكفر نسبة تلك الصفات إلى البشر .
الفارقليط يتمتع بسعة الله ، وروحانيته ، في إقامته بنفوس المؤمنين. (يكون معكم ويكون فيكم ) – ومن الكفر اسند هذه الصفة لمخلوق .
فكيف يكوت الروح القدس ، الفارقليط ، النبي (احمد) ؟ او أي بشر رسول ؟ او أي مخلوق ؟.
ومن ناحية أخرى ، فان الفارقليط ، الروح القدس ، يبعث إلى الحواريين الذين يخاطبهم المسيح ، مسليا لهم في رفعه عنهم إلى السماء . فكيف يكون الفارقليط (احمد) آلاتي بعد ستمائة سنة للعرب ؟.! .
فكل القرائن اللفظية والمعنوية تدل على ان الفارقليط لا يمكن ان يكون بشرا ولا مخلوقا .
وصفاته الإلهية وخلوده وعمله في المسيحيين (إلى الأبد) ، براهين ساطعة على ألهيته .
في حديث ثان ، يقول المسيح : ( قلت لكم هذه الأشياء وأنا مقيم معكم. والفارقليط ، الروح القدس، الذي سيرسله الآب باسمي ، فهو الذي يعلّمكم كل شيء ، ويذكركم بجميع ما قلت لكم) يوحن 14 : 25-26.
هنا يسمي الفارقليط باسمه المتواتر : (الروح القدس) . لاحظ التعبير المطلق ، على العلمية : فهو (الروح) على الإطلاق – وهذه صفة إلهية؛ وصفه (القدس) تنزيه له عن المخلوق ، لان (القدس) في لغة التوراة والإنجيل والقران كناية عن اله ، بصفة التجريد والتنزيه . ولاحظ الفرق العظيم مع التعبير القرآني ، (روح القدس) مرادفا لجبريل ، فهنا إضافة للتشريف ، لا للمصدرية . انها تسمية ، ما بين الإنجيل والقران ،على طريقة المشاكل، لا على طريقة المقابلة . وبما ان (روح القدس) هو جبريل في القران ، فقد كفر بمحمد نفسه من جعل محمدا الملاك جبريل، روح القدس ، الفارقليط .
هذا في ذات الفارقليط . وفي صفاته قول :
ان الفارقليط يرسله الله باسم المسيح – فهل أرسل (احمد) باسم المسيح ؟.
ان الفارقليط يعلم الحواريين كل شيء – فهل تخطى (احمد) الزمن وظهر للحواريين (يذكرهم جميع ما قاله المسيح لهم) ؟ .
والفارقليط يعلم رسل المسيح (كل شيء) : هذا هو العلم الرباني وسعته الإلهية – فهل ينطبق هذا على بشر ؟ ام على مخلوق ؟ .
فذات الفارقليط وصفاته تمنع من ان يكون (احمد) ، الرسول البشر.
ان مصدرية الفالقليط الإلهي ، وعمله الإلهي ، أسمى من المخلوق؛ ورسالته تتمة لرسالة المسيح ، وهي مخصوصة برسل المسيح والمسيحية .
في حديث ثالث قال : ( ومتى جاء الفارقليط الذي أرسله إليكم من لدن الآب ، روح الحق الذي ينبثق من الآب ، فهو يشهد لي ، انتم أيضا تشهدون بما أنكم معي منذ الابتداء) يوحنا 15: 26.
هذه الآية تعلن مباشرة إلهية الفارقليط : انه (ينبثق من الآب) أي من ذات الآب. والتعبير (ينبثق) ينفي الصدور بالخلق .
فهو (روح الحق) يصدر من ذات الآب ، في ذات الآب ، لذات الآب.
وبما ان (الحق) هو أيضا (المسيح نفسه) فصفته (روح الحق) تدل على صدوره أيضا من المسيح، بصفة كونه (الحق) مع الله، أي كلمة الله. ودليل صلته المصدرية بالمسيح ، لمة الله ، كون المسيح هو الذي يرسله من لدن الآب : (أرسله إليكم من لدن الآب) .
فالفارقليط ، (روح الحق ، الذي ينبثق من الآب) هو روح الله الآب ، والمسيح الكلمة في آن واحد فمن الكفر نسبته إلى مخلوق .
ورسالته هي الشهادة ، مع الحواريين ، للمسيح :فهل كان (احمد) يشهد مع الحواريين في زمانهم للمسيح ؟ .
في حديث رابع يقول : (إني أقول لكم الحق : ان في انطلاقي لخيرا لكم ، فان لا انطلق لا يأتكم الفارقليط ؛ واما متى انطلقت ، فإني أرسله إليكم . ومتى جاء فهو يفحم العالم على الخطيئة ، وعلى البر وعلى الدينونة . فعلى الخطيئة لأنهم لم يؤمنوا بي . وعلى البر ، لأني منطلق إلى الآب ولا تروني من بعد . وعلى الدينونة ، لأن زعيم هذا العالم قد ين ) ب يوحنا 16: 7-11 .
يسلي المسيح حوارييه ببعثة الفارقليط إليهم ، ويربط بين رفعه إلى السماء ، وبين بعثة الروح الفارقليط . فهل من رابط شخصي او زماني او مكاني او حياتي او رسولي بين رفع المسيح وبعثة محمد ؟ وهل يصح ان ينطبق ذلك على (احمد) بعد مئات السنين ؟.
ورسالة الفارقليط ، ( الذي لا يستطيع العالم ان يراه ) ، هي رسالة روحية فلا يصح بحال ان تنسب إلى (احمد) . ورسالة الفارقليط هي تتمة متلاصقة لرسالة المسيح ؛ وليست هكذا بعثة (احمد) .
ورسالة الفارقليط هي الشهادة للمسيح وحده : فهو يفحم العالم على خطيئته لنه لم يؤمن بالمسيح ؛ ويفحم العالم بصحة الايمان بالمسيح ، وان رفع إلى السماء ؛ ويفحم العالم بنصر المسيح على إبليس ، زعيم هذا العالم ، الذي رفع المسيح سلطان إبليس عنه . وهذه رسالة لا يمكن ان يقوم بها (احمد) ولا أي رسول بشر .
في حديث خامس يقول أخيرا : ( وعندي أيضا أشياء كثيرة أقولها لكم غير انكم لا تطيقون حملها الآن . ولكن متى جاء هو ، روح الحق فإنه يرشدكم الى الحقيقة كلها. فإنه لا يتكلم من عند نفسه ، بل يتكلم بما يسمع ويخبركم بما يأتي . إنه سيمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم . جميع ما هو للآب هو لي . من اجل هذا قلت لكم إنه يأخذ مما لي ويخبركم ). يوحنا 16: 12-15.
عالم الفارقليط الهي : فهو يرشد رسل المسيح ( إلى الحقيقة كلها) ويخبرهم بما يأتي ( - فهل يستطيع هذا (احمد) مع حواريي المسيح ؟ وهو لا يعلم الغيب ؟.
عالم الفارقليط الهي أيضا في مصدره : ومصدره هو العلم الإلهي الواحد بين الله الآب والمسيح كلمته ، (فجميع ما للآب هو لي؛ من اجل هذا قلت لكم إنه يأخذ مما لي ويخبركم ) – فهل يستمد (احمد ) علمه كما يستمد ذاته ، من الله الآب نفسه، ومن كلمته ذاته ؟.
وعمل الفارقليط الإلهي يتم مع صحابة المسيح أنفسهم : فهل كان (احمد) فوق الزمان والمكان مع صحابة المسيح ؟ .
وفصل الخطاب: ان ذات الفارقليط ، الروح القدس ، إلهية وصفاته إلهية ؛ وأفعاله إلهية . تلك هي شهادة النصوص الخمسة في الفارقليط. اليس من الكفر القول بان الفارقليط في الإنجيل هو (احمد) ؟. ولا تصح هنا أيضا فرية تحريف الإنجيل ، لان تلك النصوص الخمسة ، مكتوبة على الرق ، محفوظة إلى اليوم ، من قبل القران بمئتي سنة ونيف . فهي شهادة تاريخية – ان لم نقل منزلة – على الهية الفارقليط، الروح القدس . فمن الكفر تطبيقها على (احمد) الرسول البشر . فإن ذكر (احمد) لا اصل له لفظا ولا معنى في الإنجيل
عديّ بن زيد:
من شعراء البلاط في الجاهلية، وله قصيدة نظمها في معاتبة النعمان على حبسه يقول في بيت منها:
سعى الأعداء لا يألون شراً .....عليك ورب مكة والصليب
1. ولاية الكعبة لاجداد محمد كانت من قِبل ملوك كندة (المسيحين):
نقل ابن خلدون في تاريخه ( المجلد الثاني: منشورات دار الكتاب اللبناني ص 690): " كان التقدم في مضر كلها لكنانة، ثم لقريش؛ والتقدم في قريش لبني لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر. وكان سيدهم قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي". وكان ولد قصي: عبد الدار وعبد مناف وعبد العزى وعبد قصي.
وكان جد قصي الغوث بن مرة. " كانت امه من جرهم، وكانت لا تلد. فنذرت إن ولدت أن تتصدق به على الكعبه عبدا لها يخدمها، فولدت الغوث. وخلى أخواله من جرهم بينه وبين من نافسه بذلك. فكان له ولوالده وكان يقال لهم: صوفة".
هذه رواية أولى عن انتقال ولاية البيت العتيق من جرهم الى قريش. والرواية الثانية تدل على السبب الحقيقي: " وقال السهيلي عن بعض الاخباريين: ان ولاية الغوث بن مرة كانت من قبل ملوك كندة". وهو الذي اورثها حفيده قصي، الذي تفرد دون بني عمومته: " فرأى قصي أنه أحق بالكعبه وبامر مكة وخزاعة وبني بكر، لشرفه بين قريش؛ وقد كثرت قريش سائر الناس واعتزت عليهم".
وبهذا نرى دخول " النصرانية" في قريش، عند انتقال ولاية البيت العتيق اليهم من بني جرهم، بفضل ملوك كندة، ولاة الحجاز من قبل التبابعة من حمير. في ذلك يصح قول اليعقوبي في تاريخه (1: 298): "أمّا من تنصّر من أحياء العرب، فقوم من قريش". والقب الذي اتخذوه حينئذ يدل عليهم: "وكان يقال لهم صوفة".
. تنصر عبد المطلب زعيم مكة وتحنفه
لقد أجمعت السير النبوية على أن محمدا، قبل مبعثه، كان "يتحنف" مثل جده عبد المطلب، مع ورقة بن نوفل قس مكة. وقد نقلت السيرة الحلبية (1: 259) في ذلك قول ابن الاثير في تاريخه: " اول من تحنث في حراء عبد المطلب: كان اذا دخل شهر رمضان صعد حراء وأطعم المساكين، ثم تبعه على ذلك من كان يتعبد كورقة بن نوفل، وأبي أمية بن المغيرة".
قال الفخر الرازي في تفسيره : " ان أبوي النبي ص كانا على الحنيفية، دين ابراهيم عليه السلام....فوجب ان لا يكون احد من اجداده مشركا". وقد ارتضى كلامه هذا أئمة المحققون، منهم السنوسي، والتلمساني وغيرهم. فعند أهل السيرة والمفسرين والمتكلمين كان والدا محمد مثل جده عبد المطلب الثاني، على الحنيفية المسلمة اي "النصرانية" فانه ليس من اسلام قرآني قبل القرآن.
. هدى محمد في صباه:
هناك ثلاث روايات عن حدث جرى لمحمد في صباه، تفسرها جميعاً كلمة القران " وجدك ضالاً فهدى" (الضحى 7).
رواية اولى في "شق الصدر" وهو ابن خمس سنين: عن أنس انه أتاه جبريل وهو يلعب بين الغلمان، فأخذه، فشق صدره، فاستخرج منه علقه، فقال: هذا حظ الشيطان منك. ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم...ثم أعاده الى مكانه. رواية متواترة في الحديث يوردها الخازن عند تفسير قوله: " ألم نشرح لك صدرك، ووضعنا عنك وزرك، الذي أنقض ظهرك" (الشرح 1-3).
لقد جسّموا ما جاء مجازاً في القران، والحديث عن تطهير محمد من الاثم في صباه، وبما أنه لا يوجد معجزة في سيرة محمد سوى القران، فما معنى رواية شق الصدر وتطهير محمد من الاثم؟؟؟؟
رواية ثانية تقول بأن أمه آمنة ذهبت بمحمد الى يثرب "لزيارة أخواله" أي أخوال جده من بني النجار؛ وربما لزيارة قبر زوجها عبدالله. فمكثت به شهراً بينهم. ولما قفلت راجعة به الى مكة ماتت ودفنت في الابواء، محل بين مكة والمدينة. " وكانت معها بركة الحبشية، أم أيمن التي ورثها عن ابيه عبدالله. فحضنته وجاءت به الى جده عبدالمطلب". وهكذا كان محمد ابن خمس سنوات لما فقد امه ايضا. وحاضنته المسيحية هي التي رجعت به بعد زمن الرضاعة وبعد الزيارة ليثرب، الى مكة، الى جده عبد المطلب.
رواية ثالثة عن ابن هشام ( 1: 176) يقول: ( قال ابن اسحق: وزعم الناس في ما يتحدثون – والله اعلم – أن أمه السعدية ( مرضعه) لما قدمت به الى مكة، أضلها (محمد) في الناس، وهي مقبلة به نحو أهله. فالتمسته فلم تجده. فأتت عبد المطلب فقالت له: اني قدمت بمحمد هذه الليلة. فلما كنت بأعلى مكة أضلني. فوالله ما أدري اين هو. فقام عبد المطلب عند الكعبة يدعو الله ان يرده. فيزعمزن أنه وجده ورقة بن نوفل ، بن أسد، ورجل اخر من قريش، فأتيا به عبد المطلب. فقالا له: هذا ابنك وجدناه بأعلى مكة. فأخذه عبد المطلب على عنقه،وهو يطوف به الكعبة، يتعوذه ويدعو له. ثم أرسل به الى أمه آمنة".
ان الانتحال ظاهر على الرواية كما يشعر ابن اسحق ناقلها: فما الداعي ان يبقى طفلا مع مرضعه خمس سنين؟ وكيف تطيق امه فراق وحيدها اليتيم طوال هذه المدة؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ إن هذه الرواية الثالثة تحريف للثانية. إن أم أيمن، بركة الحبشية، هي التي رجعت الى مكة بمحمد. وهنا تستقيم الرواية.
فجاءت الحاضنة المسيحية بمحمد الصبي الى ورقة بن نوفل، قس مكة، وهو بمعبده ومنسكه في حراء فعّمده بماء زمزم . وهذا معنى اسطورة " شق الصدر " لوضع الوزر الذي ينقض الظهر عن محمد. ولا معنى " للهدى " في صباه بقوله " ووجدك ضالاً فهدى " (الضحى 7) إلا الهداية بالعماد والتنصير، كما يرشح من واقع الحال. قد يكون لقاء ورقة لمحمد أمرا طارئا، وقد يكون مقصودا. فما يعمل القس بمكان تعبده بأعلى مكة؟؟؟ وكيف يفلت محمد من حاضنته ويضيع؟؟؟ والغسل لتطهير الصدر بماء زمزم؟؟؟ وما معنى وقوف عبدالمطلب " يدعو الله ان يرده"؟؟؟ ولما تسلمه من القس أخذ يطوف به حول الكعبة، بيت الله، على عادة اهل الانجيل الى اليوم، حيث يطوف الكاهن المعمِّد مع الكفيل يحمل المعمود في الكنيسة. انه طواف العماد والتنصير الذي يفسر قوله: وجدك ضالا فهدى" ؛ وقوله: " ألم نشرح لك صدرك، ووضعنا عنك وزرك، الذي أنقض ظهرك" (الشرح 1-3).
هذا هو " الهدى" في الصبا، ولا هدى سواه، مهما حرّج المتخرصون
. تحنف محمد مع القس ورقة.
ان التحنث أو التحنف، أو التعبد في الصوم والخلوة، عادة "نصرانية" رهبانية: فالحركة تدور من عبد المطلب الى حفيده محمد حول ورقة بن نوفل، قس مكة "النصرني"؛ ونعتها "بالتحنف" يأتي من صفة "النصارى الحنفاء" كما ينعتهم اهل السنة المسيحية؛ وقيامها في شهر رمضان، قبل القرآن، يدل على ان الشهر شهر الصيام عند "النصارى"، فرمضان شهر صيام "نصراني" قبل ان يكون قرآنيا فانه "كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم" (البقرة 183)
جاء في السيرة الهاشمية (1: 176) على لسان عبدالله بن الزبير: "كان رسول الله ص يجاور في حراء، من كل سنة، شهرا. وكان ذلك مما تحنث به قريش في الجاهلية – والتحنث: التبرر "كلمة نصرانية" – تقول العرب: "التحنث والتحنف". وعلى لسان عبيد بن عمير: " فكان رسول الله ص يجاور ذلك الشهر من كل سنة، يطعم من جاءه من المساكين. فاذا قضى ص جواره من ذلك الشهر، كان اول ما يبدأ به، اذا انصرف من جواره، الكعبه، قبل ان يدحل بيته، فيطوف بها سبعا، او ما شاء الله من ذلك. ثم يرجع الى بيته. حتى كان الشهر الذي أراد الله تعالى فيه ما اراد من كرامته".
وتضيف السيرة الحلبية (1: 259): "وكان ذلك مما تتحنث فيه قريش في الجاهلية – أي المتألهون منهم – وكان أول من تحنث فيه من قريش جده ص عبد المطلب. فقد قال ابن الاثير: ( أول من تحنث بحراء عبدالمطلب؛ كان اذا دخل شهر رمضان صعد حراء وأطعم المساكين؛ ثم تبعه على ذلك من كان يتأله – اي يتعبد – كورقة بن نوفل وأبي أمية بن المغيرة). ولم يصح انه اختلى اكثر من شهر".
فواقع الحال في "التحنف"، من خلوة وصوم واطعام مساكين، وذلك فس شهر الصيام "النصراني" شهر رمضان، يدل على ان محمدا كان "نصرانيا" في صيامه وتحنفه. يؤيد ذلك القيام به اسوة بقس مكة "النصراني" ورقة بن نوفل. هذا دليل أول.
وكيفية تعبده تدل على ان محمد كان "نصرانيا" في تحنفه. يقول السراج البلقيني، في (شرح البخاري) كما نقلت السيرة المكية والحلبية: "لم يجىء في الاحاديث التي وقفنا عليها كيفية تعبده ص. وقال بعضهم باطعام المساكين والانقطاع عن الناس. وقيل: التفكر مع الانقطاع. وقيل: كان تعبده بالذكر. وقيل: كان يتعبد قبل النبؤة بشرع ابراهيم؛ وقيل: بشرع موسى".
وعليه يجاب: ان التعبد في الصوم والخلوة، وفي شهر رمضان، ليس من شرع ابراهيم، ولا من شرع موسى؛ انما هو عادة "نصرانية"، وبممارسة الخلوة على انفراد عادة رهبانية. نجهل جميعنا شرع ابراهيم، ولم يكن محمد قبل مبعثه نبيا ليعرف شرع ابراهيم. والقول بتعبده على شرع موسى، يجعل محمدا قبل بعثته على اليهودية، وهذا ما ينقضه القرآن كله. لقد تحنف على طريقة "النصرانية". هذا دليل ثان.
واعتماد شهر رمضان، قبل القرآن، للتحنف والصيام، دليل ثالث على "نصرانية" محمد. فعادة الصيام والخلوة في شهر رمضان، لا عهد للعرب بها، ولا اليهود. انها عادة "نصرانية" أدخلها النصارى معهم الى مكة، عند هجرتهم اليها؛ وكان يتعبد بها من "تنصر" معهم. يقول اليعقوبي في تاريخه (1: 298) " وأما من تنصر من أحياء العرب قوم من قريش" وهذا دليل على غزو النصرانية قبيلة محمد الحاكمة في مكة وكعبتها وفي تجارتها وديانتها. فتحنف عبد المطلب جد محمد، وتحنف محمد نفسه، على طريقة قس مكة "النصراني" شهادة ثابته قائمة على "نصرانية" محمد وجده من قبله. "فالنبي" العربي، بهذا التحنف "نصراني"، ابن "نصراني"، ابن "نصراني".
ولقد اختلف علماء المسلمين في كيفية تعبد محمد قبل مبعثه، بين اطعام المساكين، والانقطاع عن الناس، والتفكير، والذكر الحكيم – لاحظوا كلمة الذكر قبل القرآن!!! وفاتهم الاساس: الصيام! لقد كان تعبده بهذه جميعا. وهذه عادة رهبان النصارى في صيامهم. فكان محمد يصوم، مع قس مكة، صيام الرهبان. وهذا دليل رابع على "نصرانيته".
وطواف محمد بالكعبة سبعا، بعد جواره شهر رمضان، كطواف النصارى في الاعياد في كنائسهم أو حولها الى اليوم، كما يشهده الجميع في أحد الشعانين بختام الشهر دليل خامس مزدوج: بما ان محمدا يطوف بالكعبة مثل قس مكة، فهذا برهان على ان الكعبة لم تكن بيت أوثان كما يتوهمون ويوهمون، بل كعبة توحيد، ورسم صور المسيح ومريم العذراء والملائكه والانبياء على جدرانها من الداخل خير شاهد على انها كعبة توحيد انجيلي. وطواف محمد بها، اسوة بقس مكة، بعد جواره وصيامه وتعبده، شاهد كذلك على "نصرانية" محمد.
. درس محمد للكتاب وترتيله ليلا:-
سورة المزمل: هي من بين السور الخمس الاولى في التنزيل – لم يكن القرآن قد نزل بعد فأي قرآن يدعى محمد الى ترتيله؟؟؟؟ هل يدعى الى ترتيل "قراءة" – قرآن أو قريانا بالسريانيه والعبريه – من الكتاب المقدس حسب عادة النصارى الى اليوم في استفتاح تلاوة أسفار الكتاب في الصلاة: "قراءة او قرآن من سفر النبي فلان"؟؟؟؟؟
ففي السورة الثانيه (القلم) إشارة صريحه الى كتابة الوحي ودراسة الكتاب المقدس! فمحمد يستعلي على بني قومه المشركين بقوله: "أفنجعل المسلمين كالمجرمين؟ ما لكم كيف تحكمون؟ أم لكم كتاب فيه تدرسون؟ ...أم عندهم الغيب فهم يكتبون؟ (35 – 37 مه 47). محمد وحيد لا جماعة له بعد، فالمسلمون المذكورون هم الذين أُمر ان ينضم اليهم وان يتلو القرآن معهم (النمل 91-92)، وهو يستعلي على المشركين المجرمين بانتسابه الى اهل الكتاب "المسلمين" اي النصارى من بني اسرائيل، جماعة القس ورقة بن نوفل وعداس القسين في مكة على النصارى العرب، والنصارى الاجانب، ويستعلي عليهم بالكتاب الذي يدرسه مع هذه الجماعة وبالغيب المنزل فيه. وهي شهادة متواترة: "أم آتيناهم كتابا، فهم على بينه منه"؟ (فاطر 40) محمد عنده كتاب، وهو على بينه منه؛ " وما آتيناهم من كتب يدرسونها" (سبأ 44) محمد عنده كتب يدرسها.
ولا يكتفي محمد بدرس الكتاب الامام، بل يؤمر بترتيله في قيام الليل: "...ورتل القرآن ترتيلا...” (المزمل). لم ينزل من القرآن العربي بعد سوى عشر آيات في مطلع )العلق والقلم)، ولم يُعرف حتى يُعرّف على الاطلاق: "القرآن" المشهور. فقد اهتدى محمد الى الايمان بالكتاب (الشورى 52)، وهنا يؤمر بترتيل قرآن الكتاب: فالكتاب هو "القرآن" على الاطلاق. وقيام الليل للصلاة وترتيل آيات الله ليست عادة عربيه، ولا يهودية، بل نصرانيه رهبانيه: فمحمد يؤمر بترتيل الكتاب مع جماعة النصارى بمكة في صلاة الليل، بعد دراسة وكتابة الوحي منه. فقرآن الكتاب هو دراسة محمد، وصلاته في قيام الليل.
بل ان اهل مكة يعرفون ان محمدا يدرس الكتاب ويكتبه: " وقالوا اساطير الاوليين اكتتبها، فهي تملى عليه بكرة واصيلاا" (الفرقان 5). فهو لا يرد على هذه التهمة، انما يرد قبل هذه الاية على افتراء القرآن العربي: " وقال الذين كفروا: إن هذا الا افك افتراه! واعانه علييه قوم اخرون! – فقد جاؤوا ظلما وزورا" (الفرقان 4). فمن الظلم والزور ان ينعتوا القرآن العربي (افكا افتراه)، لكنه لا يرد على إعانة القوم الاخرين التي يؤكدها في الاية التاليه: "اساطير الاوليين اكتتبها، فهي تملى عليه بكرة واصيلا" (الفرقان 5).
فما كان القرآن العربي لينقل تهمة كتابه للكتاب الذي يصفونه "اساطير الاوليين"، لو لم تكن كتابته (اي محمد) للكتاب امرا مشهودا.
ومحمد قد "درس" الكتاب كما "يدرسه" أهل الكتاب: فيقول: :وكذلك نصرف الايات – وليقولوا: درست! – ولنبينه لقوم يعلمون" (الانعام) فمحمد لا يرد على تهمة الدرس، إنما يبين الغاية منه، وهي تبيان الكتاب!
والمفاجئة الضخمة لقاروق: ان الكعبة مسجد مسيحي قبل القرآن:-
فلو كانت الكعبة بيت شرك وأوثان لما كان القس ورقة بن نوفل، قس مكة، ومحمد قبل "بعثته"، وبعد تحنفهما في غار حراء، يطوفان بالكعبة قبل الدخول الى بيتهما. وهذا خبر عليه اجماع في السيرة، بالنسبة لمحمد نفسه.
والحوادث التاريخية تدل على تحول الكعبة الى مسجد مسيحي قبل الاسلام. مهّد لذلك تحويل الوثنية العربية الى ما يسميه القرآن "الشرك"، بفضل الدعوات الكتابية، من يهودية ومسيحية ونصرانية؛ وكان توحيدهم التوحيد الاسلامي، او قريبا من التوحيد الاسلامي ( د. جواد علي: تاريخ العرب قبل الاسلام، ج 5 ص 428).
جاء في (الاغاني 13: 109) ان سادس ملوك جرهم كان عبد المسيح بن باقية، وكانت سدانة البيت العتيق " لاسقف عليه ". وهذه الشهادة تقطع بأن الكعبة كانت مسجدا مسيحيا على زمن بني جرهم!!!
يؤيد ذلك ما رواه الازرقي، واجماع الاخباريين عليه، ان أهل مكة لما جددوا بناء الكعبة، خمس سنوات قبل مبعث محمد، رسموا على جدرانها صور الملائكه والانبياء مع صور السيد المسيح وامه. وهذه ليست عادة عربية، ولا يهودية، ولا نصرانية: انما هي عادة مسيحية. وعند فتح مكة امر محمد بمسح جميع الصور، ما عدا صورة المسيح وامه. وهذا عمل " نصراني" من رواسب اليهودية في "النصرانية".
والوضع السياسي العام يؤيد ذلك ايضا. فقد كان الحجاز تحت إمراء آل كندة المسيحين في نجد، التابعين للتبابعة المسيحيين في اليمن. وقد قُتل والد امرىء القيس، فقام سيد شعراء الجاهلية يستنصر قيصر في دم أبيه. ومنذ هذه الحادثه قام الصراع بين المسيحية واليهودية، وزاده تأججا هجرة "النصارى" الى مكة للاستيلاء على البيت العتيق، وبه على الحجاز والعرب.