نجد في القران المكي هذه الآية : ( وإذا بدلنا آية مكان آية ، والله اعلم بما ينزل ، قالوا: إنما أنت مفترٍ ! – بل أكثرهم لا يعلمون. قل: نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا ، وهدى وبشرى للمسلمين) النحل 101 –102) ؛ وقد جمع فيها التنزيل إلى التبديل ، وقرن التبديل بالتنزيل : يرد تهمة التعلم من بشر (103) ، ولا يرد تهمة التبديل بل يجعله من روح القدس مثل التنزيل .
( قالوا إنما أنت مفترٍ أي وجدوا مدخلا للطعن فطعنوا ، وكانوا يقولون : ان محمد يسخر من أصحابه ، يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غدا فيأتيهم بما هو أهون ) الزمخشري .
والتخفيف سنة قرآنية يقو بها مرارا ويشرعها كمبدأ في سورة النساء : (يريد الله ان يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ) 25-27: ( قال الكفرة : إنما أنت مفتر، متقول على الله : تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهي عنه ) البيضاوي .
ونجد في القران المدني هذه الآية : ( ما ننسخ من آية ، أو ننسها ، نأت بخير منها أو مثلها : ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ؟) بقرة 106 فالنسخ - بحسب القراءة – منسوب إلى الله أو إلى جبريل أو إلى النبي .
قال البيضاوي : ( نزلت لما قال المشركون أو اليهود : الا ترون محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه.. ونسخ الآية بيان انتهاء القيد بقراءتها أو الحكم المستفاد منها أو بهما جميعا… وإنساؤها ، إذهابها عن القلوب) .
فالقران يعترف في النسخ في بعض آياته ؛ والحديث كما سترى يروي بان عثمان اسقط المنسوخ ، ومع ذلك فالأمة تأخذ إلى اليوم بعقيدة الناسخ والمنسوخ، وتالف الكتب لبيان ذلك .
ومن غريب الناسخ والمنسوخ ( ما نسخ تلاوته وحكمه معا . قالت عائشة :( كان فيما انزل عشر رضعات معلومات فنسخن بخمس معلومات ، فتوفى رسول الله وهن مما يقرأ من القران). رواه الشيخان . وقد تكلموا في قولها( وهن مما يقرأ من القران) قال الاشعري : نزلت ثم رفعت . وقال مكي : هذا المثال فيه المنسوخ غير متلو والناسخ أيضا غير متلو. ولا اعلم له نظيرا . وقال السيوطي في إتقانه : والنسخ مما خص الله به هذه الأمة لحكم منها التيسير . وقد اجمع المسلمون على جوازه وأنكره اليهود ظنا منهم انه بداء. واختلف العلماء فقيل: لا ينسخ القران إلا بقران كقوله (نأت بخير منها أو مثلها) . وقيل : بل ينسخ القران بالسنة لأنها أيضا من عند الله . بهذا اظهر السيوطي للقران ميزتان : الأولى النسخ ؛ والثانية نسخ القران بالسنة. وينكر هذا أهل الكتاب .
وآية التبديل (النحل 101) أثارت الشكوك عند المشركين ؛ وآية النسخ (البقرة106) أثارت التساؤل حتى الكفر ) عند لمسلمين أنفسهم : ( أم تريدون ان تسألوا رسولكم كما سل موسى من قبل ، ومن يتبدل الكفر بالايمان فقد ضل سوء السبيل) البقرة 108 ؛ لقد حذرهم من تشكيك اليهود لهم في التبديل والنسخ ونسيان القران (109) ، وحسم التساؤل فيه والسؤال عنه بكلمة ذهبت مبدأ في التنزيل القراني .
ونجد في القران المكي والمدني معا الإقرار المتواتر بنسيان القران. ومما يؤيد ظاهرة نسيان النبي للوحي منذ مطلع بعثته هذا القول : ( سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله) الاعلى 6-7 . وقد قال الطبري في ذلك : اخبر انه ينسي نبيه منه ما شاء : فالذي ذهب منه هو الذي استثناه اله . وظلت هذه الظاهرة عالقة بالنبي طيلة العهد بمكة ، ففي سورة الكهف : ( واذكر ربك إذا نسيت، وقل عسى ان يهدني ربي لأقرب من هذا رشدا ) 24 ؛
وفي العهد المدني يقرر بأن النسيان يعرض للنبي ، وقد يفعله الله فيه : فنسيان الوحي ظاهرية بشرية نبوية إلهية في القران . راجع تفسير الطبري لآية البقرة .106 . ويأتي الحديث فيبين لنا هذه الظاهرة الغريبة بالأمثال ويصف كيفيتها ومداها . نقل الطبري عن قتادة : ( كان ينسخ الآية بالآية بعدها ، ويقرأ نبي الله . الآية أو اكثر من ذلك ثم تنسى وترفع) .
فمن الثابت اذن ( ان النبي أقرئ قرانا ثم نسيه كما انه من الثابت أيضا ان الله انزل أمورا من القران ثم رفعها .
وقد روى في الأخبار الصحاح أيضا بعض من القران الذي رفع: عن انس : ان أولئك السبعين من الأنصار الذين قتلوا ببئر معونة قرأنا بهم وفيهم كتابا ( بلغوا عنا قومنا آنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ! ) ثم ان ذلك رفع .
ويستنتج الطبري من الأخبار والأحاديث المتواترة عن نسيان النبي للوحي ، ورفع الله بعض ما انزل في القران فيقول : وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بإحصائها الكتاب.
فإذا كان النبي ذاته قد ينسى ما انزل اليه ، فكم بالأحرى القراء الذين لم يكونوا أنبياء معصومين ؟ جاء ان ابا موسى الاشعري قال لخمسماية من القراء بالبصرة : ( إنا كنا نقرأ سورة بطول السهم وحدها ، أما الآن فقد نسيتها ما عدا بعض آيات منها.
وهناك أيضا ظاهرة غريبة فريدة يمتاز بها التنزيل القرآني ، ولا يقول بها الكتاب ، ولا الزبور ، ولا النبيون ولا الحكمة ولا الإنجيل، الا وهي إمكانية تدخل الشيطان في تحريف وافساد الوحي والتنزيل.
قال الجلالان في حديث الغرانيق : ( قرأ النبي في سورة النجم بمجلس من قريش بعد (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى) بإلقاء الشيطان على لسانه من غير علمه به . . ( تلك الغرانيق العلا وان شفاعتهن لترتجى) ) ففرحوا بذلك . ثم اخبره جبريل بم ألقاه الشيطان على لسانه من ذلك فحزن . فسلي بآية الحج 52 – أخرجه البخاري عن ابن عباس أورده ابن إسحاق في السيرة ؛ وزاد في (أسباب النزول) : كثرة الطرق تدل على ان للقصة أصلا .
وقد يكون للقصة اصل ، قد تكون مدسوسة . وانما لمشكل المحرج ما ورد في سورة الحج تبريرا للقصة . : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي الا إذا تمنى (قرأ) ألقى الشيطان في أمنيته . فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته، والله عليم حكيم ، ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض ) .
فهذه الآية تؤكد إلقاء الشيطان في قراءة النبي ما ليس من القران !. وتؤكد أيضا ان هذا الدس الشيطاني قد جرى لمحمد ، مثلا في سورة النجم ؛ ومما يزيد الامر خطورة ان النبي لم ينتبه اليه ولم يشعر به حتى اخبره جبريل .
وتؤكد كذلك ، تعزية لمحمد ، ان هذا السهو ، وهذا التدخل الشيطاني اللاشعوري في الوحي قد حدث لسائر الرسل والأنبياء : (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي الا إذا تمنى (قرأ) ألقى الشيطان في أمنيته ). فالقضية اخطر من إمكانية ، بل هي واقع تاريخي يسجله القران على كل الأنبياء والرسل !.
وهذا الاذن الرباني الغريب بالسماح للشيطان ، بتحريف الوحي وإفساده أحيانا ، يدعمه سبب اغرب وأحرج (ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض) أتسمح فتنة المنافقين بتحريف الوحي ، ولو لفترة ؟ وهل هذا السماح الذي بعده (يحكم الله آياته ) يزيد في الأعجاز لافحام الذين في قلوبهم مرض ؟ - الراسخون في العلم يقولون : آمنا ، كل من عند ربنا) آل عمران 7.
وقد يتخذ إبليس في فتنة الأنبياء عن التنزيل الحق وتبليغه أعوانا من الناس كما جرى لمحمد ، في فتنته عن الوحي وفي فتنته بهجرة إلى الشام ارض الأنبياء :
( وان كادوا ليفتنوك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره ، واذا لاتخذوك خليلا . ولولا ان ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا . – سنة من قد أرسلنا من قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتا تحويلا ) الإسراء 73-77. وعن ابن عباس : كادوا ليفتنوك ، ليستفزوك . لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا : لقد هممت ان تميل إليهم شيئا قليلا ). قال البيضاوي : والمعنى انهم قاربوا بمبالغتهم ان يوقعوك في الفتنة بالاستنزال ، عن الذي أوحينا إليك ، من الأحكام ، لتفتري علينا غير ما أوحينا إليك . وقد قاربت ان تميل إلى اتباع مرادهم . لكن ادركتك عصمتنا.
ألم تتأخر بعض الشيء في مثل هذه المواقف التي يذكرها القران بصراحة ؟
ويزيد الأمر غرابة واستغرابا ان الله اذن في فتنة جميع الأنبياء في الوحي والسيرة آنا بعد آخر : (سنة من قد أرسلنا من قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتا تحويلا ) : أيسمح الله بفتنة أنبيائه لفتنة خلقه ؟ ! تلك سنة الله في رسله يفتن ما يشاء ويعصم متى يشاء!!.
وتبلغ الفتنة إلى العجلة في القران . ويتأسى محمد أيضا في ذلك بمثل الرسل ، وجدهم الأول آدم : ( ولا تعجل بالقران من قبل ان يقضي إليك وحيه ، وقل : ربي زدني علما . ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ! ) طه114. يطلب النبي زيادة العلم بالوحي، والقران حتى لا يعجل بتنزيله وحفظه وقراءته ، ويتأسى بمثل آدم الذي نزل عليه الوحي ، فأنساه إياه الشيطان ، وافسده عليه ، وأغرى آدم وأزله . ولذلك علم القران محمد وأمته الاستعاذة من الشيطان عند قراءة القران : ( فإذا قرأت القران فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ) نحل 98 ؛ جاء تعليم الاستعاذة بمناسبة التصريح بتبديل آية مكان آية ؛ وهذا يؤيد ما ورد في سورة الحج52 .
انه لأمر غريب ، وأيم الحق ، ان يأمر القران محمدا وأمته بالاستعاذة من الشيطان الرجيم ، قبل الاستفتاح باسم الله الرحمن الرحيم .